مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقالات: الدعاة وأعراف المجتمعات

أعني بالأعراف في هذه المقالة: مجموع النظم الاجتماعية والمظاهر الفنية وأنماط القيم وأساليب الحياة والسلوك التي تتميز بها وتحدد بها مجموعة أو مجتمع. ولا شك أن للأعراف -بهذا المفهوم الواسع- في كل مجتمع من المجتمعات تأثيرها وسطوتها على عقول الناس ، وعلى كثير مما يصدر عنهم من مواقف واختيارات ، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أن دعوة الرسل الكرام التي تقوم على الحق المحض وعلى الصدق الكامل واجهتها الأمم الجائرة بالتنكر والجحود ، وأبت إلا التمسك بأعرافها الموروثة ، وتقاليدها المتبعة .
قال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)[1]، وقال جل وعلا: (وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)[2] وقد حكى الله عن قوم نوح قولهم: (ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)[3] وعن قوم إبراهيم قولهم: (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)[4] كما أخبرنا القرآن الكريم أن بلقيس ما صدها عن دعوة سليمان -في بادئ الأمر- إلا أنها كانت تعيش في بئية كافرة (وصدها ماكانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) النمل 34
وما يزال كثير من الناس في عصرنا هذا -الذي نصفه بأنه عصر العلمية والانفتاح - لا يمنعه من قبول الحق والالتزام به -رغم يقينه بأنه حق- إلا الخوف من مخالفة قومه ، وما سيلحقه في سبيل هذه المخالفة من عنت وإرهاق. {shadowboxwtw}فالتحرر من أغلال التقاليد المستقرة ، والأعراف الراسخة ليس بالأمر اليسير؛ ولا يستطيعه إلا من أعد نفسه لهذه الغاية؛ وهيأها للتضحيات الجسام في سبيل ما يؤمن به ؛{/shadowboxwtw} فقد يبلغ الأمر بمن لا يوافق الناس على ما تواضعوا عليه من خلق ودين وعادات أن يهجر أو يُخرج من بلده أو يُقتل؛ (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)[5] ، وقال قوم لوط: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون[6](
الإسلام وأعراف الناس :
الإسلام دعوة لإصلاح الحياة وتكميل الخير في المجتمع ، ومعلوم أن المقصد العام من التشريع هو إصلاح أحوال العباد كلها :يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله ( ولقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل كما يتوهم ، بل أراد منه إصلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية )[7]
ولا شك أن إصلاح أحوال الناس وأعرافهم التي درجوا عليها مهمة من أشق المهمات ، وقد كان الإسلام مدركًا لهذه الحقيقة لذلك ما اعتمد في تغيير هذه الأعراف على العنف والشدة، بل أمر بالرفق والحكمة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين )[8]، وفي الحديث الصحيح في البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا ومعاذا إلى اليمن وقال لهما ( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ).
ومن الحكمة التي سلكها الإسلام في تغيير المجتمعات والأفراد التدرج، فالقرآن نزل منجمًا لأنه كان يراعي في تشريعاته وأحكامه التدرج في تربية المجتمع وتزكيته ، وانتزاع مواريث الجاهلية شيئًا فشيئًا، وكلنا يعلم قول أم المؤمنين عائشة لو كان أول ما نزل من القرآن لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع شرب الخمر ولو كان أول ما نزل لا تزنوا لقالوا لن ندع الزنا. فترفق الإسلام بالناس ونقلهم من حال إلى حال بالحكمة والصبر والتدرج ، والتدرج لا يعني كما يفهم بعضهم أن نظل على أحوالنا التي نحن عليها أزمانا مديدة وأعمارا طويلة ، وإنما التدرج أن نرقى الدرجة بعد الدرجة، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له
( إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم)
وكان الإسلام منصفًا أيضًا في نظره لأعراف المجتمعات؛وفي تعامله معها فلم يأمر بمصادمتها جملة واقتلاع كل ما توارثه الناس من عادات ، ولكنه وضع القسطاس المستقيم الذي يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال، فما وافق الحق قبل وما خاصمه رد ، ومعلوم أن الإسلام أقر بعض الأعراف التي وجد الناس عليها ، وأبطل بعضها وعدل بعضها ، ومن أمثلة ما أقره الإسلام من عادات العرب في التحاكم القسامة فقد أخرج مسلم في الصحيح عن أبي سلمة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وزاد في رواية وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود)[9] وعدل الإسلام بعض تقاليد العرب في الزواج والطلاق والخلع ، ومن أمثلة ما أبطله وألغاه الإسلام من العادات التبني والبيع بإلقاء الحجر والملامسة والمنابذة.
فما من عرف حسن، أو خلق كريم أو مذهب حميد استقر في أمة من الأمم إلاَّ وجاء الدين مرحبًا به، وداعما له، وشاهد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه مالك ؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول الذي تداعت له قبائل العرب نصرة للمظلوم: (لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)[10]
ومن الخطأ البين أن نظن بأمة من الأمم أو شعب من الشعوب أنه لا يملك قيما إنسانية تستحق منا الدعم والتأييد فالناس منذ القدم توارثوا أمورا كثيرة من الصلاح والخير انتقلت إليهم من نصائح المعلمين والمربين والرسل والحكماء حتى رسخت فيهم ، والنزعة إلى الخير فطرة فطر الله الناس عليها، ولكن الناس أفرادا ومجتمعات يتفاوتون في مقدار ما عندهم من فضائل وقيم، ويتفاوتون في درجة تمسكهم بهذه القيم ومحافظتهم عليها.
أثر تقدير أعراف الناس على انتشار الإسلام:
لا شك أن من أعظم أسباب انتشار الإسلام واتسعاع رقعته أنه تعامل مع كسب الشعوب وعادات الناس بمرونة وعدل ، فلم يبطل الإسلام من عادات الناس إلا ما شهدت العقول والفطر المستقيمة على أنه قبيح ، فلم تشعر الشعوب التي استجابت لداعي الله أنها تواجه أزمة مع هذا الدين الذي جاء منسجما مع الفطرة وملبيا لنداءها ، كما لم تشعر هذه الشعوب كذلك أن الإسلام يكلفها فوق طاقتها ويطالبها أن تنخلع عن كل عاداتها ومواريثها وأصولها التي تنتمي إليها.
يقول العلامة علال الفاسي (ومن حسن حظ الإسلام أن كانت له المرونة الكافية التي جعلته يتمشى مع سير الآلة النفسية للشعوب التي اعتنقته، وهكذا نجد في العالم الإسلامي تغايرا في طبائع الجماعات المسلمة وفقا لطبيعة الأرض التي تسكن بها ،وأن ما يتراءى من هذا التغاير الملموس ينتهي في باطنه كله لهذا النموذج النفسي الإسلامي)[11]
ويقول رحمه الله(إن الإسلام نجح في انتزاع النموذج المظلم وإحلال النموذج الإسلامي محله في النفوس دون أن يهتم بتغيير ما تحافظ عليه من مظاهر وجودها تاركا للاتحاد بين نموذجه وبين الأرض وأجواء العصر الذي يتجدد معها ذلك النموذج تتميم التصوير والتكييف لعالمه الجديد)[12]
نعم إن الإسلام يصوغ الأمة صياغة واحدة في مناهج تفكيرها ومنطلقاتها المرجعية ، لكن خصوصيات الناس المتعلقة بأساليب عيشهم وعاداتهم لا يتدخل فيها الدين إلا بقدر معلوم لأن هذه الدائرة في شريعة الإسلام متروكة لسنن الناس ؛ ويكفي أن تأتي الشريعة فيها بقواعد كلية جامعة في الأمر والنهي والاستحباب والكراهة، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كُلْ ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة) وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس الذهب والحرير للرجال والأكل في آنية الفضة والذهب.
وها نحن نرى شعوبًا دخلت في الإسلام منذ قرون ومع ذلك لا تزال تحافظ على أسمائها وأزيائها وعلى كثير من عاداتها وأساليب عيشها دون أن يخدش ذلك في انتمائها للدين.
{shadowboxwtw}ومن الخطأ البين الذي يجب التحذير منه أن يخلط الدعاة في هذا الباب بين الشريعة والعادة، وبين السنن الملزمة وغير الملزمة.{/shadowboxwtw}
ولقد رأيت في إنجلترا مجموعات من إخواننا المسلمين الجدد يصرون على أن يرتدوا اللباس العربي ، ويمشون به في الشوارع والأسواق والأماكن العامة؛ ظنًا منهم أن هذا اللباس له صلة بالدين وهذا فهم لا يستقيم ، وإذا شاع هذا الفهم فإنه لن يخدم قضية الدعوة بل سيضر بمسيرتها جدا لأن الناس سينظرون لهؤلاء المسلمين الجدد على أنهم قوم غرباء عنهم ، وستقوم جدر من الحواجز النفسية التي تحول بين الناس وبين التواصل والتفاعل مع المسلمين، وهذا ما تريد أجهزة الإعلام الغربية أن ترسخه في عقول الناس فلا يمكن أن تبرز مسلما من أهل البلاد الغربية ليتحدث عن قضايا المسلمين.
وكم وددت لو أن إخواننا الدعاة في مثل تلك البيئات والبلاد علّموا الناس حقائق الإسلام الكبرى وشرحوا لهم معالمه الأساسية، وبينوا لهم بجلاء أن الإنسان يمكن أن يكون مسلمًا كامل الإسلام دون أن يفاصل المجتمع الذي يعيش فيه تلك المفاصلة الحادة في مظهره وملبسه واسمه الذي سمي به أول مرة.
من فقه التعامل مع عادات الناس
إن التعامل مع عادات الناس وطبائع الشعوب من الفقه الذي نحتاج أن نحسنه، وفي ظني أن الدعوة ستكسب خيرًا كثيرًا إذا وفق الله الدعاة أن يستثمروا الجوانب الحسنة في عادات الشعوب وأخلاقها ؛ ويجعلوا منها طريقًا موصلاً إلى الله.. وهذا هو عين ما فعله الإسلام يوم أن أبقى على عادات العرب وأخلاقهم التي لا تعارض الدين ، ونقاها من الشوائب والمكدرات التي تصاحبها ، ووظفها من بعد في الدعوة إلى الخير ، فالكرم الذي عرف به العرب، وتمادحوا به في أشعارهم
(تراه كصدر السيف يهتز للندى ...إذا لم تجد عند امرأ السوء مطعما )
جاء الإسلام يحض عليه ويشجع المجتمع على التمسك به ، ولكن البعد الجديد الذي أضافه الإسلام أنه لم يجعل الباعث على الكرم الحصول على ثناء الناس أو الخوف من مذمتهم كما هو الحال عندهم، ولكن كما قال القرآن: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءًا ولا شكورًا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا )[13].. والشجاعة في القتال من مفاخر العرب وموارثهم جاء الإسلام ومدح هذه الشجاعة وغذاها في نفوس الناس، غير أنه حدد لها إطارًا يمنع عنها نوازع البغي والعدوان ؛ فلا يجوز للرجل أن يقاتل شجاعة أو حمية، وإنما من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وهكذا في سائر الخصال التي أتم الإسلام جوانب الخير الناقصة فيها.
وفي السيرة النبوية مواقف كثيرة تبين لنا كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يوظف ما وجد عليه الناس من أخلاق وقيم طيبة في الدعوة منها قصة الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ائذن لي في الزنا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادن فدنا منه قريبا ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحبه لأمك قال لا جعلني الله فداءك قال والناس يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لبنتك قال لا يا رسول الله جعلني الله فداءك ، قال ولا الناس يحبونه لبناتهم حتى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخت العمة والخالة) رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي ، فالشاهد هنا ليس في المثال الحرفي وإنما في توظيف مفاهيم وقيم استقرت في مجتمع ينفر أهله من الزنا ويعدونه عارا ، ووظف النبي صلى الله عليه وسلم هذا العرف المستقر في إقناع الشاب بقبح ما هم ، ومن المواقف التي وظف فيها النبي صلى الله عليه وسلم عادات الناس الحسنة لنصرة الحق الذي جاء به ما كان في يوم الحديبية يوم أن جاءت قريش برسلها تفاوض النبي صلى الله عليه وسلم فكان ممن جاء مفاوضا الحليس بن علقمة وهو من قوم يعظمون البدن فلما راءه النبي صلى الله عليه وسلم قادما من بعيد قال هذا الحليس وهو من قوم يتألهون يعني يتعبدون ويعظمون البدن فابعثوها له واستقبله القوم وهم يلبون ، فلما رأي ذلك ( سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت) وهذا الموقف من السيرة العملية يجعلنا نعيد فهم عبارة الكفر ملة واحدة فهما صحيحا فالكفر ملة واحدة في المائل يوم القيامة ، لكن بين الكافرين تفاوت كبير في الخلق الدين.
وإن من حق العادات الحسنة التي تتمتع بها الشعوب أن تعرف وتشكر، وأن يقابلها الدعاة دائما بمشاعر التأييد لها ؛ حتى يشتد عودها؛ وتصبح من بعد تقليدًا متبعًا، وقاعدة ينطلق منها الدعاة إلى الله في تكثير الخير وتكميله؛ إذ البداية من الأمور المتفق عليها والعادات المستقرة عند الناس أولى وأيسر من الدخول مع المجتمع في صراع وتوترات حول مسائل لم يسلموا بها بعد. وقد أخبرنا الله في كتابه الكريم أن من أسباب رد الحق عند كثير من الناس عدم إدراك عقولهم له: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)[14]؛ فلتكن من بداياتنا في الدعوة وإعادة تشكيل الأمة توظيف الأعراف المأذون بها فضلاً عن الأعراف التي هي من صميم ديننا..
أقول هذا وأنا أدرك أن كثيرًا من أعرافنا الحسنة في المجتمعات الإسلامية ربما اختلطت بها بدع ومخالفات شوهت صورتها، ونفرت الطيبين عنها، ولكن العاقل من لا يفوّت أصل المصلحة تشوفًا لكمالها، ولا يُبطل العرف الحسن لاختلاطه بمنكر قبيح.
تقديم البديل لا مجرد النقد
{shadowboxwtw}وعلى الدعاة أن يدركوا أيضًا أن دورهم لن ينتهي بإصدار الأحكام على أعراف الناس أو نقدها؛ فالنقد مهما كان صوابًا فلن يجد آذانًا صاغية ، حتى يقدم للناس البديل الآخر الذي يتشبثون به؛ (قال أوَ لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)[15]{/shadowboxwtw} فهذا لوط عليه السلام أنكر ما عليه قومه من فاحشة الشذوذ ولكنه ما وقف عند هذا الحد!، وإنما ندبهم إلى (البديل الطاهر) إلى الزواج ؛ وقال لهم: ( ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)[16]؛ فوظيفة الأنبياء ليست إنكار المنكر فحسب، ولكنها مع ذلك إرشاد ودلالة إلى المعروف وطريق الخير والرشاد؛ (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)[17]
إن تقديم البديل الصالح للواقع المنحرف هو الذي سيمنح مشاريع الإصلاح الدعوي قوتها، ويكسبها القبول والثقة؛ فالناس مجبولون على التعلق بما يرونه ماثلاً أمامهم، قائمًا في حياتهم.. ونظرهم إلى الواقع المعاش أسبق من نظرهم إلى الأفكار؛ لذلك قلَّ أن يتمسكوا بشيء غير معهود، أو يتأثروا بموعظة مجردة عن السلوك.. وهذا هو السر في أن الله تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسول الذي يتحرك بالكتاب، ويمشي به في الناس، ويجرد من نفسه أسوة حسنة؛ وبهذا يقع التأثير، ويتحقق الصلاح.. وقد قرن نبي الله شعيب عليه السلام بين القدوة الحسنة -التي تتبع القول بالعمل- وبين الإصلاح المنشود؛ فقال لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.)[18]
فالخطاب الدعوي المعاصر يجب أن يركز في هذه المرحلة من تاريخ الأمة على البرامج العملية القادرة على مناهضة الواقع الفاسد، وإشاعة العرف الراشد، أما الحديث - الموصول عن الحل الإسلامي وبيناته فلا يكفي وحده في إنقاذ الأمة وهل ينتفع المرضى - كما قال أحد المشايخ -: بمن يقول لهم الدواء هو الحل؟! يقول د.عبد المجيد النجار (إن من أكبر الأخطاء التي وقع فيها الفكر الإسلامي الإصلاحي الحديث أنه دعا إلى التغيير ،ولكنه لم يشخص البدائل التي يريد أن تسود حياة المسلم)[19]
[1] الزخرف آية 22
[2] البقرة 170
[3] المؤمنون 24
[4] الشعراء 72-74
[5] إبراهيم 13
[6] النمل 56
[7] مقاصد الشريعة الإسلامية ص64
[8] النحل 125
[9] أنظر في تعريف القسامة وشروطها : الموسوعة الفقهية ج 33 ص 167
[10] السيرة لأبن هشام
[11] النقد الذاتي ص 108
[12] مرجع سابق ص 109
[13] الإنسان 9-10
[14] يونس 39
[15] الزخرف 24
[16] هود 78
[17] الأعراف 157
[18] هود 88
[19] دور الفكر الواقعي في النهضة الإسلامية ص 220


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.