درجت البلاد على تنظيم مهرجانات صاخبة باهظة التكلفة في الخامس والعشرين من كل عام خلال الفترة الممتدة من 1970 الى 1984 وذلك احتفاء بذكرى الذين (حملوا رؤوسهم على أكفهم فجر ذلك اليوم لتخليص البلاد من حكم الأحزاب الطائفية والرجعية). وكان الذين قالوا تلك العبارة وظلوا يرددونها لعدة سنوات فصيلا متكتلا من اليساريين غير المنتمين لأي حزب من تنظيم الضباط الأحرار... وحرص هؤلاء الضباط على أن يشركوا معهم لإضفاء الطابع القومي على حركتهم عددا من العسكريين الماركسيين والقوميين ولكن إلى حين. وتمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والأربعون على ذلك الحدث كما مضت في أبريل المنصرم تسعة وعشرون عاما على انهيار النظام الذي سمي باسم الشهر الذي تأسس فيه وبعد عامين سقط في قبضة رجل واحد هو المشير الراحل جعفر محمد نميري. وقد واجه النظام خلال مسيرته التي امتدت لخمسة عشر عاما عدة محاولات للإطاحة به (70 أبا، 71 العطا، 75 حسن حسين، 76 الجبهة الوطنية، 82 حركة الرواد جمع رائد فالضربة القاضية ثورة 85). ونجحت الاخيرة في الإجهاز على النظام لسببين الأول شعبوية الثورة والثاني وهو موضوع مقالنا وأعنى تآكل وانهيار التحالف الذي أسسه وجلس على قمته نميري. وتشكل هذا التحالف من ثلاثة أطراف هي: أولا : القوات المسلحة أو كما أسماها القادة الجدد رسميا قوات الشعب المسلحة، ووفقا لضباط كبار لم يكونوا موالين له فإن نميرى في السنوات العشر الأولى من حكمه على الاقل أولى اهتماما كبيرا بالارتقاء بالقوات المسلحة تسليحا وتدريبا. ويقول هؤلاء الضباط انه بذكاء كبير فرض اسمه بطلا قائدا مهابا غير هياب خاصة في صفوف الجنود وضباط الصف والرتب العسكرية الوسيطة، واللافت أن ذات هؤلاء الاخيرين كانوا من الذين انخرطوا لاحقا في تنظيمات معادية للنظام، ومن ثم كان لهم الدور الأكبر فى انحياز القوات المسلحة للثورة الشعبية في ابريل. ولم يكن تخلي القوات المسلحة عن رجلها الذي حكم باسمها واشرك افرادا كثرا منها في إدارة الدولة انقلابا فجائيا فهي التي قدمت الشهداء في كل المنعطفات والمغامرات السياسية لنميري. وعندما بدأت الاصوات تتعالى من داخل القوات المسلحة منددة بفساد النخبة المتنفذة، قرر اهمالها وعدم الاستماع لنصائح الكبار فيها عادا إياها محاولة للتخلص منه... ولم يكن ولم يكن شكه هذا بعيدا عن الواقع، خاصة وإن نميري اصبح عبئا عليها... ثانيا : حلت الطامة الكبرى على النظام وعلى التحالف المساند له عندما اقدم برعونة على تفكيك الطرف الثاني في التحالف وهو الاقليم الجنوبي الذي تمتع بالحكم الذاتي في اعقاب اتفاقية اديس ابابا مارس 1972. ووفقا لهذه الاتفاقية الموقعة بين النظام ومتمردي الأنانيا بقيادة الفريق جوزيف لاقو حظيت المديريات الجنوبية الثلاث (الاستوائية، بحر الغزال، أعالى النيل) بمجلس تشريعي (شعب) وحكومة إقليمية مستقلة عن المركز الى حد كبير. وحققت الاتفاقية استقرارا أمنيا وسياسيا نسبيا لمدة عشر سنوات كانت قابلة للتمدد ولكن نميري الذي كان صدره يضيق عاما بعد عام للملاحظات السالبة من حلفائه لم يحتمل خلافات سياسية طبيعية في الإقليم. وقرر بعد أن تكاثر حوله جماعة (إشارات الرئيس أوامر) الإنقضاض على الإتفاقية فسحب من الإقليم الميزة الدستورية المعنوية التي تمتع، ووقعت القطيعة فى أعقاب الأمر الجمهوري رقم واحد لعام 82 (قطعوا من راسه) وتحول الإقليم بمقتضاه إلى (ثلاثة اقاليم ويطبق عليها قانون الحكم اللامركزي السائد في اقاليم الشمال.) وكان هذا الامر المنبت مخالفا لنصوص الاتفاقية ولم يستند على اي مادة دستورية... وبعثت تداعيات الامر برسالة سالبة للنخب الجنوبية (إدمان الشماليين نقض العهود) فبعد أن كانوا سياجا منيعا متبادلا حوله وبه، ولكونه الضامن الرئيس لتطبيق الاتفاقية انفضوا من حوله تدريجيا وتركوا الساحة لمحاربين قدامى من الأنانيا كانوا أصلا متشككين فى التزام الشمال بما تم الاتفاق عليه فشرعوا في إعادة تنظيم حركة التمرد والتأهب للعودة للغابة تحت مسمى الانانيا 2 التى تحول الجسم الرئيسي فيها فى مايو 83 الى الحركة الشعبية لتحرير السودان. ثالثا:انهيار الاتفاقية والذي ظل نميري ينكره دفع الضلع الثالث في التحالف الى التراجع خطوات الى الخلف نافضا يده من الأخطاء التي كان يغض الطرف عنها. وكان هذا الضلع وهو يتشكل من المعسكر الغربي (امريكا والناتو) وحلفائهم في الشرق الاوسط قد القى بكل ثقله الاقتصادى والسياسي والدبلوماسي لمساندة النظام ودعم مسيرته الجديدة التي تحددت بعد دحر انقلاب هاشم العطا باستنساخ التجربة الاندونيسية في نصب المشانق للقادة المدنيين والعسكريين من الشيوعيين وعد الغرب جرأة نميري في تدمير هياكل الحزب الشيوعي هزيمة للمعسكر الشرقي يستحق بسببها جائزة كبرى وتمثلت تلك الجائزة في اتفاقية أديس أبابا، وبسببها وفي سبيل الحفاظ عليها اتسع نطاق الدعم الغربي لنميري وأضحى من أحد أهم حلفائهم في الشرق الأوسط وشمال وشرق إفريقيا. ولعب الرجل أدوارا مهمة خلال الفترة من 71 الى 83 في افتعال العداء لحلفاء المعسكر الشرقي الذي ضم ليبيا، إثيوبيا واليمن الجنوبي، وكان مستعدا للذهاب لأقصى مدى ممكن في هذا العداء، وفي المقابل وخاصة بعد حرب اكتوبر 73 تدفقت حوافز البترودولارات العربية للاستثمار وتأمين مشاريع للبنيات الأساسية والإعاشية الضخمة في شمال وجنوب السودان. كان عام 83 حاسما لمكونات هذا الضلع وبدا واضحا حينها أن شعبية النظام انخفضت إلى ما دون الصفر بكثير ولم تعد النصائح لتحسين الصورة مجدية. وفاجأ نميري حلفاءه الغربيين تحديدا باستبدال القوانين السارية بقوانين الشريعة أو ما أطلق عليها قوانين سبتمبر. وكان بإمكان الغرب غض النظر عن هذه القفزة الهائلة ولكن اهتمام النظام باقامة مهرجانات الصلب، القطع والجلد والتشهير كانت محرجة لاصدقائه، فتحول على إثر ذلك في أجهزة الإعلام الغربية الى كانت على أعتاب الهيمنة الكاملة على صناع القرار من صديق الى منتهك رئيسي لحقوق الانسان في المنطقة وبدأ الغرب في البحث الجاد عن بديل من داخل النظام لا من خارجه. ولم يكن قائد النظام الذي أدمن العبث بمكونات التحالف والاستخفاف بردود أفعالهم منتبها للغيوم الراعدة التى بدأت تتكثف في سماء السودان، وتلاقت في مطلع عام 85 ودون اتفاق مسبق رغبة الغرب فى الاستبدال مع خطط المعارضة السياسية التى امتدت من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين للإطاحة برأس النظام بعد أن أضحى بلا سند. مشاهدات: - اعتبارا من مطلع ثمانينيات القرن الماضي أحكم مجموعة من الأكاديميين الانتهازيين الفاسدين الطوق حول نميري ونجحوا في رهن إرادة البلاد لسماسرة دوليين من ذوي العلاقات المتداخلة مع تجار السلاح والمخدرات. - احد هؤلاء وهو من حملة الدرجات العلمية الرفيعة كان يقصي العمال المكلفين بالخدمة من مكتب نميري، ويقوم بدلا عنهم ببعض الأعمال الخفيفة كحمل نظارة الرئيس المخصصة للقراءة على منضدة صغيرة (لزوم الاحترام) لتنظيفها بنفسه بالماء خارج المكتب (تفاديا لعدم الازعاج). - آخر أمر العمال بسرعة إزالة زهريات ورد بلاستيكية من امام مكتب الرئيس لأنه أي نميرى أبدى ملحوظة عابرة تنم عن عدم إعجابه بذلك النوع من الزهور. وقد اختفت الزهريات في لمح البصر بإشراف الرجل ذي الوظيفة الدستورية. - طلب احد الوزراء الملحقين بالقصر من شخصي كمدير مناوب ل(سونا) لحظة الاتصال هاتفيا تحمل مسئولية عدم نشر خبر فشل الطائرات الحربية الامريكية في انقاذ الدبلوماسيين المحتجزين في سفارتها بطهران على ايدي (الطلاب السائرين على خطى الامام الخميني) واضاف "احذفوا هذه الاخبار المزعجة من النشرات المطبوعة التي تعدها وكالة السودان للأنباء يوميا وعلى مدار كل ست ساعات للرئيس" وزاد "ما دايرين نزعجه"، ولكن القرار المخالف صدر من الاستاذ الصحفي الشجاع مدير الوكالة مصطفى امين الذى قال "الراجل ده مطرطش ولا شنو؟" والشجاعة هنا تنسحب عموما على كل مواقفه المهنية سواء قبل مايو او اثناءها. - ولا يعنى ما ذكرته آنفا أنه لم تكن هناك استثناءات وهي تشمل كل العسكريين الذين عملوا فى القصر بالإضافة إلى كل وزراء الإعلام.