وتتزاحم الصور النضالية وتتجلى كل معاني التضحية والفداء ونحن نعيد شريط تلك الأيام الوطنية أيام الاستقلال، وتكتمل صور الشهامة والكبرياء عندما نعلم أن الاستقلال كان نظيفاً كما أراد له أصحابه مثل "صحن الصيني لا فيهو شق ولا فيهو طق". وجاء استقلالنا نظيفاً بلا إرتماء في أحضان المستعمر وأحلافه ومنظماته وتنظيماته وبلا عضوية في دول الكمنولث البريطاني وبلا شروط أو إرتباطات تكبل أعناقنا. وكان الاستقلال ولا يزال هو البوابة التى ولج من خلالها الحكم الوطني مدنياً كان أو عسكرياً ديمقراطياً أو شمولياً. ونحن نتحدث الآن عن حكومة "القاعدة العريضة" وكأنها إختراع أو إكتشاف جديد في السياسة السودانية ولكننا نقول ويحدثنا التاريخ أن الحزب الوطني الاتحادي قد سبق المؤتمر الوطني بنصف قرن من الزمان عندما حاز على أغلبية برلمانية تمكنه من الحكم منفرداً ولكنه آثر ان يعطي المعارضة ما يصل إلى 40% من المقاعد الوزارية وهو الذي فاز عبر انتخابات حره ونظيفة ونزيهة مثل الاستقلال أيضاً لا فيها شق ولا فيها طق. والوطني الاتحادي وهو يشارك المعارضة في الحكم رغم أغلبيته المريحة إنما يضرب المثل ويكرس للاخلاق السودانية التى ترفض الاستحواذ وتنأى بنفسها عن الهيمنة والإحتكار والتمكين وكل المفردات النرجسية التى لا تعرف إلا أصحابها فقط، ولعل رجالات الحركة الوطنية في ذلك الزمن كانوا يرفعون الشعارات السودانية والمثل والاخلاق الفاضلة والتى نقول "الداب نفسو مقصر" وهو الشخص الذي لا ينظر إلا إلى نفسه فقط دون مساحة أو اعتبار للآخرين في انانية بغيضة ترفضها الممارسات السودانية التى تقوم على مبادئ التكافل والتعاضد وإقتسام الطعام. وكانت الحكومة الأولى تعمل بتنسيق تام بين كل مكوناتها ودون ان يعرض الوطني الاتحادي برنامجه على الوزراء والمشاركين الآخرين وكان الكل يشارك في التخطيط والتنفيذ والسودنة دون إملاءات من الوطني الاتحادي صاحب الأغلبية الحقيقية التى حاز عليها بتفويض حقيقي من الجماهير السودانية. ولا نريد أن نكتب ونذكر بمجاهدات رجال الحركة الوطنية التى حققت الاستقلال وكيف إنهم فارقوا هذه الدنيا فقراء كما دخلوها أو كما أرادوا ان يكونوا مثالاً للطهر والنقاء وطهارة اليد ولم يكن عرض الدنيا الزائل أكبر همهم ولا مبلغ علمهم ومعظمهم قد خرجت جنازته من "منزل الإيجار" بعيداً عن القصور الشامخة والغابات الأسمنتية في الأحياء الراقية. وإذا كنا فعلاً نود الاحتفال بهذه المناسبة الكبرى ذكرى استقلال البلاد فعلينا أن نقتفي آثار هؤلاء العمالقة الذين أسسوا تأسيساً قوياً للحكم الراشد الرشيد ووطدوا أركان النزاهة والعدل والقدوة الحسنة ولم نقرأ أن أحدهم قد تجول في دهاليز الفساد ولم يحدثنا التاريخ أن أحداً منهم قد تسلط أو تجبر أو طغى وصعر خده للناس وكانوا يضعون الوطن والمواطن نصب أعينهم وهمهم الأول متناسين ذواتهم وأسرهم بحثاً عن كل ما يرفع مكانة هذا البلد الذي لاقوا ما لاقوا حتى تحقق لهم ما أرادوا وأراد لهم شعب هذا الوطن الذي أولاهم كل ثقته وكانوا عند حسن ظنه. ولا نريد أن نكتب عن ما جرى بعد ذلك حينما "إنقضت" الجماعات العسكرية التى قامت من نومها ولقت كومها" دون أن تبذل مجهوداً في استقلال هذا الوطن ولا تعرف ولم تشارك ولم تشترك في المجاهدات التى أدت إلى الحرية والانعتاق. ونحن لا نريد أن نبكي على اللبن المسكوب ولا نود أن نخوض في التجارب التى أعقبت استقلال هذا الوطن الغالي ولا نرغب في ان "نعيش بعض الماضي" ولكننا نطالب أن نستلهم العبر والدروس من ذكرى الاستقلال وعلينا أن نقرأ الخارطة الوطنية جيداً بعيداً عن الإنتماءات الضيقة والتي لا تسع ولا تتسع الا لرغبات أصحابها فقط وفوق هذا وذاك علينا أن نحاول السير في دروب هذا الرعيل الأول الذي كان ينذر نفسه لخدمة الوطن والمواطن بعيداً عن مطامع النفس الإمارة بالسوء، لم يحدثنا التاريخ ان أحداً من جال الحركة الوطنية عندما تولوا السلطة قد خلطوا وجمعوا بين الوظيفة والعمل التجاري لأنهم أصلاًَ لا يعرفون ولا يجيدون غير العمل الوطني فقط ولم يستغلوا وظائفهم ليعزز عليهم نفوذها بصفقة أو ربح أو تجارة ولم يطلقوا العنان للأقارب والأصحاب ليسرحوا ويمرحوا وفق مزاجهم إتكاءاً واختباءاً وراء قريبهم النافذ في الحكم لانهم كانوا يخافون غضبة هذه الجماهير التى حملتهم إلى الكراسي وكانوا يتعاملون مع كل جماهير الشعب السوداني وكأنهم الاخوة والإصهار والأقربون ولا فرق بين سوداني وسودانية والكل لهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات. والاستقلال سادتي مناسبة للوقوف مع الذات وجرد حساب الماضي واستلهام لكل المعاني الوطنية. ونحن نفقد ونفتقد هذا العام جزءاً عزيزاً غالياً من أرض الآباء الاجداد علينا ان ننظر خلفنا في ثقة ونواجه كل الأزمات والقضايا العالقة التى تحاصرنا ويمسك بعضها برقاب بعض ومعظمها إن لم يكن جلها من صنع أيدينا ونحن قادرون على تجاوز كل أزماتنا ومشاكلنا لو عقدنا العزم وخلصت النوايا فنحن الشعب الذي علم كل جماهير العالم معاني الكبرياء والتسامح والتحدى. أخيراً نقول حتى لا تمر علينا ذكرى الاستقلال ونحتفل بها وكأننا نحتفل بعيد "رأس السنة" علينا أن نتدبر أمورنا برؤية هادفة وعزم أكيد وهذا وطن يسع الجميع وأكثر لو تعرف قيادات هذا الوطن حاكمة ومحكومة، أملنا أن يكون العام القادم عاماً للسلام والتسامح والسمو فوق الصغائر. يس عمر حمزه