ونحن نترحّم على العزيز الذي رحل فاجأني محدِّثي بنقلة هزلية حادّة لا تخلو من الجدّ في المقصد العام لمحور الحديث حين قال ما خلاصته أننا كسودانيين بوجه عام نستحق النجاة من النار.. وإلا فأين سيذهب أغلب العرب؟. ولأن موقع القصة في الخليج، فإن كلام الرجل كان لا ريب مضمّخاً بأثر الجاليات العربية التي تكتظ بها تلك البقعة من العالم – ضمن ما تستضيفه من جنسيات كادت أن (أو هي بالفعل) تشمل العالم أجمع - كما لم يحدث من قبل في التاريخ. حديث صديقي ذاك - بتحديد أكثر - معجون بتجارب العمل ومكايداته الشرسة التي هي حصيلة فيض من الثقافات العريقة في تداول الحياة إجمالاً والعمل على وجه الخصوص بوصفه الأكثر إثارة للكامن من أخلاق البشر وطباعهم الصادرة باندفاع ومباشرة عن النفس الأمارة بالسوء. ولأن الخوض في السؤال عمّن سيدخل الجنة حَرِجٌ إلى حدّ التحريم عندما يتجاوز عموميّات الوعظ والإرشاد إلى التخصيص بجنس أو اسم فإن أول هذا الحديث لا يجب أن يؤخذ حرفياً بحال، حتى إذا كانت نية من قاله حينها لا تخلو من جدّ. إلى ذلك فإن طيبتنا (المرادفة للغفلة عند الآخر إنْ حقاً وإن باطلاً، والتي كان يعوِّل عليها صديقي في انتصاره لأخلاق السودانيين مقابل العرب) ليست مما يكفي لمنح صك الغفران بالنجاة من النار كما هو معلوم من الدين بالبداهة، فجدول حساب بني آدم - في مقام الزحزحة المرجوة من النار والإدخال المشتهى في الجنة - يتجاوز تلك العموميّات في الطباع والأخلاق إلى التفاصيل المحسوبة بمثقال الذرة من الخير ومثلها من الشر، ولا يكون الانتقال من تلك الدقة المتناهية في الحساب الربّاني إلى العموميّات المحظية – وأحياناً بعض الدقائق المخصوصة من الخصال والأعمال – معلّقاً سوى برحمة الله المنوطة بالحظ كما في قوله تعالى: "وما يُلقَّاها إلّا ذو حظ عظيم"، ومعلوم أن بعض المفسرين قد ذهب إلى أن الحظ العظيم هو الجنة، ومهما يكن فإنه لا دلالة للفظ حظ في الآية الكريمة أعمق عندي من المقصود صراحةً بالحظ في كلامنا المعتاد، على اعتبار أن حياتنا برمّتها هي حظنا الذي اصطفاه مقلِّب القلوب وعلّام الغيوب. ولكن حديثنا ليس معنيّاً في الأصل سوى بما يشير إليه العنوان وتجلِّيات ذلك في الدنيا بصرف النظر عن المآل في الآخرة مما يُرغَّب أو يُوعَد به الناس. وكُنا قد عرضنا بإسهاب في بعض مقامات حديثنا عن الشخصية السودانية للمكر بوصفه ضرورة مع حياة المدينة المعقدة فذهبنا إلى أنه ".. لا يبدو.. من العسير تبرير مكر المُجازَى في أي سياق للحياة، وفي هذا قياس واضح على إجازة السحر فكّاً للسحر كما عند بعض الفقهاء، غير أن التحدِّي الفقهي مع المكر أبلغ، فالسحر مضبوط بتحديد الفعل ومحدودية القادرين على ممارسته حتى إذا تسنى لأيٍّ مَن كان الاستعانة بهم والانتفاع من أثر السحر، أما المكر – كما الكذب والنفاق – فهو فعل يتخلّل حياة الناس ليس فقط بما يجعل كل واحد قادراً على ممارسته بل بما يجعله في مقدّمة ما تنطلق منه دوافع النفس الأمّارة بالسوء، خاصة عندما تنبعث أوامر النفس حفاظاً على مصالحها وطمعاً في المزيد منها، ولا حدود لذلك المزيد كما تؤكد شواهد الحياة على مرّ العصور في سائر البقاع". أرجو أن يصبر القارئ على مزيد من الاقتباس لدلالته وارتباطه المباشر بما يتعلّق بحديثنا هذا: "وإذا كان الكذب والنفاق – أو قليل منهما – من موجبات حياة المدينة المعقدة كما ذهبنا في التفسير المتعلق بهما على خلفية مدلولَيْ المجاملة والمرونة، فليس معنى ذلك أن القرى والبوادي خِلْوٌ من تينك الصفتين ولكنهما مما ينمو في المجتمع بنموّ آلياته وتعقدها وتستلزمه مسائل كقضاء الحوائج بين الناس وهم غير متعارفين خاصة في المجتمعات التي لم تنهض فيها مؤسسات الدولة بعدُ نهوضاً يكفل للأخيرة أن تنعم بلقب دولة المؤسسات بلا مزايدات يعوزها الدليل ومن قبلُ المنطق. مقابلَ ذلك يبدو المكر أكثر مراوغة مجدداً، فأدبيّات بعض الشعوب كالمصريين تنظر إلى المكر بوصفه سمة يُضاف إليها الفلاحون أبناء القرى وليس أيّاً من أبناء المدن المكتضة بالناس والمحتشدة بالمفاهيم. وقد ذهب كثير من المفسرين في شرح قوله تعالى: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً.. إلى إطلاق القول ليشمل الأعراب عامة بوصفهم سكان البادية دون أن ينفي ذلك التعميم بطبيعة الحال الشذوذ عن القاعدة إنْ لدى بعض القبائل أو بعض الناس في كل قبيلة، وجدير بالتنويه أن النفاق المقصود في هذا المقام أقرب إلى المكر منه إلى الكذب، فالكذب والنفاق حين عمدنا إلى تسويغ القليل منهما فيما ورد آنفاً كان ذلك تأسيساً على دخولهما في معنى المجاملة و المرونة، بينما النفاق المنصوص في الآية الكريمة يرد معطوفاً على الكفر بما يفيد المكر في أقصى أبعاده الممكنة لدى مجتمع عقائدي". وانتهينا إلى أن "المكر إذن بمعنى المراوغة والاحتيال إلى الحق والحقوق يدخل في باب ما لا غضاضة منه في المجتمعات المعقدة كالكذب والنفاق مجاملةً ومرونةً لا تفريطاً أو تعدِّياً، والقليل من المكر – كما القليل من الكذب والنفاق – بالمدلولات الحميدة المتفق عليها هو المنشود على هذا الصعيد لأن الأصل أن تنهض بمهمة انتزاع الحقوق في الدولة مؤسساتُها وليست قدرات أبنائها المتفاوتة على فهم الملتبس من الصفات واستخلاص الحميد من معانيها ثم إنفاذه بما يكفل عدم التعدِّي على الغير، فالحياة الحديثة أعقد من أن يؤسس لأخلاقها وقوانينها الناس فرادى على اختلاف عقائدهم وأمزجتهم، والنفس أمارة بالسوء أكثر مما نقرّ على عجل ونحن نردّد الآية الكريمة التماساً للعذر عن فعل افتضح أمره وليس استحضاراً للمعنى الجليل في مواجهة ما ستوسوس به النفس لا محالة مستقبلاً". بالنظر إلى المقصود بالمكر كما يتجلّى من حديثنا السابق المقتبس منه على النحو أعلاه، كيف يمكن ترتيب مستويات المكر في الشخصيات العربية؟. لا يجب أن يكون موضعَ نقاش مطوّل أو حتى قصير أن شخصيتنا السودانية تقبع في ذيل القائمة، وليس ذاك لسبب أوضح من أنها تعشق المباشرة، فهي إلى اللحظة تبدو مجبولة على انتهاج أقصر الطرق في التعبير عن المشاعر، والمكر في واحد من تعريفاته الموجزة عندي ليس سوى نقيض ذلك، خاصة إذا كان المقصود بأقصر الطرق الخط المستقيم كالعادة. وبرغم اضطراب الصومال – للدواعي التاريخية والحضارية المعروفة – في الثقافة العربية، فإن هذا من المقامات التي يصعب مقاومة إغراء استدعاء الشخصية الصومالية إليها بغرض المقارنة والتعليق، فلا منافس للسودانيين فيما يتعلّق بالمباشَرة المولعة بالخطوط المستقيمة في التعبير عن المشاعر وانتهاج الخطط - على السواء – أفضل من الصوماليين في المحيط الأدنى من الجوار.. إن لم يكن العربي محضاً فالعربي بين قوسين. ومثلما أن تراتبية العرب – كما عرضنا لها في "طبقات العرب المبدعين" – تبدو مرتبطة أشد الارتباط بسيرتهم مع الحضارة، وتحديداً الحضارة المتصلة في المدن، فإن مستويات مكر العرب لا تعدم صلة وثيقة بسيرتهم مع الحضارة على النحو المشار إليه. وعليه فإن اعتلاء المصريين و"الشوام" والمغاربة الذروة في هذه المنافسة يحمل من المدح فوق ما قد يخاله الحسّاسون منهم ذمّاً. ولكن الأدهى أن الحساسية تجاه الوصف بالمكر ستشمل الجميع وليس مرهفي المشاعر فقط من أبناء تلك البلاد، ما يعني أننا بالفعل نعيش معضلة الولع بإظهار نموذج مثالي للأخلاق وإضمار غيره (نقيضه أحياناً) مما يصلح للتمرير خلسة (طوال الوقت؟) لقضاء المصالح (ولا أبالغ إذا زدت بالقول: وقضاء الحياة بأسرها). في الطائفة المشار إليها أعلاه من العرب، وتأسيساً على التفسير نفسه، لا غرابة إذا اعتلى المصريون رأس القائمة للمتشابك شديد التعقيد من سيرتهم مع الحضارة والغزاة على وجه الخصوص الذين لم يكن ثمة مناص من التعامل معهم بوصفهم الحكّام وأبناء الطبقة المخملية في أغلب أوقات التاريخ المصري. أما المغاربة فهم في آخر القائمة الثلاثية تلك لا لشيء أظهر من تماسِّهم مع (وامتزاجهم ب) مختلف الحضارات والأعراق بما فيها تلك التي تؤثِر على المكر المباشرةَ في أنماط التفكير والانفعال، ومن الجدير بالنظر في سيرة المغاربة مع المكر أنهم ليسوا محترفي مبادرات بشأنه وإن يكن الرد بالمثل مما لا تعوزهم فيه الحيلة على كل صعيد. ولا يجب أن يغري تاريخ المغرب العربي المعقد بالتبسيط والاختصار إنْ في هذا المقام أو غيره، ولكن مسابقة من ثلاثة مشاركين ليست مما تصعب معه مغامرة القطع بالآراء، وعليه – وتأسيساً على القواعد والتفاسير نفسها – ليس عسيراً أن نقرّ بموقع الشوام (مستأذنين في وضعهم مجتمعين في خانة واحدة وبينهم من الفروق الحضارية ما عرضنا له في مقام سابق) في المرتبة الثانية بين الأول والأخير. وإذا كانت سيرة العراق مع الغزاة لا تقل وضوحاً عن سيرة المصريين مع الابتلاء نفسه، فإن غزاة العراق كانوا أشد فتكاً، وعليه فإنه ليس مما يغضب العراقيين فيما أزعم اعتلاؤهم قائمة العرب الأشد عنفاً ( بالحديث عن عنف المجازَى قياساً بمكر المجازى) لا الأكثر مكراً. وفي الجزيرة العربية من أدبيّات البادية ما يؤثر المواجهة بالمشاعر على طريقتنا السودانية المعهودة في المباشرة، لكن السيرة الحضارية المخصوصة لشبه الجزيرة العربية - ممثلة في نمط عيشها البدوي المستقل والتلاقحات المؤثرة والمتأثرة على مر القرون – قد جعلت للمكر حيِّزاً مستساغاً في قاموس الحياة هناك بوصفه من شرور الدنيا التي لا بدّ منها. وإذا كان لا مناص من البحث في منزلة المكر من الناحية الأخلاقية فإن العثور على إجابة ذات بال ممكن لصالح المكر إذا كان بإمكاننا أن نضرب أطناب الحدود الفاصلة بوضوح بين المكر والخديعة، أو بين المكر والخيانة إذا لم تكن "الخديعة" كافية لصعق من يتخذ "الحرب خدعة" مبدأً ينتظم الحياة في سائر أوقاتها بوصفها عنده حرباً مستمرة متقلبة الأشكال. ولأنه من الصعب الوقوع على تلك الحدود المشتهاة يبدو أن سيرة حياتنا المدنية المعقدة تدفعنا بصورة تلقائية إلى مزيد من المكر، وليس من اعتراض أخلاقي صارخ عندي على هذا الصعيد سوى حين نتجاوز - في ترسيخ المكر – ضروريات حياتنا العملية إلى سائر أنماط تلك الحياة حتى المتعلق منها بالمشاعر الخالصة. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته