خمسة شهور طويلة مرَّت ليلة.. ليلة مع الدمعة الهميلة اسمح لي اشوفا يا ضابط السجن اتزود بنظرة.. وارجع اتحرم السجن كلمة تقشعر لها الأبدان وترتعد لها الفرائص.. لكنه يبقى مجالاً واسعاً للتحاور والجدل.. أهميته والحاجة إليه.. إمكانية إلغائه والاستغناء عنه، ولو مؤقتاً مثلما تفعل بعض الأنظمة مرات وإلى حين، ويستمر التناظر فيما يسمح به في السجن وما لا يسمح به.. هل السجن بناء، أو قل إعادة هيكلة، لمن تنكب الطريق وضلَّ مساره أم أنه تنفيذ حكم وكفى.. بغض النظر عن نتيجة هذا الحكم التي قد تصل إلى تدمير نفسي وإعدام معنوي، واختصاراً.. هل السجن عقاب أم إصلاح؟؟ وسيلة أم هدف؟؟ أمور كثيرة تتعلق بالسجون وشؤونها وبحوث وتطبيقات عديدة في ذات المنحى تهدف إلى تحسين وتأكيد الفائدة من السجون حتى يعود من يدخلها، مذنباً، إلى مجتمعه، من جديد، تائباً وحريصاً على المسلك السويَّ القويم ولا شك عندي أنَّ هذه البحوث والتطبيقات قد أثمرت كثيراً في تقويم العديد من الحالات لكنني، في الوقت ذاته، لا أستطيع أن أنكر أن بعض الحالات كانت النتائج فيها جد سلبية.. عناداً من نزيل أو ردَّة فعل منه إزاء ظلم قد حاق به، وهذه الأخيرة، نقطة أحسب أن سلطات السجون لا تهملها.. فليس كل من يأتيهم نزيلاً يكون مذنباً بالضرورة ويبقى تعامل الأخصائي الاجتماعي هنا في إزالة مرارة الإحساس بالظلم ودحر كل مفهوم لدى النزيل بأنه مستهدف ومستقصد. لا أريد الخوض في البحوث والتطبيقات والإجراءات، لكنني وددت أن أتناول الأمر من زاوية مختلفة.. فالسجن، في نظري، إحساس يتلبس الإنسان، أو يتلبسه الإنسان لا فرق، ويتغيّر ويتبدَّل هذا الإحساس بالمكان والزمان.. هو كالغربة التي قد تكون داخل الوطن كما أشار إليها مبدعنا المرهف الطيب عبدالله : في الدنيا ناس الحب شقاها وغلَّبا خلاها فى جوة الوطن متغربة أو كما ذهب إليه فيثارة الفن والنبوغ ود اللمين :- إلاَّ الغربة نتغرب نخلى ديارنا نمشى ديار ما نحن الليلة متجاورين وعايشين غربة جوة الدار فالسجن ليس تلك الجدران العالية التي تعلوها الأسلاك الشائكة والحراس الأشداء الذين تتوالى خطواتهم جيئة وذهاباً ممسكين بتلابيب كل المداخل والمخارج.. بل قد يكون غير ذلك.. والسجن لا يمكن أن نعتبره مصادرة للحرية.. بل هو تقييد لها.. وهذا التقييد لا يكون بالسجن فحسب إذ إن هناك أسباباً وعوامل شتى يمكن لها تقييد الحرية والحركة. والسجن يُرعبُ ويُرهب بأسبابه فهذا هو سيدنا يوسف عليه السلام يناجي ربه بأنَّ السجن أحبُّ إليه مما يدعونه إليه.. فهو يدخل السجن برغبة.. ليخرج منه معززاً مكرَّماً. وكثيرون دخلوا السجن وأفادوا من فترته فمنهم من خرج كشخصية عالمية تلقى من التقدير والتبجيل ما يفوق الوصف حيثما ذهبت مثل غاندي ومانديلا اللذين أفادا من السجن في السمو بالنفس بالمزيد من الإحساس بالآخر والمزيد من التواضع. وهناك من أفاد من فترة سجنه واعتقاله بالاطلاع والتأليف أو الحفظ لكتاب الله. ولئن رأى شاعرنا محمد حامد آدم في سجنه حرماناً له من رؤية محبوبته فكان حسابه لها ليلة بليلة وانتهى أمره إلى استجداء ضابط السجن ليسمح له برؤية محبوبته فإن شاعراً آخر أثرى الأغنية السودانية بكم هائل من الإبداع هو محمد عوض الكريم القرشي رأى في احتجازه في أحد أرقى المستشفيات بغرض العلاج سجناً.. كيف لا وقد جاء العيد دون أن تأتي الزهور أو البدور: سجنوني في داخل قصور وقالوا عيان لي شفاك ندور على أن هناك نظرة أخرى للسجن عند بعض القبائل التي لا تزوج الفرد منها إلا إذا سرق، إبلاً أو غيرها، وألقى القبض عليه و "ضاق" السجن بسبب هذه التهمة التي يعتبرونها عملاً بطولياً. ولنا أن نسترسل مع الطيب ود ضحوية شاعر الهمباتة الشهير والذي كانت "الهمبتة" في مفهومه رجولة و "فرسنة" كان الطيب قد تمكن وصديق له، اسمه الصديق ود حيدوب، من الاستيلاء على بعض الإبل وسافر بها الصديق ود حيدوب إلى أمبابة حيث باعها واشترى بثمنها سلاحاً عاد به لكنه قبض عليه ومعه السلاح وأودع سجن عطبرة. جاءت الأخبار للطيب ود ضحوية مع إنذار له بالابتعاد عن عطبرة حتى لايكون مصيره السجن.. لكن الطيب كان له رأي آخر لخصه فيما أنشد: الخبر الجاني قال الصديق متربس جوَّة منُّو أنا ما بقيف حتُ ان بقيت فى هُوَّة ان طال الزمن ما بننسى شرط الخوّة كبَّاس للدهم ساعة البقول يا مروة وذهب وسلم نفسه للسلطات وظلَّ كل منهما يدعي بأنه سارق الإبل وصاحب السلاح لدرجة أعيت المحققين وأضاعت عليهم. ولجدي علي النعيم قصة طريفة مع سجن شندي الذي دخله وقد كان يعمل في "الحشرات" التي قلنا في مفكرة سابقة إن اسمها قد أبدل لوقاية النباتات. كُلِّف أبو النعيم ومن معه من "التيم" برش أحواض الري بالمزارع والحواشات بدواء معين وشاء الله أن تشرب بعض البهائم من تلك الأحواض فتنفق ولم يعرف السبب هل هو في التركيبة فيكون خطأ المصلحة أم في الكمية فيكون خطأ العمال. المهم أن العمال أدينوا ودخل أبو النعيم حفيد المك إلى السجن وفي ذلك يقال: لوكي الصبر يا نفس كوني صميمة ومكتوبة الجبين لابد من تتميمة ما بهم السجن لو كان يكون لي ديمه سنة أنبياء ومافيه ليَّ ذميمة ويزوره حمدان شاعر الجعليين الشهير ويسأله حاله فيرد أبو النعيم:- غذانا تملِّى بالناشفة الكتير بُتانا ومن أكل الفطير أعضانا زاد وتابا قانون السجن مانع السجار والتابا والحال العلينا إن شاء الله حال التابا ويجيبه حمدان: على أبو النعيم لوك الصبر لا تابا وتمس حزين وتصبح بيه خاطرك طابا "الحشرات" تهدم وتترفد كتَّابها شجرة خيرها تنحت تعدم الورتابا ويبدو أن السيد أوباسانجو سيكون ضيفاً هل تذكرونه نائب رئيس نيجيريا الذي جاءته الرئاسة بعد وفاة قائد الانقلاب مرتضى محمد فما كان من أوباسانجو إلا أن سلم الحكم للمدنيين وأصبح ذا نشاط طوعي يشارك في مؤتمرات ولقاءات دولية وانتهى به الأمر سجيناً بتهمة تدبير انقلاب.. من السجن أرسل رسالة إلى الرئيس النيجيري أباشا يقول فيها إنه نادم كثيراً لأنه لم يهتم بالسجون، إبان رئاسته، بالقدر الكافي لهذا وجدها في حالة يرثى لها حينما جاءها نزيلاً لهذا فهو ينصح الرئيس أباشا الاهتمام بها لتكون في مستوى طموحه إذا دارت الدائرة عليه. ترى هل المقصود أباشا فقط؟ وهل مازال هناك من سيطلب من أهل بيته، إذا قام انقلاب، إعداد الحقيبة استعداداً للذهاب للسجن طوعاً واختياراً؟.