د. عبدالعظيم ميرغني هل السياسة نفاق؟ يحكي عن رئيس الوزراء البريطاني تشرشل أنه كان دائم السخرية من الذين يربطون بين السياسة والأخلاق العامة، وروي عنه أنه قرأ عبارة كتبت على شاهد قبر نصها: «هنا يرقد رجل نبيل وسياسي عظيم»، فعلق بقوله كيف يرقد رجلان في قبر لرجل واحد! وسئل أحد وزراء خارجية بريطانيا ذات مرة عن رأيه في العلاقة بين السياسة والأخلاق فكان جوابه أن السياسة هي المهنة الوحيدة التي بعد أن تمارسها لا تعد صالحاً لممارسة أي عمل شريف. وأثر عن الرئيس الأمريكي الاسبق ريتشارد نيكسون نصحه لأحد معاونيه السياسيين بقوله: إن كنت لا تعرف كيف تكذب، فلن يكون بمقدورك أن تخطو أي خطوة إلى الأمام. والرئيس نيكسون وهو الذي اشتهر بين عامة الأمريكان بلقب "دِك المخادع "Tricky Dick منذ بداية حياته السياسية عام 1950، وهو الرئيس الذي أدين بارتكاب جرائم الكذب والخداع والتستر وإعاقة سير العدالة فيما عرف بفضيحة وترقيت التي أدت لاستقالته. وقد عرف عن كل من تشرتشل ونيكسون، وهما من أنجح رؤساء بلدين عريقين في قوانينهما وتقاليدها الديمقراطية، اقتناعهما بمنطق الارتماء في أحضان الشيطان ما دام ذلك يخدم أغراضهما. وعطفاً على ذلك علينا أن نتساءل هل السياسة نفاق؟ وهل من مقومات السياسي الناجح الاتصاف بالكذب والخداع؟ هذه الأسئلة وأسئلة أخرى من شاكلتها تتناولها حالياً العديد من الدوائر الثقافية والسياسية بمناسبة مرور الذكرى الأربعين (أغسطس 1974 – أغسطس 2014) لفضيحة ووتر قيت. وللإجابة على الأسئلة المطروحة نؤمن على أن السياسة هي مهنة مثلها مثل كل المهن، يخالطها الصالح والطالح، وهي مهنة يغلب على طبعها المداهنة والاستمالة والمداراة والتمويه والتلفيق والترغيب والتهديد والوعيد. والساسة متكافئون جميعاً في ذلك من حيث الممارسة لا يفرق بينهم إلا حصائد أفعالهم، وهم تبعاً لهذه الأفعال أصناف أربعة: صنف هم الساسة القادة، وهم قلة نادرة يغلب على أفعالهم الخير، يحيلون الروتين الى ثورة، والعادة الى استثناء، يخططون للمستقبل ولأجيال لم تولد بعد مثل اهتمامهم بأجيال الحاضر. وصنف من الساسة هم الغالبية العظمى يرجو نفعهم ويخشى ضررهم، وهؤلاء هم أصحاب النظرات العملية والمقدرات العالية في الوفاء باحتياجات الناس الآنية. وصنف ثالث من الساسة هم نسبة معتبرة لا يرجو نفعها ولا يخشى ضررها وهم صنف عادة ما يقف وراء حدوث الأشياء التي كان لها ان تحدث حتى ولو لم يقفوا وراءها أو كان غيرهم قد حل محلهم في إحداثها. وصنف رابع وهم قلة قليلة إلا أن خطرها عظيماً، فهذا الصنف من الساسة ليس لها من الأمر إلا ما أورده ماكيافيلي في كتابه "الأمير" من صفة الانتهازيّة. فهو تغلب على شخصيته الوصولية النفعية، فهو يخطّط لتحقيق أهدافه وتحصيل امتيازاته الشخصية بمختلف الوسائل غير المشروعة، بعيدأ عن القيم والمبادئ والأخلاقيات، وهذا الصنف دائم الإختباء خلف قناع زائف من الاتزان والطيبة، وادعاء البراءة، ومخاطبة المثاليات والقيم، وهو يهدف من هذه السلوكيات –إن تبوأ موقع الرئاسة- إلى محاولة استغلال مرؤوسيه وتوظيفهم لخدمة مصالحه الخاصة. أما إن كان في موقع المرؤوسً فيهدف من خلال هذه السلوكيات الحسنة إلى محاولة الحصول على ثقة رؤسائه للسيطرة عليهم، ثم يلجأ في الخفاء إلى تلفيق الأخبار والنميمة والنفاق والوشاية لتشويه السمعة الناجحين من زملائه لخداع رؤسائه، وهو لا يعيش إلا في الأجواء العكرة بغية تحقيق مآربه الدنيئة الضيقة، وهو يتزلّف أصحاب المناصب والرؤساء ويتوسل إليهم ويفرط في خدمتهم ومجاراة آرائهم وتعليماتهم وقراراتهم للسيطرة عليهم والظفر بهم لاستغلالهم قدر الإمكان؛ وهذا الصنف لا يتورع عن بيع نفسه لمَن يدفع الثمن الأغلى، وهو لا يتردّد في الانتقال من موقع إلى آخر أو تبديل حزبه أو بيع مبادئه مسقطًا كل معاني الوفاء والإخلاص لمَن مدّ له يد العون وقدمه للناس، فكل شيء قابل للبيع بالنسبة إليه من أجل مصالحه الشخصية. وهذا الصنف من الساسة الوصوليين ذوو نفسية قلقة ومضطربة، وهم دائمو المعاناة من الشعور بالدونية وعدم الأمان، وكيفية التعامل معهم يحددها موقعهم من السلطة: فإذا كانوا مرؤوسين فهذا يعني أنهم يوجّهون سهامهم إلى المتفوقين من زملائهم الذين يُفترض بهم التحلي بالقدر الكافي من الوعي والمعرفة والإستعداد النفسي لمنعهم من إلحاق الأذى بهم أو بالآخرين انتقامًا لمعاناتهم المكبوتة. أما إذا كانوا رؤساء فيكون المرؤوسون هم الذين يدفعون ثمن أفعالهم ويكون عليهم، بالتالي، إما التحمّل أو ترك العمل معهم، لأن التقرّب منهم وإحاطتهم بالاهتمام والرعاية لن يمنعاهم من استغلالهم لمصالحهم الشخصية حفاظًا على مواقعهم وأهدافهم، أو خشية افتضاح أمرهم، أو عند شعورهم بخطر يتهدّدهم. وأحياناً يتحالف الوصولي الرئيس بالوصلي المرؤوس ليشكلا معاً فريقاً يحقق أهدافهما المشتركة، تطبيقاً للمثل القائل إن الطيور على أشكالها تقع. خلاصة القول إذا سُئلنا: هل السياسة نفاق؟ وهل السياسيون منافقون؟ فالجواب أن نصيب السياسيين من النفاق هو على قدر نصيب الشعوب التي يحكمونها من الجهل والغفلة، فكيفما تكونوا يولى عليكم. فعلى الشعوب وقواعد الأحزاب مسئولية مراقبة ومحاسبة ممثليها في السلطة كما تفعل كل الأحزاب والشعوب ذات التقاليد الراسخة في الديمقراطية. فالسؤال المركزي الذي تتناوله الدوائر الثقافية والسياسية الأمريكية في الذكرى الأربعين لفضيحة ووتر قيت هو: كيف تعاملت أجهزة نظام الحكم الأمريكي مع هذه الحادثة؟ وهل أثبت االنظام الأمريكي كفاءته وفاعليته؟ فالأمر أمر نظام لا أمر أفراد منهم الصالح ومنهم الطالح الوصولي النفعي الإنتهازي الذين طالما حكى لنا التاريخ أن وجود أمثاله في السلطة هدد كيانات وأوطان. كانت تلك قراءاتي لهذا الأسبوع استقيتها من مصادر عديدة.