العرب فريقان: واحد سهلٌ عليه أن يعوج لسانه بالإنقليزية واللغات الأجنبية عموماً كأهل الشام – وفي مقدِّمتهم اللبنانيون – والمغاربة وبعض طبقات المصريين على سبيل المثال، وآخر لا يجيد ذلك كالسودانيين واليمنيين والخليجيين على سبيل المثال أيضاً. ينبغي الانتباه هنا إلى أننا نتحدّث عن اتقان اللكنة تحديداً وليس إجادة الحديث باللغة الأجنبية، فالحالة الأخيرة رهن لعوامل أخرى كاستجابة البلد لسياسات المستعمر الأجنبي الثقافية ومدى تقدير الناس للثقافة الأجنبية ولو كانت مستعمرة وردات فعل الحكومات الوطنية المتعاقبة بعد الاستقلال بخصوص التعليم الجامعي من حيث إبقائه على اللغة الأجنبية أو تعريبه. والعوامل الأخيرة هذه من شأن بعضها أن يجعل بلداً كالسودان يُشتهر أبناؤه في زمن ما بإجادة الإنقليزية على الصعيد العربي على حساب بلد عريق وثيق الصلة بتعدد الثقافات الأجنبية الغازية كمصر.. إذا أخذنا القياس على الشعبين عموماً وليس رجوعاً إلى فئات بعينها في كل جانب. ذلك عن "العوامل الأخرى"، فما شأن العوامل الأولى (الأوّلية) المؤثرة في سلاسة انطلاق الألسنة العربية باللكنات الأجنبية وفي مقدِّمتها الإنقليزية ثم الفرنسية؟. تبدو تلك العوامل وثيقة الصلة باللسانين البدوي والحضري، فالأول موغل في خصوصيته اللغوية شديد التمسك بحذافيرها، والثاني قام على تلطيف حدة الأصول البدوية والقروية التي نشأ منها غير مستنكف أن يستجيب للوارد والشارد من المؤثرات العربية والأجنبية سعياً وراء المطاوعة - أو التطويع.. لا فرق – بوصفها غاية مدنيّة سامية. غير أن للمسألة جانباً (خفياً؟) يتعلّق بطبيعة الشخصية الوطنية نفسها من حيث قابليتها (ميلها) للمرونة، وعلى أهمية هذا الجانب تحديداً في تقديري فإنه لا يمكن إغفال حقيقة أنه واضح الصلة بدوره بالجذور البدوية والحضرية للشخصية الوطنية، ولكن على الرغم من ذلك فليس من الحكمة تجاوز عامل المرونة تماماً على هذا الصعيد، وذلك بسبب تباين نماذج الشخصية البدوية فيما بينها، تماماً كما هو الحال مع نماذج الشخصية الحضرية في العالم العربي عندما يقارَن بعضها إلى بعض. إذن سهولة اللهجة ولِينها من علامات التمدُّن عربياً وعالمياً على وجه العموم، وكان صديق عربي يشكو في ضجر كلما استعصت عليه لكنة بريطانية متذرِّعاً بأنها من لكنات الريف الإنقليزي الغريبة حتى على بعض الإنقليز من سكان المدن الكبيرة. وبرغم أن جاذبية كل لهجة ولكنة تكمن في خصوصية كلٍّ منهما، فإن لِلِّين والسلاسة جاذبيتهما الأكثر خصوصية على صعيد الفهم والإغراء بالمحاكاة. وقد وقفتُ أمام أوراق منشورة ضمن جلسات لمجمع اللغة العربية بالقاهرة بقدر ملحوظ من الانتباه إلى افتتان علماء اللغة العرب وتغزّلهم بعامية القاهرة التي نشير إليها الآن إجمالاً بالعامية المصرية، وكنت أتوقع من أهل الاختصاص في مقام دراسة اللهجات العربية قدراً أكبر من المقارنة بينها على صُعد التمايز المتعددة، وبرغم ثراء تلك البحوث مجملاً فإنها انهمكت في تفاصيل ليس من ضمنها ما هو واضح في المفاضلة بين اللهجات العربية على الأصعدة المختلفة خلا ذلك الافتتان الملحوظ بسهولة عامية القاهرة. هنا أتوقف عند العامية اللبنانية، فطراوتها وطلاوتها تكادان أن تكونا مبعث إجماع العرب اليوم، لكن ذلك الإجماع كان بحاجة إلى قرابة نصف القرن لإدراكه، فوسائل الإعلام العربي قبلها كانت تروِّج بشكل يكاد يكون حصرياً للهجة المصرية (القاهرية) سواءٌ في غضون رسائل فنية (بريئة؟) كالأفلام والأغاني أو في ثنايا سطوة سياسية تقتضي المتابعة ثم الاقتفاء بصورة لاإرادية. بعد نصف القرن المشار إليه أتاح الفضاء العربي - بالقنوات المنسوبة إليه - للجميع أن يُحلِّق بإبداعه الذي كان مقيِّداً على الأرض، وإنْ تباينَ ذلك التقييد قدراً ونوعاً من بلد إلى آخر. وكان من تداعيات ذلك التحليق العربي في فضاء الإعلام أن يكتسح بعض اللهجات الآذان العربية التي كانت حكراً على المصرية، وكان الحظ الأكبر في ذلك الاكتساح (إضافة إلى المصرية بطبيعة الحال) للهجتين السورية واللبنانية، الأولى بتأثير أعمالها الدرامية والثانية بسطوة برامجها ومذيعيها (رجالاً ونساءً)، حتى إنه نُسب إلى مسؤول من أحد البلدين (أظنه لبنان) وعدٌ بأن تكون عاميّته خلال سنوات قليلة هي الأولى في كل بيت عربي بعد لهجته الأم، وكان المقصود من ذلك كما هو واضح إقصاء العامية المصرية تحديداً عن سطوتها العتيدة. مرت السنوات القليلة واقتحمت اللبنانية ومعها السورية معظم بيوت العرب وزاحمتا العامية المصرية بالفعل وإن لم تستأثرا بمكانتها كاملة في نفوس العرب، ليس بسبب سطوة التاريخ الطويل في الانفراد بالأذن العربية فقط وإنما لأن النفوذ الإعلامي المصري لم يستسلم أمام المنافسة الشامية من لبنان وسوريا رغم الصدمة التي اعترته من قوة المضمون الإعلامي الذي تحمله اللهجتان وليس من اللهجتين مجرّدتين فحسب. ولا مناص لي من وقفة مع اللهجات المغاربية هذه المرة (وأستأذن المغاربة الأعزاء في هذا التعميم)، فقد أتاح الفضاء ذاته اكتساحاً مغاربياً موازياً ولكن على صعيد مقدّمي ومقدّمات البرامج وليس على مستوى الأعمال الفنية والإعلامية مغاربية الأصل. غير أن انتشار المذيعين والمذيعات المغاربة قد أتاح لا شك الفرصة كاملة للفضول العربي ليتلصص على اللهجات المغاربية في قنواتها الخاصة، وكانت النتيجة على ما يبدو أن آذان العرب قد رضيت من غنيمة اقتحام الألسنة المغاربية بالإياب إلّا ما كان على سبيل الاستزادة من استملاح تلك اللكنات بشكل عابر لا يُفقد الشخصية المغاربية ذاتها حظوتها من التقدير بسبب ما تقدمه من مضمون فني وإعلامي رفيع بعيداً عن صعوبة وطرافة لهجاتها. بمنأى عن العوامل المتداخلة المؤثرة في اتقان البعض للكنات الأجنبية مما أشرنا إليه أول هذا الحديث، فإن اللسان الهيِّن الليِّن يبدو واسع السطوة في التأثير سواءٌ على غيره من اللهجات أو بالمضمون الذي يحمله من الأفكار والمشاعر النافذة. وهكذا فإن أفكاراً ومشاعر جديرة بالنفاذ تتراجع من حيث التأثير وليس لها من ذنب سوى أن ألسنة أبنائها الدارجة لم تكن على القدر اللائق من اليسر والدعة. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته "نمشي و نجي"