تصبح عجوزاً عندما تدرك أن هذا هو كلّ ما لدى الحياة، بمعنى أنك لن تحصل على المتعة المشتهاة إلى الأبد وأن سرعة تسرُّب الملل إلى نفسك تفوق أضعافاً مضاعفة مدى الرضا الذي تنتظره مع تحقق الأمنيات والأحلام التي كانت يوماً ما منتهى أملك في الوجود. سألَتْ الفتاة في الأسبوع الأول من شهر العسل صديقتها التي سبقتها إلى الزواج عن التجربة وهي تنتظر تُحَف الإبداع في التعبير عن أكثر أحلام الفتيات شاعرية وهو يتحقق، وكانت إجابة العروس المباشرة والصادمة للصديقة التي لا تزال تجلس على قائمة انتظار فتى الأحلام شيئاً من قبيل عنوان هذا الحديث ولكن على صيغة سؤال مقابل ومع الزواج تحديداً: "هل هذا كل شيء في الزواج؟"، ولم يكن في مقدور الصديقة التي لم تخض التجربة بعدُ أن تجيب بطبيعة الحال على السؤال بأكثر من إضمار الدهشة والاحتفاظ بأقصى درجات الحيطة من الإحباط. ولو أن العروس أعلاه توجّهت بالسؤال إلى زوجة مجرَّبة لكانت الإجابة هي الصادمة لا السؤال كما كان الحال مع الصديقة البِكْر، فليس عسيراً أن نستنتج إجابة امرأة عركتها الحياة الزوجية في ظروف اقتصادية (ومزاجية) اعتيادية ولا نقول صعبة بالضرورة: "إنت لسه شفتِ حاجة"، إشارة إلى القادم بعد شهر العسل ليس مللاً من الرتابة فحسب وإنما في مواجهة التبعات الاقتصادية والتحديات النفسية التي تجابه أية حياة زوجية في العادة. ولأن منغصات صفو الحياة ليست حكراً على الزواج فإن الوعيد المشاكس: "إنت لسه شفت حاجة" يصحّ أن يقال لكل مبتدئ على أي صعيد تسرّب الضجر إليه باكراً في بدايات التجربة، والملل هو أيسر المنغصات وأعمقها في الوقت نفسه لأنه يحدث بلا مقدِّمات وبدون أسباب وجيهة أكثر من أن مدّة من الزمن قد انقضت، والأغلب أن تلك المدة أقصر بكثير من توقعاتنا الحالمة مهما تكاثرت التجارب معنا وادّعينا الحصافة في اقتناص العِبَر، فالإنسان مولع على ما يبدو في هذا الصعيد بتأكيد معنى النسيان الذي اشتُقّ منه اسمه كما هو دارج. بالعودة إلى الحياة برمّتها، بوصفها أمّ التجارب التي ولدتها جميعاً، فإن من حظ الواحد أن يحتفظ بحفنة من الأمنيات والأحلام العنيدة مهما بدا هذا القول إنشائياً، والذي يجعل الكلمات السابقة كالحِكَم البالية أن مروّجيها ينسون (وقد لا يدركون) ما يلزمها من تكملة ضرورية خلاصتُها أنْ يسعد الواحد - إلى ذلك - بحظ إرادة المثابرة والقوة على إنفاذ تلك الإرادة على الواقع، هكذا فقط ينجو البعض من رتابة الحياة.. ولو إلى حين، فالأبعث على نكد الدنيا (لا رتابتها فحسب) أن تملك من الأحلام ما لا تعينك إرادتك أو قواك على تحقيقه. ولكن الملل في الحياة (ومنها) قادم (ومتكرر) لا محالة، وعليه فإن الأكثر سعادة هو الأبعدُ مسافة من الملل المتربِّص والأقلُّ حظاً من تكرار نوباته، أما اتصال السعادة (وهو ما نقصده تحديداً عند الحديث عن السعادة مجملاً) فهو المستحيل بعينه. وبالعودة إلى الملل مع الكِبَر تحديداً، وعلى غير ما نظن، فإن الضجر قد ينتابنا من تبعات الوجود قبل السن التي جعلت زهير بن أبي سلمى يقول: "سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش* ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ"، وإن كنا على الأرجح نسأم قبل أن تدركنا الشيخوخة ألاعيبَ الحياة تحديداً لا تكاليفها مجملة.. على اعتبار مراوغات الحياة جزءاً من تكاليفها. وعليه فقد تدرك قبل أن تصبح عجوزاً أن هذا هو كل ما لدى الحياة، وأن الإنجاز السحري الذي يمنحك السعادة (المستمرة) ليس سوى ضرب من أوهامنا - نحن بني آدم - التي نصرّ على ملاحقتها دون أن نكترث لتجارب من سبقنا أو تجاربنا الشخصية. وإذا كان من حقك أن تزهو بالسبق إلى الوقوف على أسرار الوجود لاقتناصك باكراً أمثال تلك الحقائق فاعلم أن هذا من نكد الحياة عليك، ذلك أن بهجة الدنيا معلّقة بالأمل وإن يكن كاذباً حتى لو كانت استقامة العلاقة معها (الدنيا) معلّقة بإدراك الحقيقة إذا كان من وقائع الحياة ما هو جدير بالوصف الأخير. والطغرائي مصيب في لاميته الشهيرة حين يقول: " أُعَلِلُ النَّفْسَ بِالآمَالِ أَرْقُبُهَا * مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلَا فسْحَة الَأمَلِ"، على الرغم من أنني لست متأكداً مما إذا كان الرجل يعنى الأمل الكاذب، وأوشك أن أقول إن كل أمل في الدنيا كاذب ما دام عاجزاً عن إبقاء صاحبه في منأى من براثن الملل المتربِّص في ثقة على الدوام. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته