ما هو الجمال؟ ولماذا يكون الجميل جميلاً؟ أسئلة حار فيها الناس كثيراً ولم يجدوا لها إجابات واضحة ومحددة. فمنهم من قال إن الجمال يندرج فيما يوصف بأنه جميل وليس له تعريف دقيق. ومنهم من قال إن الجميل هو الشيء الذي نرضى عنه مجرداً عن المنفعة. بينما اتفق آخرون على أنه لا يوجد تعريف دقيق للجمال أو معيار مطلق لقياسه، لأن تقدير الجمال يخضع لمبدأ النسبية، فهو يختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات، فسمات الجمال عند العرب ليست كتلك التي عند الإنجليز مثلاً. ومثلما اختلف الناس حول معنى الجمال وطبيعته اختلفوا حول سبل وطرق قياسه. فالجمال عند الصوفية ينبع من النفس لا من العقل، وبالتالي لا يخضع للتأمل العقلي أو للأبحاث المعملية. وهو عند العلماء التجريبين يخضع في قياسه للنظرة المنهجية، فيقيسون منه الكم الإعجابي (أي الجزء الذي حاز على إعجاب الأغلبية). والجمال عند الشعراء والفلاسفة لا يحتاج إدراكه لمعيار يقاس به أو برهان يدلل عليه إذ يكفي فقط الشعور بالارتياح والسرور والنشوة ليعرفوا أنهم أمام قيمة جمالية، من دون ترقب غاية أو انتظار منفعة. فالمنفعة في ذاتها ليست أساساً للتقدير الجمالي. فقد يصادف أن تكون بعض الأشياء الجميلة نافعة أو أن تكون غير ذات نفع. فهناك مثلاً أزهار غاية في الجمال أصلها شجيرات سامة. وهناك "الأفاعي" (التي قال عنها المتنبئ) "وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب"، فهي رغم ضررها البائن نحكم على ألوانها وملمسها بالجمال. ويعترض آخرون على هذا المذهب ويحتجون بالقول إنه طالما كان النشاط الإنساني بوجه عام يستهدف المنفعة فليس هناك جمال فيما لا منفعة ملموسة فيه. عموماً الناس -كما يقول الشاعر الإنجليزي وليام بليك- يتفاوتون في تقديرهم للجمال، فالشجرة التي تأسر البعض وتثير فيهم المشاعر الجياشة حتى يذرفوا الدموع فرحاً ونشوة، هي ذات الشجرة التي لا يرى البعض الآخر فيها سوى شيء أخضر يعترض الطريق. ومن الناس من هو في شاكلة الشاعر الأمريكي هنري ثورو الذي كان مغرماً بالأشجار، وهو القائل: "طالما سرت فوق الثلوج المتراكمة لمسافات تزيد على الثمانية أو العشرة أميال لأوفي بموعد قطعته مع شجرة "زانٍ" أو شجرة "بتولا" صفراء أو لمعاودة أصدقاء قدامى ومعارف من أشجار "الصنوبر". ومن الناس من هو على شاكلة الكاتب جوزيف كامبل الذي قال "إذا استغرق الإنسان في النظر إلى شجرة وفلتت منه لفظة آه يكون الله قد تجلى له". وهناك نماذج مغايرة بالطبع، كنموذج مركز التنمية الحضرية والريفية التابع لولاية الخرطوم الذي نظر عام 1999 إلى غابة السنط ولم يجد فيها نفعاً سوى "مساهمتها في الحفاظ على الموقع الذي تحتله إلى الوقت الذي تكون فيه الفرصة سانحة لإعداد مخطط عمراني متكامل للمنطقة" وانطلق من هذه النظرة ليوصي "بتخصيص منطقة الغابة لإقامة قصر رئاسي ودار للضيافة ومسارح". هذه توصية تشف عن إغفال متعمد لطبيعة الغابة ووظائفها ولخدماتها البيئية وقيمها الجمالية ولإنكار منافعها الإجتماعية التي أوضحتها دراسة تحديد قيمة المتعة الترفيهية لغابة السنط، تلك الدراسة التي أجرتها المرحومة بإذن الله الدكتورة هدى عبدالوهاب شعراوي الأستاذة بكلية الغابات جامعة الخرطوم بالإشتراك مع أحد طلابها حيث توصلت إلى أن متوسط قيمة المتعة الترفيهية للغابة من وجهة نظر الزائر تعادل 12 الف جنيه للزيارة الواحدة. علما بأن تقدير قيمة المتعة الترفيهية حسب المنهج الذي استخدم في هذه الدراسة يعتمد على مستوى دخل الزائر. وقد وجدت الدراسة أن معظم زوار الغابة كانوا من شريحة مجتمعية لا يتيح لها دخلها المتدني خيارات أخرى أفضل من الغابة كمنتزه. كما يعتمد على عدد الزيارات (بمعدل زيارتين للفرد في الشهر على مدى الستة أشهر التي تكون الغابة قابلة لاستقبال الزوار) وعلى بعد أو قرب موقع سكن الزائر من الغابة (وهذا يعني أن الدراسة لم تعكس قيمة المتعة الترفيهية التي توفرها الغابة لزائريها الذين يقطنون في محيطها وهم الغالبية من الزوار وذلك لأن تكلفة إنتقالهم من الغابة وإليها تساوي صفراً) لكل ذلك كانت القيمة الترفيهية للغابة التي عكستها الدراسة متواضعة للغاية بالنسبة لقيمتها الفعلية والحقيقية. وبالطبع سوف لن يفوت على القارئ ملاحظة أن أهداف الدراسة لم تكن تشمل تقييم الوظائف الأخرى لغابة السنط (كوظيفتها كمحمية طيور، أو مستودع للتنوع الأحيائي، وقيمها الإيكولوجية والتراثية، وقيمها الجمالية كمساحة خضراء وخدماتها البيئية كمغطس للكربون وخلافه) وإلا لكانت قيمة الغابة أرقاماً فلكية. خلاصة القول إن القيمة المتواضعة لغابة السنط التي عكستها دراسة الدكتورة هدى عبدالوهاب شعراوي تفسر القيمة المتواضعة التي تعكسها أرقام وإحصاءات وزارة المالية التي تقول إن إسهامات الغابات في الناتج القومي الإجمالي لا يتعدى نسبة 3ر3% وذلك لإغفال وزارة المالية لمبدأ المحاسبة الخضراء عند حساب إسهام الغابات في الناتج القومي، ذلك أن وزارة المالية تعتمد فقط على ما يدخل خزائنها من عائدات مبيعات الغابات المباشرة كالصمغ العربي والأخشاب ولا تعتمد الفوائد الأخرى التي لا تدخل حساباتها كحطب الحريق الذي يجمعه الأهالي مجاناً وتبلغ قيمته حسب بعض الدراسات ملياري دولار سنوياً إضافة لثمار الغابات والعلف الذي توفره الغابات للقطيع القومي والخدمات البيئة الأخرى كحماية التربة من الانجراف ومكافحة التصحر ووقف زحف الرمال، وحماية مجاري الأنهار، والخضرة والماء والذي هو أحسن. فهل يوجد في هذا الكوكب الأرضي أجمل وأنفع من شجرة. "يكفي أن الله عندما أراد إغراء الإنسان بالجنة أسرف في وصف الشجر" كما قال الشاعر محمود درويش. وكل عام والجميع بخير بمناسبة اليوم العالمي للغابات الذي يوافق 21 مارس الذي يصادف يوم عيد الأم، فما أجمل أن نهدي لكل أم شجرة في ذلك اليوم.