عيد الأم... تذكار بعد عشرين عاما كامل عبد الماجد نعم.. كان ذاك يوم فراقنا السرمدي.. برهة من الدهر جمعتنا فتلازمنا تلازم المنبع مع النهر.. والنهر مع الضفاف والضفاف مع العشب البليل.. برهة شكلت تلك الالفة الازلية التي لا تعرف الانفصام ولا الفتور.. إلفة لا تحتويها المعاني ولا تدرك كنهها الالباب.. إلفة تجري في الخلايا والاوردة والمسام ثم تخرج الى فضاء الحياة وتبدأ والعمر بضع ثوان وتمتد الى ما يشاء الله. مضت قرابة عشرين عاما منذ افتراقنا ذاك وكم شقيت بعدئذ بقولك وأنا أهم بالسفر ويدي ترتعش وأنا أودعك : (لا أظن انني سألتقيك بعد اليوم) تلك كانت لحظة تفترس في النفس الصمود وتهد جبل اليقين.. لحظة يخبئ بعدها القدر ما لا يتسنى لغير علام الغيوب إدراكه الا من إشارات ووجل وترقب وإلا من رجاء قد يصيب ولا يصيب.. وصدقت نبوءتك أن لا تلاقي بعد تلك اللحظة المرتعشة أذكر كيف خطوت بعزم مفتعل بعد وداعك الى خارج بيتنا صوب العربة وفؤادي يترنح ترنح الطير الذبيح. لم التفت وليتني فعلت اذن لفزت منك بنظرة أخيرة أخرى. أولست أنت من لفظ بنا في لجة هذا الكون العظيم بمدها وجزرها.. أفراحها وأتراحها.. آمالها التي تلوح وتدنو وتثبت حينا في الاكف وتلك التي يبعدها عنا الافول؟ أو لست أنت: ثم أمك. ثم أمك. ثم أمك. جاءني نبأ رحيلك وأنا بعيد أجد السير نحو غاية ابلغها في بادية شمال كردفان.. يرفعني كثيب ويخفضني آخر والرمال تحيط بركبنا من كل صوب.. كنت وقتئذ محافظا لتلك الديار البعيدة الحبيبة لنفسي. واراد من هاتفني بالنبأ أن لا يفجعني به كاملا فطفق يرسله متجزئا كان يقول : (وصلتنا برقية أن والدتكم مريضة) ثم بعد حين: (والدتكم بالعناية المكثفة).. ففهمت مقصده النبيل واستدرت صوب دار صباح. وسائقي ينهب بي الأرض وفيافي كردفان بتلالها وأشجار تبلديها تتوارى خلفي، ظل شريط حياتي ينداح بأكمله مبللا بالدموع وتراءث لي أمي ترفل في شبابها الغض أجمل ما تكون ونحن في الطفولة زغب الحواصل تفرد فوقنا جناحيها في حنو عظيم.. ثم تراءث لي ونحن نشب قليلا عن الطوق تنير لنا الدروب وتزيح عنها الاشواك.. فترات حببتنا فيها في الدراسة واقتفاء اثر المعرفة طوعا وقهرا.. ترغيبا وترهيبا بطبعها ذاك الحنون الصارم.. اللين القاسي.. كم بالله من دروس عجمت بها أعوادنا فاستقامت منا الاعواد ونصائح ثاقبة في الحياة عملنا بها فأدخلتنا الحياة مبصرين.. لم تنل من التعليم الكثير غير أن نصائحها ظلت تنير لنا مدارج الدنيا حتى بعد أن تلاحقت معها أكتافنا وغدونا كبارا وانجبنا لها الأحفاد.. ما أعظم أمهاتنا في السودان أميات أو أنصاف متعلمات شددن من أعوادنا وتعلمن بالقريحة دون معلم كيف تكون الرعاية الحقة والتربية السليمة والتنشئة وظلت تلك التنشئة تلازمنا مثل ظلنا في مدارج العمر لا تتوارى ولا تبارح... وكان الآباء في زماننا غيرنا نحن آباء اليوم.. كانوا أقل كلاما معنا وأقل اختلاطا بنا ويتميزون بصرامة وشدة اقرب للعسكرية منها للمدنية.. وكانت أمهاتنا إزاء هذا يلعبن دور حمائم السلام نشكو لهن وما نريد من الآباء نجعله يمضي عبرهن. سائقى يوشك أن يودع كردفان والسائقون بكردفان يمتازون بمهنية عالية ومن طبعهم الصمت إلا من إجابة لسؤال وكم يعجبني فيهم ذلك.. والطريق من شمال كردفان حتى مشارف النيل الابيض ينحني ويستقيم عبر الأودية والتلال وتطالعك بعيدا من جنباته أشجار التبلدي التي لا تنبت الا هناك.. وكنت برغم ما يغمرني من حزن وأسى لفراق أمي الابدي أتأمل تلك الفيافي والمساحات الشاسعة التي تتمطى عبر ضفتي الطريق. كم هي كبيرة البلاد التي حبانا بها الله دون سوانا.. سكان الهند مليار واربعمائة مليون نسمة ونحن لا نتعدى الاربعين مليونا ونعرى كثيرا ونجوع كثيرا.. خواطر ظللت وسائقي الصامت يمضي أعزي بها النفس وافتعل دون جدوى النسيان، وللشاعر صلاح عبد الصبور بيت شعر مدهش يقول فيه: (ما نسيناك ولكن قديم الجرح يغري بالتناسي) ولكن كيف ايها الشاعر العظيم والجرح جديد.. كيف السبيل الى التناسي؟ انتهت رحلتنا والفيت أهلي ينتظرونني لتجديد الانتحاب والعويل.. وقد غيبوا في ثرى الجزيرة حيث ولدت وولدت حبيبتي وصديقتي وأمي زينب أحمد أفندي الضو.. ولأهل بارا الذين لحقوا بي للعزاء عرفاني وودادي وفيهم من رأى لأول مرة الجزيرة.. أفاضل وأكارم وأهل عشرة وإلفة. كتب الكثيرون واحتفوا بعيد الأم وأمهاتهم أحياء يرزقن واكتب عن أمي التى رحلت احتفاء بذكراها وربما اكون أول من كتب في عيد الام عن أمه التي رحلت والعمر يمضي والحياة تمضي وقد غدونا شيوخا واصبحت بناتنا أمهات وقد طويت ترافقني زوجتي المسافة البعيدة الى الهند العام الماضي لحضور احتفال مدرسة حفيدتنا ميس محي الدين ابنة عبير كامل بيوم الجدود وقد ازدانت مدرستها الجميلة بالأزاهر والورد فتأمل بالله كيف يبجل أهل تلك البلاد العريقة الاجداد ويحتفلون بهم ويحتفون بفضلهم. هذا تذكار في يوم عيد الام فالناس قد يحتفون أيضا بالذكرى، وهل تبارح ذكرى الام أفئدة الناس: (احن الى الكأس التي شربت بها وأهوى لمثواها التراب وما ضما بكيت عليها خيفة في حياتها وذاق كلانا ثكل صاحبه فدما عرفت الليالى قبل ما صنعت بنا فلما دهتني لم تزدني به علما) وداعا أمي والتهانئ لكل في برزخك البعيد بعيد الأم