ما الذي يحدث الآن للسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة وإمام الأنصار؟ لماذا تبدو حركته مرتجفة وأقواله مرتبكة وقراراته متناقضة بعضها على الآخر فيما تبدو حالة سيطرته على كيانه وحزبه على نحو مثير لإشفاق موالي حزبه وأنصار كيانه ومحفز لتشفي خصومه واستهزاء غرمائه السياسيين من قيادات ومنتسبي التنظيمات السياسية الأخرى على الساحة؟ ما الذي يحدث؟ هل يعيش الزعيم التاريخي لحزب الأمة أزمة حقيقية في معالجة أوضاعه على شقيها الحزبي العام والداخلي الخاص ببيت آل المهدي بخصوصياته وبروتوكولاته أم أنه يعاني من ضبابية الرؤية التي تمنعه من استبصار المسرح السياسي وبالتالي قراءة الراهن السوداني الداخلي على الصورة الصائبة والحقيقية الشيء الذي يدفعه للتلويح بحربته في الفراغ أمامه تماماً كما ودون كيشوت أو كما تبدو حركات وخطوات فاقد البصر عند دفاعه عن نفسه أمام عدو لا يراه فيحسبه حيناً أمامه وحيناً آخر خلفه بمثل ما قد يظنه مرة عن يساره وأخرى عن يمينه وهي وضعية غالباً ما تفقد صاحبها اتزانه وقدرته على البقاء واقفاً على قدميه فيسقط سقوطاً مخيفاً حيث يرتطم جسده بقوة على الأرض في وضعية لا يتحسب لها ولا يستطيع لانعدام الرؤية لديه تفاديها أو على الأقل تخفيف خطورتها باتخاذ وضع يسمح بذلك على سرعة السقوط وحتميته،فهل يبدو الآن الإمام الصادق كما ودون كبشوت أو كما وهذا الأعمى يلوح هكذا بكلتا يديه محاولاً الإمساك بعدوه الخفي وفي ذات الوقت يجاهد لإبقاء نفسه واقفاً على قدميه؟ جملة من الشواهد تعظم هذا الظن وتجلسه على خطوط العقل والمنطق، فما عانى منه السيد الصادق خلال الفترات السابقة من انقسامات داخلية بحزبه لم يستطع في أي مرحلة تالية أن يتجاوزه ويبني من بعده واقعاً جديداً يوحده وحزبه مع الكيانات المنشقة عنه وما ظل يحدث من تقارب وتبادل للأفكار وتحاور بالأشواق والآمال بينه وهذه القيادات المنشقة لم يسفر مطلقاً عن واقع جديد يعيد لحزب الأمة قوته وتأثيره على الساحة السياسية فيما تسارعت على الرجل الأقدار فأفقده الموت آخر قياداته الحركية والتنظيرية المتميزة حتى بات وحده الآن، الصادق هو من ينظر وهو من يتحرك بمثل حركته هنا على ارتباكها وضعفها فيما قبع المتبقون من كيانه التنظيمي على أركان قصية مظلمة يرقبون ما يحدث بتململ وتوتر بالغين، هذا بينما مضى الغرماء وخاصة المؤتمر الوطني يدفعون من حالة التشظي والانقسام داخل حزب الأمة عبر تشجيعه لمن يخرج ومؤالفته لمن يقترب من حدود المشاركة الحكومية فكان أن تلقى الحزب سلسلة من الضربات المتوالية التي أقعدت تماماً بالروح التنظيمي المؤسسي الممنهج ومن الطبيعي في مثل هذه الأوضاع غير المستقرة أن تغيب عن الرجل الرؤية فتختلط الأوراق بين يديه وتتوه الأفكار وتتداخل على بعضها برسمها ولبها. هنا يصبح المهدي كما ومن يجري وراء ظله فتارة يدور على نفسه دورة كاملة وتارة يعدو إلى الخلف وأخرى يهرول إلى الأمام. تماماً كما التائه في البيداء لا يدري إلى أين يتجه. وقد شهدت مواقف الرجل خلال السنوات الأخيرة سلسلة من التناقضات المدهشة فهو حيناً يقترب كثيراً من أفق الالتقاء مع الحزب الحاكم حتى يكاد بخطواته أن يعبر بوابة مجلس الوزراء الغربية بين الشارعين الشهيرين بوسط الخرطوم ويكاد يدلف عبر خطوات إضافية إلى داخل القصر الجمهوري على شارع النيل ثم ما يلبث أن يعود قافلاً عن طريق شارع الجامعة مسترصداً هتافا من الماضي التليد، هتافا يعيده رئيساً للوزراء ولكنه في المرة الأخيرة خلال (حومته) بين مجلس الوزراء وبوابة القصر يأخذ معه نجله الأكبر ويدفع به إلى داخل القصر ويوصيه أن يعبر حديقته ليجد مكتباً بجوار مكتب السيد رئيس الجمهورية عليه أن يلازمه وبجلس عليه وكأنه يستلهم هنا شيئاً من العبارة الشهيرة لغريمه التاريخي ليقول لابنه المستشار: (اذهب أنت إلى القصر مستشاراً وسأذهب أنا إلى الدائرة محتارا)، والمهدي يمضي بفعل انسداد أفق الرؤية أمامه ليعيش حالة نادرة من التناقض والارتباك فتجده من على منبر واحد مع زعيم المؤتمر الشعبي المعارض الدكتور حسن الترابي يتوعد أهل الحكم بالوعيد وعظائم الأمور حتى إذا مضى به الحال إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور الحالة التي يعانيها تجاه مواجهة الحالة السياسية أمامه تجده بالأمس القريب (تحديداً يوم الجمعة الماضي في المركز العام لحزب الأمة خلال مخاطبته احتفال كيانه بالذكرى السادسة والخمسين للاستقلال أمام جماهير الأنصار) قد وضع الترابي في قفص الاتهام وكال له الوعيد وهدده بعظائم الأمور ليواجه حال تغير الحالة السياسية ذات المصير الذي سيواجهه أهل السلطة والمؤتمر الوطني! الترابي عاجز عن إحداث أي تغيير سياسي بالبلاد عبر انقلاب عسكري (وفق ما اتهمته الحكومة مؤخراً) ذلك حتى ولو كان ينوي ذلك دعوني مرة للاشتراك معهم في انقلاب عسكرى ورفضت والحديث لا زال للصادق المهدي. سنحاكمهم صفاً واحداً مع قادة المؤتمر الوطني نظير ما ارتكبوه سوياً، على الحكومة إن كانت تملك الأدلة الشروع في إجراءات قضائية ضد الترابي وحزبه، ويمضي المهدي في هجومه المدهش على الترابي الذي جالسه طوال السنوات الماضية على منصة النضال المشترك لإسقاط النظام الحاكم ليقول: إن ادعاء قيادة المؤتمر الوطني (ويقصد الترابي شخصياً) ان السلطات ترغب في اعتقاله لا يتجاوز سببين الأول محاولتها تجنب ما ستشهده الساحة من أحداث ملتهبة وتريد (أي الترابي) أن تجلس تحت شجرة (النبق) ليقوم الهواء بدوره فيسقط عليها النبق هكذا بدون أي مجهود نضالي، أو أنها (وهذا هو السبب الثاني في رأي المهدي) أنها أي قبادة الشعبىي تستعجل دورها ونصيبها من الكفاح وأضاف: إن المناضل الحقيقي لا يقول للسلطات اعتقليني حتى لا يحول اعتقاله دون كفاحه ونضاله وقال إن الاعتقال المتكرر من السلطات للترابي يوهم الناس بكفاح زائف وأن حزبه بتاريخه الطويل يرفض أن يتلقى الدروس من الذين صنعوا الشمولية في البلاد. ما الذي يحدث للصادق المهدي هنا؟ لماذا هذا الهجوم القوي على زعيم حزب المؤتمر الشعبي الدكتور الترابي؟ هل بدأ يشعر المهدي بأن الترابي بالفعل قد أفلح بالكامل في انتزاع الصوت المعارض للحكومة منه بل أصبح بالفعل هو حزب المعارضة الأول؟ ويبدو أن هذه هي بالفعل الحقيقة التي أفقدت الصادق المهدي رباطة جأشه فأفرغ ما يعتمل في نفسه من حنق وغضب شديدين على الدكتور الترابي الذي يكاد بمناوراته السريعة والتفافاته الذكية أن يفقد المهدي عقله. ألم يقل الرجل في ذات الاحتفال الأخير في المركز العام لحزبه أمام جماهيره المناصرة إنه هو من أقنع التحالف المعارض بقبول الترابي وحزب المؤتمر الشعبي ليكون ضمن التحالف المعارض للحكومة؟ ماذا يعني هذا الانفعال الغريب من جانب زعيم حزب الأمة؟ إنه يعني قطعاً أن المهدي قد ضاق ذرعاً بدهائية دكتور الترابي التي نقلته بسلاسة ونجاح (عقب خروجه الغامض من الحكومة إثر انقسام الإسلاميين المثير للجدل) من موقف لا يحسد عليه مهندسا وصانعا للانقلاب الإنقاذي في 1989م إلى موقف يبدو فيه مرتاحاً عقب سيطرته بالكامل على الخطاب المعارض والفعل المناوئ للحكومة وهذا يعني أن الرجل (وإن لم يكن يحكم إلى الآن برفض البعض لهذه الفرضية) فإنه حكم ما شاء أن يحكم وهو الآن يعارض ما شاء أن يعارض بل إنه (أي الترابي) بهذه الوضعية التي هو عليها الآن سيكون هو الزعيم الذي سيقود الربيع السوداني إذا ما هبت على الخرطوم رياح الربيع العربي التي مرت على تونس والقاهرة وطرابلس والآن تهب على دمشق وصنعاء، (يا له من رجل داهية). أما المهدي فقد غاب عنه الحكم سنوات طوال عجاف والآن توشك أن تضيع منه المعارضة إلى سنوات تاليات عجاف أيضاً، ويبدو أن هذه الوضعية تكاد تبرر بالفعل الحالة (الاهتياجية الهستيرية) للمهدي فهذا كثير على الرجل. خالد حسن لقمان ellogman@ yahoo.com