عندما تنامى إلى علم المشاهدين شيئاً فشيئاً أن كبار القرية قد ضُربوا في محبسهم من قبل مساعد العمدة المستبد في المسلسل المصري "عصفور النار" عددتُ ذلك حينها من مفاجآت الكاتب الفريد أسامة أنور عكاشة التي يحب أن يُخبئها لمشاهدين تعوّدوا أن يجلسوا في أمان أمام شاشات التلفزيون العربي يمتحنون قدراتهم على التنبؤ بين بضعة خيارات متاحة أنِست الرقابة العربية - على كل صعيد - بأن تبقيها في أضيق الحدود الممكنة حرصاً على سلامة أفكار الجماهير. وبتجاوز أيادي الرقابة العربية - الحانية على قلوب جماهيرها والمفرطة في قسوتها في الإبقاء على قدراتهم الإبداعية قيد الإقامة الجبرية - تبيّن لي بعد حين أن المؤلف الدرامي الجريء لم يصدم مشاهديه حينها بالممكن في نطاق الخيال وإنما بالمتاح على أرض الواقع مما نغمض أمامه أعيننا، ليس بفعل الرقابة العربية وحدها هذه المرة بل مضافاً إليها محاولات مستميتة على النطاق الإنساني لتحسين صورتنا نحن بني آدم في الوجود. بقراءة سيرتنا في الحياة مجرّدة من أية رتوش يتبيّن أننا لم نصل بعد إلى ما نستحق عليه الوصف "إنساني" الذي نجتره باستمرار على نحو من الفخر والسمو يدعوان إلى الاشمئزاز، فجنايتنا بعضنا على بعض وفي حق كوكبنا وكل ما فيه من الموارد الحية وغيرها لا ينحط إلى دركها كائن ما كان من حيوانات الغابة، فإذا كان ذلك بفعل الآلة التي ننفرد بها ونسميها "العقل".. فتباً للعقل. لا توجد ثقافة فيما أعلم تجاهر بغير تبجيل الكبار.. "العجايز" تحديداً، وإن كانت ثقافتنا تزايد في ذلك بالحق والباطل، ولا أعني بالباطل سوى مبالغاتها بما يصرف النظر عن الضعف الإنساني الذي لا يجعل سلوكنا إزاء "عجايزنا" متّسماً بالمثالية على الدوام.. بل حتى لأوقات أقصر من ذلك بكثير. وثقافتنا لا تزال في خلسة، وأحياناً عياناً جهاراً، تؤمن بأن الضرب من وسائل التأديب الناجعة والمطلوبة بشدة في مراحل العمر الباكرة بسبب فاعليته المذهلة. والواقع أن ضرب الصغار هو أقرب طريق إلى الإيصال إلى الهدف ممثلاً في زجر الطفل عن فعل أو قول جرؤ على أي منهما وكان مفترضاً منه عكس ذلك، أو تقريعه على فعل أو قول لم يأت أيّاً منهما وكان مفترضاً منه عكس ذلك أيضاً. ولكن ضرْبَنا صغارَنا ليس سوى حيلتنا في التعبير عن ضجرنا والإفصاح البدائي عن نزقنا قبل أن يكون دلالة على مثالية مزعومة في التنشئة من باب اختلاف وجهات النظر سواء بين الثقافات المختلفة أو الأجيال المتعاقبة داخل الثقافة الواحدة. وإذا كان الغرب قد تجاوزنا إجمالاً في تهذيب الصغار من غير الحاجة إلى ضربهم، فإنه قد تجاوزنا أيضاً في تهذيب المارقين على القانون من غير الحاجة إلى تعذيبهم، وربما كان الضرب هو الوسيلة الأخف من بين أشكال التعذيب المادي.. لكنه من الوسائل الأكثر إهانة على الصعيد المعنوي كما هو معلوم. غير أن الخوف من الضرب حق مهما يكن عمر الموجّهة إليه الرسالة، وعلى عكس ما نظن فإن الخوف من الضرب أقوى عند الكبار لا يقيهم منه سوى إحساسهم بأنه أبعد تحققاً مما هو عليه الحال مع صغارنا المساكين الذين لا يزالون على موعد لا يُخلف مع العقاب الناجع كلما أمِروا فأخفقوا في الإذعان. الخوف من الألم والإهانة أحدّ وأعمق من رغبتنا في إيصال خدماتنا للآخرين مقابل الثناء محضاً أو حتى بمقابل مادي معلوم ومجزٍ، وفي هذا ينتصر الترهيب على الترغيب. والترهيب أسبق على الدوام في الرسائل الموجّهة لمن يُرجى منهم الانصياع إلى فكرة أو إنفاذ أخرى، وكثيراً ما ينحصر الترهيب في الحرمان مما يحصل عليه من يستجيب لرسائل الترغيب فيكون في ذلك الحرمان ما يكفي من الزجر دون الحاجة إلى مزايدات من العقاب الصريح تحمل في طياتها لواعج الترهيب مجرّداً. وإذ لا جدال في أن الغرب قد فاتنا حضارياً بصفة عامة، وفي جملة ذلك الانحسارُ الواضح للضرب في ثقافة التنشئة والتقويم لدى الصغار والمارقين هناك، فإن الواقع يرجح أن الغرب قد بات أوفر حيلة في إنفاذ معنيَيْ الترغيب والترهيب ليس إلا، وتكاد تلك الطريقة في التحايل على إنفاذ المعاني تختصر مفهوم الحضارة في كثير من الأحيان فيما يتعلّق بالمنجز المعنوي القابل لكل تفسير على الأطراف المتناقضة للأفكار والقيم. من يعتنق الترهيب مذهباً لا ينظر إلى سن الضحية بكبير اعتبار، فالمهم في النهاية لدى ذلك الصنف من البشر أن "يسمع الناس الكلام". ولكن الأدعى إلى التأمل أن ترهيب الكبار في السن غالباً ما يكون من قبل من يماثلونهم عمراً، وعليه فإنه ليس بإمكاننا أن ننعى في هذا المقام سوء الأدب تجاه المسنين بوصفه جريرة غيرهم وحسب. في انتظار النسخة الموعودة من حضارة "إنسانية" بالمعنى المتشدَّق به منذ أزل الوجود الفكري لبني آدم، تظل كرامة الإنسان أكذوبة كبرى ما دامت قواميس مشاعرنا تتسع لمعاني الخوف من لهيب السياط الناجعة يقف الناس إزاءها سواسية كلما اقتضت الضرورة.. لا يشفع لمارق منهم مقامُه بين الناس إن بفعل مكانة اجتماعية أو التقدُّم في العمر إلى ما دون أرذله بيسير مما يغري بالمشاكسة والمرءُ يحمل على كاهله لقب عجوز.