أورد صاحبُ تاج العروس مادة «جنَّ» في تسع صفحات من الكتاب دار معناها في جملته حول «السِّتر»، وأمعن التجوال في معنى «الخفاء»، فقد سُمِّيَ الجنُّ بذلك لاستتاره عَنَّا «إلاّ إبليسَ كان من الجنِّ..» الكهف «50»، وكذلك الملائكة في بعض المواضع «وجعلوا بينهُ وبين الجِنِّةِ نسبا» الصافات (158)، ويُقال هم هنا الملائكة إذ رأى الكفارُ أن الملائكة بنات الله فضلَّوا بذلك وأضلُّوا، ولا يُقال للحديقة جنةً إلا إذا كانت مستورةً بالأشجار الكثيفة، وسُمِّيت جنة الآخرة -جنةً لاستتارها، ويُسمى الجنين جنيناً ما دام في بطن أمه، ونقول جن الليل أذا أظلم وستر الأشياء. ذلك كان القليل من الكثير حول مادة «جنَّ»،وجُنَّةُ الصوم هي سُترةٌ تحجب عن الصائم طائفةً من المعاصي اختلفت مصادرها واجتمعت مواردها. اختلفت مصادرها فجاءت من شهوة البطن والفرج، ومن الحواس من يدٍ ولسان وعين وأذن ورجلين، ومن القلب وما يجول فيه من حسدٍ وبغضٍ وأماني زوال النعم، واجتمعت مواردها عند مزالق الخطايا والذنوب. وإذا كان معنى الصوم لغةً هو الإمساك أو التَّخلِّي عن أشياء بعينها، فإن معناه الديني له من المداخل ما إن جماعها لينوء بذاكرة الإنسان، ويصعب إحصاؤه عددا، فالاقتصار على حصار النفس ومنعها من الأكل والشرب لا ينهض إلا بِنسبةٍ ضئيلة من التكوين الكُلِّي لهذه العبادة السامية أثراً ومقاماً، ولذا نرى أن كثيراً ممن وقفوا أنفسهم على هذه النسبة وأرخَوْا الإعنة لمشارب الشهوات الأخرى ليس لديهم من صومهم سوى الجوع والعطش. لعل أول إشارةٍ لعمق معنى الصوم هي النِّيةُ الصادرة عن قلب الإنسان ووجهتها لله، ولا يصح الصوم إلا بها خالصة لوجهه تعالى، وصدورها عن القلب يعني هذه النبضات التي تبث الدم حول أرجاء الجسم بعامة، وهي تبعث معه رسالة من موضع صدق توجهٍ لخالقه بعهدٍ هو الصفاء الخالي من كل درن قد تجلبه الغشاوات والأكنَّة في ساعات الغفلة التي يتسلل من خلالها الشيطان وهو يحمل مكوِّنات العمى من حقد وحسدٍ وغير ذلك من الأدواء التي تسافر عبر الدورة الدموية إلى الجوارح. أجل إن صدق النِّيةِ هو أول زينة لهذه الرحلة المباركة خلال هذا الشهر العظيم، إذ أن هذا الطُّهرَ الذي يغشى الجوارح من خلال دم النية الخالصة سيكون كابحاً قوياً ضد خروجها عن الطاعات، فلا عينٌ يمتد طرفها إلى حرام، ولا يدٌ تتناوله، ولا لسان ينطق به، ولا أذن تصغي إليه، ولا رجلان تسعيان إلى مواقعه.. إنه الصوم بعينه والذي عناه الله بقوله: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، فالصائم يقوده صومه للرد على من شتمه أو أساء إليه بقوله: اللهم إني صائم، لماذا كان اللجوء إلى هذه العبارة الضاربة في معاني التسامح والعفو؟ لقد تجوَّل الصائم حول الجوارح ليجد منها رداً بردِّ الصاع صاعاً أو صاعين، فوجدها مشغولة في عوالم التسبيح والتنزيه وهي محاطة بجوٍ من الروحانيات بعيداً عن صوارف خلوص العبادة فعاد إلى المسيئ بهذه الباقات من ورود الخير: اللهم إني صائم.