وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحزان رابضة .... وأفكار نابضة في رحاب العبقرية السودانية الصميمة


في رحاب العبقرية السودانية الصميمة
عبد المنعم أحمد الشاذلي
وحدة الترجمة، كلية الآداب، جامعة الخرطوم
صباح الخير أيها القارئ الكريم؛
في يوم الثَّلاثاء 4/2/2014، حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً انتقل والدي الشيخ/ أحمد محمد الشاذلي إلى الرفيق الأعلى. وقد كان وقْعُ فقدِه علينا وعلى من يعرفه حقاً كما قال الشاعر:
جبلٌ هَوَى لو خرَّ في البحرِ اغْتَدَى من وَقْعِهِ مُتتابِعَ الإزبادِ
على أنَّ الرجل رحمه الله مواطن سودانيٌّ كغيره من مواطني هذه البلاد وليس في انتقاله ما يدعو إلى كتابة مقال من المقالات، لولا أنَّ شخصيته فيها ما يستحق الكتابة عنه إلى جمهور الفضلاء من بني وطني، وفيها ما يدعو إلى مشاركة القراء الوقفة فيها والتأمل.
فأول ما أذكره هنا وبإعجاب حقّ أنَّ هذا الرجل لم يتلق من التعليم النظامي شيئاً، بل ولم يكمل تعليم الكُتَّاب، وكان أن فقد والديه جميعاً وهو صبيٌّ صغير، ولم يكن له من الأشقاء سوى أخ واحد، وعدد من الإخوة والأخوات لأب. فتولى رعايته جدته لأمه، وخاله غيرَ أنه مع ذلك كله تجمعت في شخصيته قيم ومناقب فاتت كثيراً ممن تلقى أعلى مراتب التعليم وتوفرت له رعاية الوالدين جميعاً، وهنا مكن المفارقة الخالصة. فالرجل كان معروفاً بصفاتٍ عزَّ أن تتجمَّع فيمن توفَّر على درجات عُلَىً في التعليم. فقد كان شخصية عليمةً ومعتدة بنفسها، فلم يكن للخرافة حظٌّ ولو بخساً من عقله، وكان نفوراً وساخراً من المبالغات وخوارق ما يُنْسَبُ إلى البشر، بعيداً عن التمسك بالأمانيِّ، شديد اليقين في الإرادة الملهمة ومؤمناً بضرورة الحركة والفعل الذي تستكن وراءه الأسباب الموجبات له، فهو كان مشدوداً إلى الواقع والعقل، لا يتجاوزه بالأمانيِّ والترهات، يحسب لكل شيء حسابه. ومتى التبست الأمور، جلَّاها برأيٍ راشد يجيئه مثل فلق الصبح، تاركاً غيره يتلجلج في الرأْىِ الدَّبَري. وأبرز ما كانت تتصف به شخصيته أمران: أنه كان رجلاً ماضياً، لا يعرف التردد، على حدِّ قول المتنبِّي:
إذا كان ما تَنويْهِ فعلاً مُضارِعاً مَضَى قبلَ أن تُلقَى عليه الجَوَازمُ
فمتى رأى رأياً مضى فيه لا يلوي على شيءٍ، غير مكترثٍ للوم لائمٍ أو قولِ قائلٍ، وما يهمه أن ينالَ فيه مدحاً أو يناله منه قدحٌ. والأمر الثاني من مكوِّنات شخصيته البارزة، هو أنه لم يكن يعرف الخوف؛ فأنا لا أعرف في حياتي شخصاً أجزم أن قلبه لم يذق طعم الخوف يوماً غيره، وكان يتصرف كأنه وحده في هذه الحياة، غير أنه كان يعرف حدوده لا يتعداها، وويلٌ لمن تعدى حدَّه إليه؛ وكان ميالاً إلى الإنصاف، لا يحابي في حقٍّ ولو قريباً؛ يفعل ما يريده بقوة، لا يهمه فيه رِضا راضٍ أو سخطُ ساخطٍ.
كان رجلاً مهيباً، أنيقاً في ملبسه، سيداً، سرياً، عالي الهمة، نظَّاراً إلى معالي الأمور، لا يرى قدسيةً لبشرٍ قطُّ، وكان متجنِّبا لمن يزعمون لأنفسهم، أو يُزْعَم لهم، قداسة دينية أو غيرها، معلياً دائماً من قيمة العقل، يحب التفكير الراشد؛ ويظهر انتقاده أو تعنيفه أو عقوبته لما يراه خطأً كانئاً مَن كانَ قاله. ومن أظهر ما عُرِف به أنه ما كان يرى فوقه أحداً، ولا يرى مزيةً لأحد عليه، فما كان يُبدي انكساراً أو تذللاً لمسئوليه في العمل أو لأصحاب المناصب العلية في دواوين الحكومة، ورأيت كثيراً منهم يَعْجَبون له في ذلك فيُعجبوا به. وقد رأيتُ أن رؤساءه في العمل، وكان أبرزهم المرحوم الأستاذ/ عثمان عبد الله العريفي، مدير غابات الخرطوم في زمنه، ثم من خلفه من المديرين، كان يعامله معاملة الندِّ والنظير، وكان يتخذ منه صديقاً، إذ كان به معجباً، مع أن والدي كان سائقاً له، ولكنه ما كان يرضى بغير الندية تعاملاً. وقد كان هذا العريفي رجلاً قويماً ومديراً محنكاً قوياً، كريم النفس، لا يهاب أحداً ولا يتزلف مسئولاً. كان والدي صريحاً وواضحاً في آرائه يصدع بها دون تلجلج أو تردد، لا يهمه من خالفه فيها أو وافقه، وكانت له آراء في الاقتصاد وفي السياسة بل وفي السياسة الدولية وفي القيم الاجتماعية، فقد كان متابعاً لأخبار المجتمع والسياسة والحروب، يقرأ الصحف والمقالات، ويعمل عقله لا يُفَتِّرُ فيه، فقد كان ألزم نفسه تعليم القراءة والكتابة، وكان له ذوق في السماع وإلمام بكلام العرب والأعراب، وثقافتهم، وخاصةً أشعار عنترة والمتنبي فكان يلمُّ بأطرافٍ منها، ولست أدري من أين تلقاها، كما كان يحفظ قدراً كبيراً جداً من أشعار البادية والبطانة. كان يعلمنا أن يكون لنا رأينا وقرارنا نتخذه ونتحمل مسئوليته. لقد كان الرجل يتحلى بكاريزما الزعامة، وكان له سمت (شيوخ العرب) والعُمَد، لا يقيم بمجلس قط ُّلا يكون فيه ذا المنزلة الرفيعة، والكلمة النافذة.
لقد شعرتُ بعزاءٍ عميقٍ لما عزَّاني عمي الأستاذ/ الطيب الجزولي العاليابي، من أهالينا بالرميلة، وهو ابن خالة الوالد، قائلاً: (كان أبوك في الحياة والتربية جامعة قائمة بذاتها). وقد صدق أيها القارئ الكريم هذا العم، فقد كان الرجل كذلك. ولتعلم أيها القارئ الكريم أنَّ كاتب هذا المقال معوَّقٌ تعويقاً حركياً في الأرجل، إذ كنتُ قد أُصِبْتُ بشلل الأطفال وأنا في حوالي الثالثة من عمري، فما نشأتُ في الدنيا حتى وجدت نفسي معوقاً ولكن في كنف أبٍ عليم وخبير، ولا أزال أذكر كيف كانَ متوازناً في عاطفته، عاطفة الأب الرحيم، وعقله عقل الأب المعلِّم، الذي كان يدرك أن عليه مسئولية جليلة هي أن يقدم للمجتمع ابناً معوقاً خالياً من العقد النفسية والانطواء على الذات ومشاركاً في حركة المجمتع والتاريخ. فقد حدثني فيما بعد بأنه كان متنبِّهاً لهذا الأمر، وكان حريصاً على أن يصيب النجاح كله في أن يأخذ بيد هذا الابن ويوفر له كل الدعم النفسي والعقلي اللازم ليكون معتمداً على نفسه في حياته مستقلاً بها عن الآخرين. وقد بدأ الرجل خطته بأن كان يحملني معه وأنا صبيٌ صغير إلى بيوت أصدقائه والأهل في الأمسيات، حيث كان يذهب للأنس مع صحبه منهم، فكان يحملني معه إليهم ألعب مع أطفالهم، كما كان يأخذني معه أحياناً إلى عمله لأقضي يوماً ممتعاً بمكتب الغابات بالمقرن، وصارت لي صداقات ومعارف من زملائه ورؤسائه، وكانوا يواصلونني عبره وأنا بالبيت. ثم صار الرجل إلى خطةٍ أخرى، ما أزال أذكرها، فقد عرض عليَّ أن أكون بائعاً لقصب السكر أمام بيتنا. وكنت يومئذ في حوالي السابعة، وكنت ما أزال مشلولاً أحبو، وما كان يبغي ربحاً بطبيعة الحال، بل كان هدفه هو أن أخرج إلى الناس وأتعامل معهم وأتعاطى معهم الحياة، لأكون متصالحاً مع نفسي ووضعي ومع المجتمع من حولي، استعداداً لرحلة التعليم بالمدارس والجامعات. وأصاب الرجل هدفه بنسبة مائة بالمائة فما مضى وقتٌ حتى كان لي معارف وأصدقاء من (الحلة) يتجمعون حولي كل يوم، وما أزال أذكر أنني صرت أحب الحياة وأشعر بقيمتها في الخارج، وكنت أحتال بعدها للخروج احتيالاً. كان يتناهى إلى سمعي وأنا صغير أن بعض الأهل كان ينصحه بأن يذهب بي إلى إحدى خلاوى القرآن و(يتركني) هناك لأحفظ القرآن، وأنا مشلول الأرجل لا أقوى على مشيٍ، وكأنَّ مقصدهم أنني لا جدوى مني إلا أن أحفظ القرآن فما كانتْ نظرتُهم نحوي تعدو على كوني عالةً على المجمتع؛ ولكن نظرة الرجل كانت دائماً فوق التوقعات وفوق الجميع، فما أقبلت سن الدراسة حتى كنت في أتم الاستعداد النفسي وكامل الرضا عن هذه الخطوة. دخلت المدرسة وأصبت من التوفيق والنجاح فيها قدراً معتبراً، وسرعان ما صرت أتمتع بصداقات الزملاء وحب الأساتذة، ولم يحدث أن تخلفت في سنة دراسية، حتى دخلت جامعة الخرطوم وتخرجت فيها بدرجة الشرف، وصرت أستاذاً محاضراً في أحد أهم أقسام كلية الآداب، وهو قسم الترجمة والتعريب، وهو قسم للدراسات العليا والترجمة المعتمدة. ومنذ دخول الجامعة كان الرجل يشعر بالرضا عن صنيعه ويستطعم النجاح الذي حققه في رسالته، وكان كثيراً ما يقول: (لقد كنت دائماً واثقاً من أننا سنذلِّل كلَّ الصعاب وسنتجاوزها بقوة). ومنذ أنا في الابتدائية كان دائماً يمنحني الثقة بالنفس والقوة ويملأني بالعزيمة والإصرار، وكان كثيراً ما يحدثني عن هذه المعاني ويسرد عليَّ قصصاً أنواعاً من قصص النجاح البشري في الحياة، مثل قصة السفير البولندي الذي كان قد عمل سائقاً له في ستينيات القرن الماضي، فقد حكى لي أنه نشأ في الحياة منذ صغره فقيراً وفاقداً والديه ومن يعوله، فنشأ مشرداً وعمل إسكافياً وهو صغير ولكنه راغب في التعليم فالتحق به وهو كبير جداً في سنه، فكان يعمل نهاره، ثم يذهب إلى الدارسة بعد الظهر قاطعا كليومتراتٍ عديدةً مشياً على الأقدام ليوفر نفقات المواصلات، ثم يؤوب إلى مسكنه ليسهر من ليله الكثير، ثم يغدو صباحاً مستأنفاً عمله، حتى صار سفير بلاده في بلادنا. كان الوالد مهموماً جداً بأن أعتمد على نفسي. وكان يعلمني ألا أتردد فيما أراه صواباً، بل أمضي فيه لا يهمني من نصرني أو من خذلني. وكان يحرص رغم الظروف التي لم تكن تتجاوز الكفاف ليوفر لي ما أحب من المجلات والكتب. وكان يفهمني أنه يحب أشياءً في شخصيتي، وكان يحترم أصدقائي وزملائي على نحو ملحوظ، ويجيد الحديث معهم، ويسألني عنهم بأسمائهم إذا طال غيابهم
أيها القارئ الكريم، هذه بعض ملامح شخصية حقة عاشت على أرض الواقع لم تنل من التعليم النظامي قدراً ولو بخساً، ولكنها تجاوزت عقبات التعليم فنالت من العلم الحقِّ فوق ما نال حملة الشهادات؛ شخصية عصامية، مثيرة للاهتمام والنظر، عشت أنا في كنفها دهراً ثم طواها الموت المحتوم؛ وما تزال سيرة حياته ملهماً لي ومنقذاً في دروب الحياة الملتبسة، وباباً من أبواب العلم والدرس أنال منها ما لم أجده في قاعات الدرس ومسطور الكتب
على هذا النحو كان هذا الفَقْدُ وكان عِظَمُه. ومع أني عزيزي القارئ أسعدني حقاً أن أجد نفسي غرساً في هذا المنبت الشرف، إلا أنني لم أرد قط أن أفاخر بالوالد، فما المفاخرة إلا ضرب من الحمق والجهالة، وإنما سردت ما سردت لأعزِّي نفسي وأسرتي وصحبي ممن يعرفون الفقيد، ولأعزِّي كل صميم في فقد صميم مثله، وأعزِّي كل نبيل ماجد وأصيل في موت نِدٍّ له ومثيل، هو الرجل القرم، وإنما يتعزَّى الأشباه بأشباههم والنظائر بنظائرهم. كما أني أردت بهذا المقال أن أمازج أوتار الحزن الشجيّ بالعزف على أوتار قيم النبالة والأصالة وشرف العقل مما نرجو أن ننميه في أنفسنا ونرعاه ونغرسه في أولادنا قبل أن تتلاشى من ملامح الشخصية السودانية الأصيلة.
خواطر وأفكار في تداعيات الفقد:
وليسمح لي القارئ الكريم أن أجعل من مناسبة هذا الفقد الجلل مدخلاً إلى قضية من قضايا المجمتع السوداني الشائكة وهو أحد الدواعي الكبرى لكتابة هذا المقال، وهي عادات العزاء وتقاليده في مجتمعنا السوداني. ومع أن بعض الأقلام والمنابر كانت قد تناولت هذه القضية منذ القرن الماضي، إلا أن هذا التناول كان محاولاتٍ فرديةً ومتقطعةً، لم تُجدِ نفعاً أمام صلابة طبيعة رسوخ العادات والتقاليد. واعلم أيها القارئ الكريم، أن العادات والتقاليد ذات طبيعة راسخة في النفس والوجدان، ومن الصعب التغلب عليها حتى أمام عقلانية العقل وصواب الرأي لا سيما في المجتمعات المحافظة والبعيدة عن أضواء التطوير وهبوب رياح التغيير، وقد أشار القرآن الكريم في العديد من سوره إلى خطورة رسوخ أية عادة أو تقليد اجتماعي في النفس وهيمنتها على العقل، ودلَّ على أنه كثيراً ما كان عقبةً كأداء أمام تطور الحياة الاجتماعية ورقيها (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)، (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا)، (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا). فهذه العبارات القرآنية تصوير ناطق لعجز هؤلاء القوم أمام المنطق والعقل وأمام الجديد في الحياة بطبيعتها المتجددة نحو الرقي
ومعلوم أن أسلوب العزاء في المجمتع السوداني ما عاد يجدي نفعاً وما عاد متمشِّياً مع حركة عجلة الحياة وسرعة إيقاعها. ومعلوم ما يهدر فيها من الوقت والجهد والمال،. وهي عادةٌ جعل واقع الناس يئن منها وحياتهم تتبرم بها، دون النظر في كيفية الفكاك منها. وكم من أسرة فقيرة مات عائلهم وتركهم أيتاماً، فجاءت هذه العادة في العزاء لتذهب بما ترك لهم من قليل الذخر فزاد فقرهم واشتدت فاقتهم، ولم تنفعهم دريهمات يجمعها لهم القوم لقيام هذا العزاء. وما يزال بعض قاصري النظر ومحدودي التفكير يرى في هذه العادة تفرُّداً سودانياً في التواصل والترابط. وعلى هذا ظلت هذه العادة في العزاء ثقيلة الوقع على الواقع المعاش دون أن تجد محاولاتٍ لمواجهتها، اللهم إلا من محاولة لبعض المصلحين في منطقتنا ممن أعلن رفضها، ولكن صخرة هذه العادة مازالت عصية أمام هذا الترك. وحقيقة التعزية الإتيان بما يخفف ألم الفقد ولوعة الفراق، وليس فيما يفعله المجمتع الآن من هذه الحقيقة شيء، والتعزية في حكم العقل والشرع أمر مندوب إليه لمن استطاعه دون مشقة، وإلا فلا، ولكنها في (شرعة) مجتمعنا فرض لا يجوز التخلف عنه، ويؤدي تركه إلى قطع العلائق والرحم والصلات. والعزاء في كثير من البلدان العربية كمصر مثلاً، ومصر من أوائل البلدان العربية اتصالاً بالحضارة الحديثة، اقتصر أمره، كما نعلم، على ترتيبه ليكون في سويعات مساء يوم الفقد أو بُعيدَهُ، يتهيأ قبلها أهل الفقد لتلقِّي عزاء المعزِّين، ويأتي المعزُّون في وقتٍ يناسبهم بعد قضاء أعمالهم اليومية وعودتهم إلى منازلهم. ثم ينفض السامر وتبدأ الحياة في العود إلى طبيعتها منذ اليوم التالي، فالزمن لا يتوقف لموت أحد ولا الحياة متوقفة له.
وفي حالتنا، كنا أعلنا للناس في المقابر أن المأتم عندنا ينتهى بانتهاء الدفن. وقد كان هذا الإعلان غريباً على مجتمعٍ لم يألفه وكان مستغرباً ومستنكراً حتى من قبل بعض ممن يوصفون بالعقل، فتذكرتُ عندها إشارات القرآن الخالدة وتصويره لرسوخ العادات التي تمضي عليها السنون والقرون حتى يعجز العقل أمامها أو يتكلف إيجاد المبررات لبقائها، كما يتكلفها من هم أسرى هذه العادات العوجاء.
كان هذا الأمر صعباً على كثير من الأهل والأقارب حتى إن بعضهم وقف موقفاً لا يشبه ألم الفقد وبرح الجرح، مع أنه من حقنا أن يكون لنا رأينا وموقفنا وإن خالف الآخرين، ونحن عاذروهم، وراجون أن يتطلع المجمتع بريادة عقلائه وفضلائه إلى حياة أكثر سلاسة وأدنى مرونة في كل جوانبه وأحواله .
وبمناسبة فقدنا الجلل هذا، نوجه الدعوة هنا صريحة إلى أهل الرأي والنظر وإلى المهمومين بترقية المجتمع وتطوير حياته من عقلاء هذا البلد وفضلائه الذين يصوبون أعينهم أبداً نحو رفعة المجتمع وتسهيل حياته، إلى أن يعيدوا النظر في أمر العزاء في مجتمعنا السوداني، وأن يتخففوا من أثقاله وقيوده، التي تعجز حتى الصناديق التعاونية الأهلية لمقابلة هذه المآتم عن تعويض ما يهدر فيها من الوقت والجهد والمال، الناس في ظروفهم الراهنة أحوج ما يكونون إليه، وذلك تمشياً مع مستجدات الحياة وتطورها. فعلى أهل الفكر والنظر، كُتَّاباً ومفكرين ومثقفين أن يعملوا أقلامهم ليعالجوا هذه الظاهرة، متجاوزين مزاعم أنَّها من ملامح المجمتع السوداني الفريدة الشاهدة بترابطه، على نحو ما يردِّدُ بعضهم ببغاوياً بلا وعيٍ وبلا نظر؛ فما حكم العقل الراشد إلا بفسادها، وعلى الناس أن يستفيدوا من وسائل التواصل الاجتماعي الحديث من فيس بوك وواتساب وغيرها، من أجل مواجهة هذه العادات وجعلها أكثر مواتاةً لطبيعة الحياة المعاصرة وأكثر بعداً عن المشاق والكُلَفِ، إبقاءً على العلائق الطيبة بين الناس. فالسِّلْمُ الاجتماعي هدف من أهداف القرآن الكريم الكبرى التي صوَّب إليها التشريعات ودارت حولها التكاليف، وجعل ذلك شرطاً لصحة الإيمان بالله واليوم الآخر. وهذا أمر يدور اهتمامنا عليه دوراناً، ونرجو أن ننجز الكتابة فيه قريباً.
إن قيمة الإنسان ومقداره في كل الشرائع والأديان والفلسفات إنما تقاس بمقدار ما قدم لحياة الناس، وبمقدار من طوَّر من نواحيها وذلَّل من صعابها، فذلك هو النافع المعتبر، وأحَبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لخلقه. وحتى في القرآن تلاحظ أنَّ العبادات والشعائر المتعدية النفع مقدَّمةٌ على تلك ذاتية النفع. وانظر إن شئت كم مرة ورد ذكر العمرة مثلاً بل والحج في كل القرآن، مقارنةً مثلاً مع ورود ذكر الإنفاق والصدقة. وما قيمة تعليم المتعلمين وثقافة المثقفين إن لم يصُبّ ذلك جميعاً في مصلحة حياة المجتمع ورقيِّه، ودفع وضعية حياة الناس نحو ما يُريحهم ويدرأ عنهم المشاقّ، على نحو ما هو معروف في كل مجمتعات البشرية المتحضرة في كل عَصْرٍ وبكل مَصْرٍ.
أيها السادة الأجلاء، هذه دعوة إلى أهل النظر والفكر والإصلاح، وإلى المستنيرين ممن يقدرون الأمور بقدرها ومن دربوا على إعمال الفكر، وإلى قادة التنوير في هذا البلد، دعوة إلى أن يحيلوا هذه القضية إلى منابرهم ومنتدياتهم، وأن يجعلوا منها موضوعاً لأقلامهم القويمة الداعية إلى الإصلاح؛ وهي كذلك دعوة إلى رجالات الإعلام بوسائله المختلفة، أن ينطلقوا في طرحها؛ وليتولَّ هؤلاء وأولئك زمام المبادرة نحو ترقية هذا المجمتع والدفع به نحو حياة أسلس وأسهل.
إنَّ فَقْدَ هذا الرجل عظيم على الأسرة وعلى كل من يعرفه، فالتعزية فيه موصولة إلى كل صميم وكلِّ ماجد أصيل. والشكر موصول منا إلى أهلنا جميعاً ومعارفنا داخل السودان وخارجه ممن جاءنا يسعى أو اتصل فعزَّى، وشكر خاص للأستاذ إبراهيم الزين بالكلاكلة صنقعت ولتلاميذه الأوفياء، ولأهلنا بالجزيرة والجموعية والجريف والحاج يوسف والرميلة، وللأصدقاء والزملاء بجامعة الخرطوم، وبكلية الخرطوم للعلوم الطبية، وإلى أهلنا وأصهارنا، لا سيما أسرة المرحوم أحمد حجازي، ببانت، من أفاضل هذا البلد الراقين. وأشكر كذلك كلَّ من سبقني بالكتابة ناعياً الوالد في الصحف في الأيام الماضية.
رحم الله والدنا أحمد محمد الشاذلي، وأسعد روحه في الأوراح، وأكرم نزله عنده وأرضاه، ورحم الله موتى الناس أجمعين ..
(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.