د. عبدالعظيم ميرغني قراءات في الصوم والصمت الصوم يعني الامتناع أو الإمساك عن فعل أو قول. والصوم أنواع ودرجات. ومن أنواعه "صوم القلب الذي هو خير من صوم اللسان، وصوم اللسان الذي هو خير من صيام البطن" كما يقول الإمام علي. ومن درجاته –يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي- صوم العموم وهو الكف عن قضاء الشهوات؛ وصوم الخصوص (هم من صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى) وهو كف السمع البصر واليد واللسان وسائر الجوارح عن الآثام؛ وصوم خصوص الخصوص (هم الأنبياء والصديقين والمقربين) وهو صوم القلب عن الهموم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين حتى قيل أن من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبر ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة. وقد يجيء "الصوم" بمعنى "الصمت" بشكل مباشر أحياناً كما في الآية الكريمة "إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) "سورة مريم. ولهذا النوع من الصمت تاريخ طويل. ففي عهد الفراعنة كان الإنسان الصموت في مصر القديمة يعد الأكثر حكمة. ويرتبط الصمت عند كثير من المجتمعات بالجميل والنفيس والمقدس. ففي بعض المجتمعات البدائية ارتبط الصمت بطقوس الموت حيث يجتمع الناس لوداع الميت فيما يعرف بطقس الصمت الذي هو تواصل بين الميت والحي. ويعتقد في بعض الثقافات الآسيوية القديمة أن من الضروري أن يختلي الإنسان بنفسه ليفكر ويتأمل بهدوء تلافيا لتشتت الذهن وتجنبا للضغوط النفسية. ويطلق البعض على هذا النوع من الخلوة "رعاية الفراغ" أو "فعل لا شيء". وتعتبر الديانات الهندية القديمة عبارة عن ممارسة يومية ودائمة للتحكم في أهواء النفس وتحرير الذات بواسطة الزهد والتنسك عن طريق الصيام والتزام الصمت. ويقترن الصمت عادة بالتجربة الدينية. فعبر تجربة الصمت والسكون تبدأ نسك الدين. جاء في الأثر "إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنه يلقن الحكمة". والحكمة عند أرباب القلوب "عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، والعاشرة في العزلة عن الناس". والتسبيح الحقيقي عند حجة الإسلام الإمام الغزالي لا يكون بمسبحة أو بلسان بل يكون بالقلب، في الخلوة والسكون والصمت، " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ .. (205)".سورة الأعراف ويقترن الصمت أيضاً بالتجربة الجمالية الفنية، فالاسترخاء الذهني والعضلي الذي يمارسه الإنسان في خلوته، وحيداً صامتاً في هدأة الزمان والمكان، ينفتح به عقله الواعي على وعيه الباطن كما يقول علماء النفس، فتذوب عوامل الكبت وتتبدد عوامل القلق، فيتخلص من أي نازع خفي أو مستترٍ تحت الشعور أو اللاوعي، فيصغي للكون حتى يقترب من المقدس فيتفجر حكمة وشعراً وفناً وموسيقى. ففن الموسيقى (في جوهره) يستلهم نغماته من بحر الصمت والسكون، لأن البناء الموسيقي للأصوات يتشكل من النغمات (الخلايا اللحنية) والسكتات التي بين النغمات. وما ينطبق على الموسيقى ينطبق على شتى صور التعبير الأخرى كالكتابة والرقص والشعر وجميع الفنون. فالفنون عموماً –يقول الشاعر البرتغالي فرناردو بسوا- هي أن تقول شيئاً، وهناك طريقتان للقول: الكلام والصمت، والفنون التي هي ليست أدباً هي تلك التي تكون قابلة لصمت معبر، والصمت المعبر هو ذلك الصمت البلاغي الذي يوصف أحياناً "بالوهج الساكن وراء الحدث" أو هو "السكوت والإشارة للمعنى" الذين يرى فيهما ابن المقفع أرفع درجات البلاغة اللغوية. فالصمت ليس هو صمت الحواس فحسب؛ بل هو يتمثل في كل شيء في الطبيعة تقريباً. فهو الطاقة الكامنة التي تتفجر طاقة فاعلة للحركة، وهو السكون الذي يسبق العاصفة. وكل شيء سكنت حركته وصمت يقال إنه قد صام. "فقل خيراً أو فاصمت". "فالصمت لغة العقلاء"، "والصمت زينً ... والسكوت سلامة". "فمن صمت نجا" ولقن الحكمة. روي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يضع حصاة في فمه فاذا أراد أن يتكلم بما علم أنه لله وفي الله ولوجه الله أخرجها، وقيل إنما سبب هلاك الخلق ونجاتهم الكلام والصمت فطوبى لمن رزق معرفة عيب الكلام وصوابه، وعلم الصمت وفوائده، فان ذلك من أخلاق الأنبياء، وشعار الأصفياء، ومن علم قدر الكلام أحسن صحبة الصمت ومن أشرف على ما في لطائف الصمت وائتمنه على خزائنه كان كلامه وصمته كله عبادة. وروي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه قوله: جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر والسكوت والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة فطوبى بمن كان نظره عبراً وصمته فكراً، وكلامه ذكراً، وبكى على خطيئته، وأمن الناس شره . ورمضان كريم وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال. كانت تلك قراءات رمضانية من ارشيف الكاتب نشرت بتاريخ 30 اكتوبر 2006م ب(السوداني) الغراء.