ليومي جمعة وسبت راعفين بالحر الشديد وفواحين باللظى انتجعت لكتاب الدكتور مصطفى محمد أحمد الصاوي (السير والمذكرات في الأدب السوداني) كنت قبل هذا الانتجاع - الذي استعذبته منذ سطره الأول أفكر في مستقبل السودان في ضوء التعارك اليومي والتشاحن والتباغض والصعود الذي لن يرتد للجهوية والإثنيات والقبلية، المصحوب بتدهور الكتابة، وبتراجع الافكار الغيرة، والموات الثقافي، والشعر الركيك، والأخيلة الباهتة وحلول القبح، الذي حل محل (الاقتراحات الجمالية) كان صدري مشحونا بذاك الوجع، وجع أن ترى الجهل والجاهلين في مواضع العلماء وفي مقامات الصالحين والا تسمع غير عبارات الشحن والتجييش وألا تحس بأي يقين غير حتمية كارثة وشيكة ! كنت قبل ذلك زرت مكتبات سودانية لأقف علي ما فاتني من نتاج معرفي، فتجولت في الدار السودانية، ومكتبة مروي، ومكتبة عزة التي يديرها صديقنا نور الهدى محمد نور الهدى الذي أحسن والده اختيار هذا الاسم له كأنه استشرف يوم (السماية) عصر الانحطاط التقافي، وتكهن بأن ولده سيسكب قطرة ضوء في ظلام داجن وأهوج ومنفلت !! بسمل الصاوي في صدر الكتاب وصدَّره بآية كريمة من سورة يوسف (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) صدق الله العظيم، . ثم أهدى الكتاب لروح والده ووالدته، ومن الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل أهداه لروح شقيقه عبد الرحمن، وتقدم بالشكر والتقدير للبروفيسور عبدالله حمدنا الله، وهذه مناسبة لأتقدم أنا أيضاً بالشكر للبروفسير عبد الله حمدنا الله لا لشيء فقط لانه عبد الله حمدنا الله !! الكتاب يقع في ستة فصول تتناول مشهد التراجم والسير والمذكرات في السودان، بعد أن حدد الإطار النظري للدراسة من حيث المصطلح والدلالة وأشكال أدب السيرة، ثم الخلفية الاجتماعية والثقافية والسياسية للحركة الأدبية السودانية، ودوافع ظهور التراجم والسير والمذكرات، ثم أنماطها وتناول ميثاق السيرة الذاتية وعناصره، وصورة الذات في المذكرات مع تسليط ضوء على التشكيل اللغوي لكتابة أدب الذات ، وقسّم أدب السيره لنوعين، السيرة الذاتية، والسيرة الغيرية. أستهدفت هذه الدراسة فوق البنفسجية مجموعة من السير الذاتية التي كتبها اصحابها مباشرة، والغيرية التي كتبها آخرون ونمذج لتلك بما كتبه د.أحمد محمد البدوي عن التجاني والطيب صالح. خضعت لهذا التشريح والتدقيق النقدي المبدع، (موت دنيا) للمحجوب وحليم ومذكرات بابكر بدري، ونجله يوسف، ومذكرات يوسف ميخائيل، وأمين التوم، وأحمد سليمان، ومذكرات عبد الماجد ابو حسبو، والوزير المتمرد مرتضى أحمد إبراهيم، ومذكرات علي شبيكة، وتناولت الدراسة شكل خلاق ومضيء كتابة الطيب صالح عن منسي. وكتاب (تجربتي مع الإعاقة) لصديقنا المرحوم حسن عثمان الحسن الذي انصفه الصاوي ووضعه في منزلة المقتدرين غير المصابين ! بينّ الصاوي مناطق التماس التي تلتقي عندها كتابة السيرة بالسرد الروائي من خلال ذلك السرد المكثف الذي يتطابق فيه الراوي بالرائي من لحم ودم وكائن ورقي متخّيل. أرسل تحياتي الزاكيات في هذا الصباح الصيفي الجميل للدكتور مصطفي الصاوي فقد تكفل بي ليومين كاملين وأعاد ثقتي بمستقبل الجمال والمعرفة وأعطف هذا الثناء على مركز عبد الكريم ميرغني الذي قام بطباعة الكتاب.