يبدو أن الازمات السودانية بكل اثقالها آخذة في التشكل والاحتشاد وهذا ينبي بالاعتراف بوجود ازمة وطنية متراكمة منذ الاستقلال وجوهرها اننا فشلنا في صياغة عقد اجتماعي يكرس لمفهوم الدولة والامة والثوابت الوطنية التي تهيء الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتنمية المستدامة والشيء الايجابي في هذا المشهد هو شعور الكل بأننا نقترب من اللحظة التاريخية لانجاز التغيير وتحقيق المقاصد الوطنية، وكذلك فإن هنالك قناعة ترسخت وسط الاجتماع السياسي السوداني بأن الحوار هو الآلية الوحيدة لحلحلة الازمة الوطنية، بعد تجريب كل السيناريوهات التي أدت إلى تفاقم حدة الاستقطاب والمأزق الوطنى حتى غدا السودان على شفا التداعي والانهيار، وقد اثبتت التجربة السودانية وخاصة اتفاقية نيفاشا أن الاتفاقيات هي السبيل لوقف الاحتراب، وان الحل العسكري غير ناجز دون تحصينه بالتوافق السياسي بل يكاد يكون مستنزفا للقدرات البشرية والمادية، وعبرة التجربة تؤكد بأن كل الحركات التي جنحت للعمل العسكري لجأت لذلك الخيار تكتيكاً لتقوية موقفها التفاوضي، وهنالك وعي جمعي بأن الحرية هي الاصل في الحياة والاجتماع السياسي وهي لا تقبل التجزئة والتبعيض وان أي قيم لن تنمو وتتمدد الا في مناخ بسط الحرية والتدافع السلمي، وهنالك شبه اجماع وطني بأن المنهج الاستئصالي والاقصائي عمق من حالة الاحتقان والتباغض في المشهد السياسي الوطني، واستحالة أن تحكم السودان قوة سياسية واحدة مهما بلغت قدراتها التنظيمية والسياسية والامنية، وهنالك خفض للخطاب الايديولوجي المغلق وعلو للخطاب السياسي العقلاني والواعي، وهنالك اعتراف بأن النظام الديمقراطي المدني المؤسس على الحريات العامة وتداول السلطة والعدالة هو الخيار الأنسب لحكم السودان مهما بلغ النظام النيابي المنتخب من التردّي والتنافر فإن المصابرة والمثابرة على تقويمه واصلاحه افضل من الجنوح للمغامرات واختيار الصعود إلى الحكم بالقفز ليلاً من اعلى البيوت، وهنالك ايضاً اجماع بضرورة أن يشمل الحوار كل القوى السياسية الوطنية دون عزل أو اقصاء لان الاتفاقات الثنائية ستؤدي إلى محاصصة ظرفية مآلها انتاج الازمة من جديد وبصورة اعنف، وهنالك وعي بضرورة طرح كل القضايا على الطاولة الوطنية دون شروط مسبقة أو سقوفات ذاتية وحزبية، وينبغي أن يتشكل وعي عميق وسط النخبة الحاكمة بأن مخرجات الحوار الوطني مهما كانت خصماً على رصيده فهي الروشتة المناسبة لعلاج أزمة الوطن و"داوني بالتي كانت هي الداء" وكذلك هنالك شبه اجماع وطني بأن هشاشة وسيولة الدولة السودانية لا تسمح بالجنوح للوسائل العسكرية أو الاستقواء بالخارج لانجاز التغيير وهذا ينم عن رشد وانتماء وطني عميق،بل هنالك شعور بأن خيار الانتفاضة السلمية لم يعد مناسباً خوفاً من مآلاتها المأساوية كما تجلّى ذلك في التجربة الليبية والسورية وأوضاعنا مشابهة لسوريا، ومحاولة استنساخ النموذج السوري واسقاطه على السودان سيفكك الدولة السودانية الهشة وستكون له تداعيات اقليمية خطيرة لذلك فإن القوة الحية والمؤثرة في العالم تتفاعل مع خيار التغيير السلس والسلمي في السودان، لتحقيق التحول الديمقراطي المستدام، لذلك فإن حراك الاصلاح والتغيير ينبغي أن يتكاثف في البنية الداخلية للاحزاب السياسية الوطنية لتواكب مفهوم الحداثة المرتكزة على الديمقراطية الداخلية، وتجديد القيادات، وتوليد الكوادر وفي رأيي أن الاحزاب السودانية اما انها ذات بناء طائفي، والطائفية طبقة برجوازية تعمل بمبدأ الوراثة في القيادة والطاعة العمياء من قبل الجماهير وهي نظام ضد الوعي والفكر وإن انس لن انسى ذلك الحوار الكثيف الذي دار داخل المكتب السياسي للتنظيم الاسلامي الطلابي بالجامعة العريقة حول بروز وانتشار الاحزاب الطائفية داخل الوسط الطلابي الجامعي والحديث وامكانية أن يؤدي ذلك الانتشار لإضعاف الحركة الاسلامية الطلابية؟؟ وكان منطقي أن ذلك يعكس حالة الاوبة وسط المجتمع لقيم الدين الذي تم بدفع حركة الاسلام، وسيؤدي هذا الانتشار إلى انكماش قوى اليسار وتحويل الصراع السياسي من حالة التناقض إلى التنوع والثراء وفق المرجعية الاسلامية وان ذلك سيقود إلى تقارب على المدى البعيد وربما وحدة تنظيمية في الرؤية النهائية، أو أن تقود هذه النواة الطلابية الواعية والمثقفة حراك التغيير والاصلاح داخل المنظومات الطائفية وتحويلها إلى احزاب حديثة وجاذبة للمجتمع ولكن يبدو أن ذلك الجيل اصطدم بجدار الطائفية الصلد وتكسرت النصال على النصال وانزوى إلى كهف الذاتية أو غادر مغاضباً ويائساً من الاصلاح والتغيير أو تماهى مصانعاً مع الواقع المرير كما فعل ابكار المثقفين السودانيين الذين عجزوا عن تشكيل منظومات سياسية حديثة واختاروا العودة لبيت الطاعة الطائفي ليس بدافع التغيير من الداخل بل لتحقيق نزوعاتهم الشخصية (وكان ما كان) كما يقول الفنان أبو داؤود في رائعته هل انت معي؟؟ وحتى يتعافى المشهد الوطني الكلي وتزال حالة الانكماش من المجتمع اتجاه الاحزاب ينبغي أن تغشى هذه الاحزاب خاصة الطائفية وثبة داخلية حقيقية للتغيير والاصلاح حتى تشكل حاضنة جاذبة لشرائح المجتمع، لان صناعة التغيير العميق والثابت اصله المجتمع، وان قوة الاحزاب مستمدة من تفاعل المجتمع معها، وان ضعف الاحزاب مدعاة لاستمرار انظمة الاستبداد، وصفوة العبر المستخلصة من التجربة السياسية السودانية في الحكم هي أن الانقاذ بكل تجلياتها هي آخر نظام يأتي إلى الحكم عبر الانقلاب العسكري وربما يكون النظام الوحيد الذي اختار خيار التغيير السلس والناعم اذا مضى بعقل استراتيجي وطني في المبادرة التي طرحها لتحقيق الوئام الوطني، والمؤتمر الوطني يحتاج لهذه المبادرة لتحصين نفسه من حالة التشظي والاستنزاف المستمر الناتج من تسرب القوة الحية والدافعة وهم الاسلاميين الذين اعتزلوا الحزب الحاكم ونفروا منه لذلك بدأ حراك الاسلاميين في التشكل والتفاعل والضغط لإنجاز التغيير والاصلاح وازاء تكاثف هذه الضغوط الكلية اقتنعت قيادة المؤتمر الوطني بضرورة تبني رؤية التغيير والاصلاح، لذلك دفعت بالمبادرة الاخيرة والتي تحمل في متونها كل المقاصد الوطنية وان جاءت لغتها في غاية التعقيد والتركيب الذي ينبيء بأن هنالك ايضاً تيارا لمقاومة التغيير داخل المنظومة الحاكمة وهذا شيء طبيعي لنظام ظل متمترساً في الحكم لعقدين ادى إلى تناسل مراكز القوة وتنامي طبقة المصالح الذاتية، لذلك ينبغي على القوى السياسية الوطنية التجاوب مع هذه المبادرة بطلاقة وطنية متحررة من الاجندة الحزبية حتى تضعف تيار مقاومة التغيير داخل الحزب الحاكم، والعمل على تنزيل هذه المبادرة للمجتمع عبر العمل السياسي الجماهيري والاعلامي حتى لا تتحرك المبادرة فوقياً في دائرة النخب والاحزاب السياسية وحتى تختبر صدق الحزب الحاكم في التعاطي مع الحريات، وينبغي كذلك على الاحزاب السياسية الوطنية أن تقنع المعارضة المسلحة بنبذ العنف والانتظام داخل حراك المعارضة السلمي المدني، وأن تتوحد فصائل المعارضة في جسم سياسي مدني وتضع رؤية موحدة لحلحلة الازمة الوطنية، وعلى قوى اليسار السوداني التحلل من التفكير الاقصائي الذي يرى أن النظام الحاكم في حالة موت سريري والافضل المضي في تصعيد العمل الجماهيري الثوري للتخلص نهائياً من ظاهرة الاسلام السياسي في السودان، وان ايّ تجاوب مع المبادرة ستؤدي إلى انعاش آمال النظام في الحياة والاستمرارية وهذه قراءة غير دقيقة وتفتقر إلى العمق اليساسي وعبرة التاريخ. ان اللحظة التاريخية الماثلة تحتم التحرك بمرونة وسعة افق سياسي وطلاقة فكرية، لانجاز المصالحة الوطنية الشاملة التي لا تقصي احدا لذلك على النخبة الحاكمة اتخاذ قرارات اولية لإبداء حسن النية لترميم ميدان الحوار وبناء جدار الثقة المتصدع، وازالة الهواجس عن القوى السياسية المعارضة، مثل اطلاق مساحة الحريات، وعودة الصحف المصادرة، واطلاق سراح المعتقلين، والعفو العام عن معتقلي الحركات المسلحة، ووقف لإطلاق النار من جانب الحكومة، ثم المضي في تحديد الآلية السياسية لادارة الحوار الوطني، وتحديد قضايا واجندة الحوار بالتوافق مع القوى السياسية، ثم تحديد الآلية التنفيذية لانفاذ مخرجات الحوار الوطني، وعلى الحزب الحاكم تقديم التنازلات والاستجابة لروح الاجماع ، وسيجني المؤتمر الوطني ثمرة مبادرة تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بإلتفاف المجتمع حوله من جديد، ووحدة التيارات الاسلامية، وذلك بتشكيل كيان سياسي جديد، والدفع بجيل قيادي جديد لمؤسسات التنظيم، والاستحقاق الانتخابي القادم وسيضمن الحزب الجديد وجوده الفاعل في معادلة الشراكة والمحاصصة التي تفرزها الانتخابات.