كانت وماتزال منطقة القرن الإفريقي حقلا خصبا لحراك وتفاعل سياسي وعسكري وأمني واقتصادي كثيف وبعد أن كانت المنطقة منزوية في ظل مسرح الأحداث في القارة الإفريقية والعالم لفترة طويلة ولا تطفو لسطح الأحداث إلا نادرا مع أخبار المجاعات التي تضربها كل فترة. تلك التحولات المتسارعة تم رصدها وتحليل تأثيرها على الأوضاع في السودان في ندوة أقامها مركز دراسات المستقبل والتي استضاف فيها أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمختص في الشأن الإفريقي د. حمدي عبد الرحمن وأستاذ العلوم السياسية بجامعة إفريقيا والمختص في شئون القرن الإفريقي د. عبد الوهاب الطيب في محاولة منهم للغوص في هذه القضية التي تعتبر من أعقد الملفات التي تواجه العديد من الدول ومنها السودان. تعريف متنامي قبل الدخول في حيثيات الموضوع لجأ مقدم الندوة الأستاذ ربيع حسن احمد لوضع تعريف لمنطقة القرن الإفريقي جغرافيا حيث قال إن النتوء البارز شرقي القارة الإفريقية وشمل سابقا الصومال وجيبوتي وإرتريا وإثيوبيا لكنه الآن صار يشمل السودان (شماله وجنوبه) وكينيا وتنزانيا ، وأن المنطقة اكتسبت مؤخرا أهمية دولية بدليل وجود قطع بحرية عسكرية لسبع عشرة دولة قبالة سواحل القرن الإفريقي بالإضافة للوجود الملحوظ للقواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية في جيبوتي. وبحسب التعريف الامريكي للمنطقة الذي يتحدث عن " القرن الإفريقي الكبير" الذي شمل (راوندا والكنغو ويوغندا وبورندي ومصر) ، وأشار الى أن المنطقة وفي ظل التطورات المتسارعة أصبحت وكأنها تعاني تجاهلا بحثيا مما يتطلب الاهتمام بمزيد من الدراسات عنها. متغيرات الاستقلال فيما اعتبر أستاذ العلوم السياسية بجامعة إفريقيا والمختص في شئون القرن الإفريقي د. عبد الوهاب الطيب أن استقلال جيبوتي بمعزل عن باقي الصومال كان من أهم المتغيرات التي مرت بالمنطقة وذلك لما لمكونات جيبوتي العرقية (الإسحق ، العفر، وغيرهم) خاصة في ظل وجود التداخل بين الصومال وإرتريا وإثيوبيا وأثر ذلك في علاقات دول الإقليم ، وأصبحت بذلك جيبوتي كميناء كبير بالنسبة لإثيوبيا في ظل ضعف عدد سكان جيبوتي البالغ مليون نسمة. ثم عرج بعد ذلك على متغير كبير آخر وهو استقلال إرتريا عن إثيوبيا عام 1993 م والأدوار المناوئة التي ظلت تقوم بها إرتريا في المنطقة بعد الاستقلال الأمر الذي أهلها بالإضافة لموقعها الإستراتيجي وما تملكه من سواحل يبلغ طولها ألفي كلم، لتكون بمثابة دولة شبه محورية الى جانب السودان وإثيوبيا ومصر بعد أن كانت دولة مناوئة يبلغ حجم سكانها خمسة ملايين نسمة. وعد عبد الوهاب أنه بانفصال جنوب السودان عن شماله وإعلان دولته المستقلة محطة تغيير جوهرية لمسار الأحداث بميلاد دولة أساسية في منطقة القرن الإفريقي في ظل الثروة النفطية والعلاقة مع إسرائيل، مع كونه دولة مغلقة لا تملك منافذ بحرية وتعاني من الاقتتال القبلي. التحول في إثيوبيا وأشار الى أن التغيير الثاني الذي حدث في القرن الإفريقي جاء بصعود جبهة التقراي وشركائها للسلطة منذ انتخابات عام 1995 ومرورا بانتخابات 2000 و 2005 و2010 م بعد أن أسقطت مع آخرين نظام منقستو عبر العمل المسلح معتبرا أن هذا التحول ليس مجرد تحول ديمقراطي وتعددي نادر فحسب بل انتقال وتغيير جذري لمراكز السلطة التقليدية التي حكمت إثيوبيا منذ القرن الرابع الميلادي والمتمثلة في القومية واللغة الأمهرية مقرونة مع الديانة الأرثوذكسية والسلطة الإمبراطورية القائمة عليها، والتي اعتبر عهد منقستو الشيوعي مجرد امتداد عسكري لها وأن السلطة انتقلت بعد وصول الجبهة الحاكمة التي قوامها التقراي الذين هم أقلية ضئيلة بتعدادهم البالغ خمسة ملايين نسمة وسط عشرة ملايين من الأمهرا وأربعين مليون من الارومو وعشرين مليون من الشعوب الجنوبية الإفريقية المتعددة . كما أشار عبد الوهاب الى الدور المركزي لإثيوبيا في القرن الإفريقي في ظل كثافتها السكانية الضخمة (90 مليون نسمة ) إرثها الحضاري الموروث بالإضافة لحدودها المطلة على كل دول القرن رغم ما تعانيه من نقطة ضعف بائنة في فقدانها المنفذ الخارجي على البحر بعد استقلال إرتريا. الحالة الصومالية واعتبر د. عبد الوهاب أن مصطلح عدم وجود دولة هو التوصيف الشائع للوضع الصومالي لكنه يفضل استخدام "الحالة الصومالية" لأن الوضع معقد أكثر أن يوصف كذلك في ظل وجود دويلتين شبه مستقلتين في شمال الصومال بالإضافة لتجربة المحاكم الاسلامية، مشيرا الى أن الصومال استمد أهميته من أن القومية الصومالية الممتدة في إثيوبيا وكينيا وجيبوتي وإرتريا هي أساس التعريف البسيط للقرن الإفريقي ، بالإضافة للسواحل الممتدة بطول ثلاثة آلاف كلم على أهم المواقع الإستراتيجية في المنطقة. ولاحظ عبد الوهاب أن الحالة الصومالية تفتقر للدراسة والبحث بصورة واضحة فبينما يرفض الصوماليون الكينيون العودة للدولة الأم بعد أن صاروا رقما مهما في المعادلة السياسية والإقتصادية لكينيا، فإن أغلب تدخلات إثيوبيا في الصومال ناتجة من تخوف إثيوبيا من توحد إقليم أوغادين ذو الأغلبية الصومالية مع الوطن الأم ، كما أن الشخصية الصومالية الشبيهة بالأفغانية من حيث عدم حدوث استقرار سياسي فيهما تاريخيا والبعد الديني المؤثر في العنصر الصومالي يحتاجان لدراسات إنثروبولوجية وافية. واعتبر أن بروز الحركات الإسلامية الراديكالية في الصومال بقوة ووصولها للحكم مرة ووجودها القوي كمعارضة مسلحة وتوحيدها للصوماليين هو التغيير الحديث الأبرز في الحالة الصومالية والذي سينعكس على كل القرن الإفريقي ويؤثر فيه بصورة جوهرية، بالإضافة لتفشي وتمكن ظاهرة القرصنة البحرية التي أصبحت تهدد التجارة الدولية بصورة غير مسبوقة. القرن الأمريكي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمختص في الشأن الإفريقي د. حمدي عبد الرحمن نبه لضرورة قراءة التاريخ والتطورات من منظور ذاتي إفريقي وعربي وإسلامي واعتبر أن ذلك سيكون مدخلا للوصول لحلول لقضايا المنطقة وتحقيق مصالحها لأن التاريخ الإفريقي بشكل عام تعرض لعملية تشويه متعمدة من قبل الغرب شاملا المدرسة الأمريكية والماركسية ، وأوضح أن عملية التحليل السياسي تقوم بغرض القدرة على الفهم وأن هذه العملية تواجه بالفشل حال الاستسلام لمسلمات النموذج المعرفي الغربي السائد والمصطلحات الناتجة عن المدرسة الغريبة، وأوضح حمدي أن مصطلح القرن الإفريقي الكبير ظهر في الأدبيات الأمريكية المعاصرة بعد صعود اليمين الأمريكي وظهور أدبيات ما يعرف بالقرن الأمريكي الذي يقوم على إحداث تغيير جيوسياسي في العالم غير الأمريكي لمصلحة الغرب ، وأنه بالتوازي مع هذا التغيير تمت صياغة مفاهيم معرفية لخدمة التغيير. الفك والتركيب وأوضح د. حمدي أن الحديث عن التدافع الجديد في إفريقيا قصد به تقسيمها لتكتلات جديدة عبر إضافة وحذف مكونات الكتل القديمة باستخدام آلية الفك والتركيب مما يؤدي لنشوء كتل جديدة تخدم المخطط الغربي ، مثل ضم دول الشمال الإفريقي العربية الإسلامية في كتلة الشرق الأوسط الكبير وأن أهم ملامح هذه العملية أنها تأتي خصما على ميزان قوة الدول العربية والإسلامية المتمثلة في السودان والصومال ومصر ، كما يلاحظ حدوث عسكرة لعمليات الفك والتركيب بعد الحادي عشر من سبتمبر عبر دعم الأقليات الحاكمة في القرن الإفريقي عسكريا وزيادة التواجد العسكري الغربي في القرن الإفريقي. وضرب لذلك مثلا في عملية بلقنة الجزء المتبقي من الصومال مع احتواء واحتلال الأجزاء الأخرى منه لصالح التوسع الإثيوبي والكيني، ودعم إثيوبيا اقتصاديا بمشاريع السدود والزراعة لتكون بمثابة الدولة المحورية في المنطقة بديلا للسودان بعد إضعافه وتحوله لدولة غير محورية بفقده للجنوب، وإعادة إحياء تجمع شرق إفريقيا وبروز كينيا كقوة اقتصادية فيه رغم رفض عضوية السودان الشمالي مع قبول عضوية السودان الجنوبي. غفلة مستمرة وأشار الى أن الإشكال الأكبر متمثل في عدم وجود تيار أو مدرسة من المختصين في هذا الشأن الحيوي في الدول العربية بما يمكن من إحداث تغيير في المواقف والمفاهيم للنخب حتى تتحقق المصلحة العربية ، وأن الموجود في الساحة لا يتعدى مجرد كتاب أعمدة مهتمين بشئون القرن الإفريقي، وضرب مثلا في ذلك بمقولة الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي قال إنه يتفهم الغزو الإثيوبي للصومال وإطاحته بحكم المحاكم الإسلامية الأول عام 2006 م ، رغم أن فترة حكم المحاكم هي الوحيدة التي شهدت استقرارا وانتعاشا في الصومال منذ سقوط نظام سياد بري، والمثل الآخر الذي ضربه حمدي هو الصمت العربي والإسلامي المحير لاجتياح كينيا الأخير للصومال بحجة مطاردة مقاتلي حركة الشباب المجاهدين، وكأن الصومال ليس جزءا من العالم العربي رغم أن الهدف المعلن للغزو الكيني لجنوب الصومال يتجاوز إقامة منطقة عازلة الى احتلال ميناء كسمايو. وكشف حمدي أن هذا هو أول مرة يتدخل فيها الجيش الكيني في عمليات قتالية خارج أرضه وأن قرار التدخل اتخذ منذ العام 2010 م أي قبل أحداث حركة الشباب الأخيرة مع كينيا مما يدل على أن القرار نابع عن مخطط إستراتيجي يستهدف القوى الإسلامية مهما اختلفنا معها. في ختام الندوة توقع د. حمدي عبد الرحمن استمرار حالة غياب الوعي العربي بخطورة تأثير ما يجري في القرن الإفريقي على الأمن والمصالح القومية العربية، وذلك لانشغال النخب بالثورة لكنه حذر من أن يؤدي ذلك الى محاصرة مصر جنوبا عبر المياه وغيرها لتجد الثورة نفسها وقد تحولت لثورة مستأنسة مثل ثورات دول أوربا الشرقية. كما نبه حمدي الى أن نتائج الحملات العسكرية على الصومال قد تكون عكسية، فالغزو الإثيوبي الذي برر اجتياح الصومال للقضاء على المحاكم الإسلامية كانت نتيجته عكسية أدت الى بروز حركة الشباب المجاهدين الأكثر راديكالية من المحاكم. وأدى لحالة من التفاف الشعب الصومالي حول حركة الشباب التي أصبحت رمزا للتحرر من المحتل الإثيوبي.