كلية الآداب / جامعة بحري في شهر أغسطس 1961م صدر كتاب في لندن بعنوان everymans africa من إعداد John hatch تناول في صفحاته جانباً من تاريخ أفريقيا، وقد أشار فيه إلى الوضع السياسي الذي كان قائما بالسودان في ذلك الوقت بقوله: (عندما تسلم الفريق عبود الحكم من السياسيين كان هدفه الأصلي هو الاحتفاظ بالسيادة السودانية، عمره سبعة وخمسون عاما وهو محافظ متدين وفوق كل شيء سوداني وطني). وهذا الشهر وتحديدا يوم 17 نوفمبر يصادف ذكرى أول انقلاب عسكري في السودان وهو حقبة تاريخية مهمة، إلا أن البعض خاصة المشتغلين بالتاريخ والعلوم السياسية ظلوا يتجاهلونها ربما عمدا، ولذلك رأينا أن نلقي الضوء عليها من خلال ما توفر لدينا من وثائق ومراجع مصدرها الأول دار الوثائق السودانية. في يوم 15 نوفمبر 1958م كان المسرح السياسي السوداني ظاهريا يوما عاديا. مناكفات على صدر الصحف لا تخلو من اتهامات هنا وهناك، وكذا الحال قي اليوم التالي، إلا أن حركات الجيش في شوارع الخرطوم لم تكن عادية، ولكنها لم تُثِرْ الفضول أو الانتباه. وفي نفس هذا اليوم أفادت المصادر بأن السيد عبد الرحمن المهدي التقى بقادة الجيش وأفادهم بفشله في حل مشكلات الأحزاب المكونة للبرلمان سياسيا، وأبلغهم موافقة السيد علي الميرغني على استلام القوات المسلحة للسلطة. في 17 نوفمبر 1958م أذاع الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش السوداني بيانا جاء فيه: )أيها المواطنون.. أحييكم جميعا أطيب تحية وبعد، كلكم يعلم ويعرف تماما ما وصلت إليه البلاد من سوء وفوضى وعدم استقرار للفرد وللمجموعة، وقد امتدت هذه الفوضى والفساد إلى أجهزة الدولة والمرافق العامة، لما تعانيه البلاد بدون استثناء. كل هذا يرجع أولا لما تعانيه البلاد من الأزمات السياسية القائمة بين الأحزاب جميعا؛ كل يريد الكسب لنفسه بشتى الطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة باستخدام بعض الصحف والاتصال بالسفارات الأجنبية، وكل ذلك ليس حبا في إصلاح السودان وحفظ استقلاله وتقدمه ولا رغبة في صالح الشعب المفتقر للقوت الضروري، ولكنه جري شديد وراء كراسي الحكم والنفوذ والسيطرة على موارد الدولة وإمكانياتها، وقد طال وكثر ذلك وصبرنا على تلك الحكومات الحزبية حكومة تلو الأخرى آملين أن تتحسن الأحوال ويسود الاستقرار وتطمئن النفوس وتزول الكراهية الكامنة في النفوس والقلوب؛ ولكن مع الأسف الشديد لم تزدَدْ الحالة إلا سوءاً، فنفد صبر كل محب لسلامة السودان، وشكا كل فرد من تدهور الحالة، وما آلت إليه البلاد من الفوضى والفساد حتى كادت البلاد أن تتردّى إلى هاوية سحيقة لا يعلم مداها إلا الله، ونتيجة لذلك، وهو المسلك الطبيعي، أن يقوم جيش البلاد ورجال الأمن بإيقاف هذه الفوضى، ووضع حد نهائي لها، وإعادة الأمن والاستقرار لجميع المواطنين والنزلاء، والحمد لله قد قام جيشكم المخلص في هذا اليوم السابع عشر من نوفمبر 1958م، بتنفيذ هذه الخطة السليمة المباركة، والتي بإذن الله ستكون نقطة تحول من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الفساد إلى النزاهة والأمانة، وإني أثق بأن كل مخلص لهذا البلد سيقبلها بصدر رحب. أيها المواطنون؛ إننا إذ نقوم بهذا التغيير للوضع الحالي، لا نرجو وراء ذلك نفعا ولا كسبا، كما إننا لا نضمر لأحد عداءً، ولا نحمل حقداً، بل نسعى ونعمل للاستقرار وإسعاد الشعب ورفاهيته، ولذا فإنني أطلب من جميع المواطنين أن يلزموا السكينة والهدوء؛ كل يقوم بعمله بإخلاص تام للدولة.. الموظف في مكتبه والعامل في مصنعه والمزارع في حقله والتاجر في متجره. وبما أن قوات الأمن قد تسلمت مقاليد الحكم ولكي تستطيع أن تقوم بمهمتها خير قيام فإنني آمر بالآتي وأن ينفذ فورا: 1/ حل جميع الأحزاب السياسية. 2/ منع التجمعات والمواكب والمظاهرات في كل مديريات السودان. 3/ وقف الصحف حتى يصدر أمر بذلك من وزير الداخلية. إن سلطات الجيش تطلب من جميع المواطنين تنفيذ ذلك بروح طيبة كما إنها لن تتوانى قط في توقيع الجزاءات الصارمة عليهم. وقبل أن أختم كلمتي هذه، أود أن أطمئن السادة السفراء وقناصل الدول والجاليات الأجنبية علي ممتلكاتهم، كما يطيب لي إن أؤكد أن السودان الحر المستقل سيبني علاقاته مع جميع الدول عامة والعربية خاصة على أساس من الاحترام والود وتبادل المنفعة، أما شقيقتنا الجمهورية العربية المتحدة (مصر)؛ فسنعمل جاهدين لتحسين العلاقة وحل جميع المسائل المعلقة وإزالة الجفوة المفتعلة التي كانت تسود البلدين الشقيقين، وختاماً أسأل الله التوفيق وللشعب كله الاستقرار والأمن والرفاهية). أوضح الفريق إبراهيم عبود أن من الأشياء التي لفتت انتباهه قبل الانقلاب العسكري، أن الديمقراطية انقلبت إلى حزبية يحاول فيها كل حزب جمع أنصاره ليقف ضد أي مشروع ولو ضد مصلحة السودان. وفي نفس يوم 17 نوفمبر اتجه الفريق إبراهيم عبود وأحمد عبد الوهاب إلى السيد عبد الرحمن المهدي في باخرته الراسية قبالة جزيرة توتي لتوقيع بيان يؤيد الانقلاب، إلا أنه رفض التوقيع وكلف عبد الرحمن علي طه بالتوقيع علي بيان جاء فيه: (وقد جاء الوقت الآن لي ولكم جميعا من أبناء الشعب السوداني أن تكونوا سعداء وتحتفلوا بأن الله قد منحنا من أبنائنا المخلصين من قادة الجيش الذي تسلم زمام السلطة بحق وعزيمة ليحقق للشعب الذي كان يتطلع نحو الأمان، حيث فشل القادة السياسيون في تحقيقها وكونوا واثقين واجعلوا أرواحكم مرتبطة بهذه الثورة المباركة التي نفذها جيشكم). كما أصدر السيد علي الميرغني بيانا أذاعه نيابة عنه محمد عثمان الميرغني جاء فيه: (لقد تقبلنا نبأ تسلم جيش السودان بقيادة ضباطه العاملين زمام السلطة في بلادنا. وإننا نأمل أن تتضافر الجهود وتخلص النوايا لتحقيق الطمأنينة في النفوس وتوطيد الأمن والاستقرار في ربوع البلاد). تشكلت الحكومة الأولى لانقلاب 17 نوفمبر على النحو التالي: 1/ الفريق إبراهيم عبود: رئيسا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيسا للوزراء. 2/اللواء محمد طلعت فريد: وزيرا للاستعلامات. 3/الأميرلاي أحمد عبد الله حامد: وزير الزراعة والري. 4/أحمد عبد الوهاب: وزيرا للداخلية. 5/أحمد رضا فريد: وزيرا للأشغال والثروة الحيوانية. 6/حسن بشير نصر: وزيرا لشؤون الرئاسة ونائب القائد العام. 7/أحمد مجذوب البخاري: وزيرا للمواصلات. 8/زيادة عثمان أرباب: وزير المعارف والعدل. 9/أحمد خير المحامي: وزيرا للخارجية. 10/عبد الماجد أحمد: وزيرا للمالية والتجارة. 11/سانتينو دينق: وزيرا للثروة الحيوانية. 12/محمد أحمد علي: وزيرا للصحة. أجريت بعض التعديلات الوزارية خلال عمر هذه الحكومة الذي امتد لست سنوات وكان على النحو التالي: 1/ الأميرلاي محيي الدين أحمد عبد الوهاب: وزيرا للمواصلات بدلا عن مجذوب البحيري. 2/ محمد نصر عثمان: الاستعلامات والعمل. 3/ سليمان حسين: المواصلات بدلا عن محيي الدين أحمد عبد الله. 4/ أحمد علي زكي: وزيرا للصحة بدلا عن محمد أحمد علي. 5/ مكي المني: وزيرا للزراعة بدلا عن أحمد عبد الله حامد. 6/ مقبول الأمين الحاج: وزيراً للداخلية والحكومة المحلية بدلا عن أحمد عبد الوهاب. 7/ مأمون بحيري: وزيرا للمالية والتجارة بدلا عن عبد الماجد أحمد. وفي 21 مايو 1959م حدثت محاولة انقلابية للإطاحة بالحكومة، وتم القبض على الانقلابيين وتقديهم إلى محاكمة عسكرية، فأصدرت عليهم عددا من الأحكام وكانت جملة الذين طالتهم هذه المحاكمات اثنين وثلاثون، بينهم ثلاثة من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبعض أعضاء مجلس الوزراء، قضت المحكمة بإعدام ستة منهم رميا بالرصاص، وهم الأميرلاي محيي الدين وشنان والبكباشي محمد علي السيد وعبد الحفيظ شنان وحسن إدريس والصاغ أبو الدهب، وقد عدل الفريق إبراهيم عبود الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبد بالنسبة للجميع كما تم الحكم على ستة آخرين بأحكام الطرد من خدمة الجيش (اللواء أحمد عبد الله حامد، الملازم أول الطاهر إبراهيم)، وأدانت الأربعة الباقين بالسجن مُدَدَاً تتراوح بين سنة وخمسة عشرة سنة. وأصدرت المحكمة الإيجازية قرارها بشأن عشرين ضابطاً ممن اعتبرتهم لهم علاقة بالقضية وأصدرت حكمها بالطرد والإبعاد والاستغناء عنهم. وقد استطاعت حكومة نوفمبر أن تخطو بالسودان بضع خطوات في التنمية خاصة في الشمال، أما الجنوب فقد كان مسرحا للعمليات العسكرية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب، وفي ذلك يشير محمد عمر بشير: (ولعله من الجائر القول بأن النظام العسكري قد حقق في أرجاء الشمال ما اعتبره المراقبون ضربا من ضروب الاستقرار خلال الأربع سنوات الأولى، ولكن مهما يكن من أمره، فإن المراقب السياسي لا يسعه إلا أن يقر بأن مثل هذا الاستقرار كان استقرارا سطحيا، قام على أساس من كبت نشاط الأحزاب السياسية وسجن عدد كبير من السياسيين. أما فيما يختص بالجنوب، فقد شرع في كبت المعارضة بمثل ما تصدّى لها بالشمال، وفضلا عن ذلك أسرع في إدخال اللغة العربية والدين الإسلامي بأرجاء الجنوب اعتقادا منه بأن ذلك هو طريق الوحدة في المستقبل بين الشمال والجنوب). وفي السياسة الخارجية عملت حكومة 17 نوفمبر على ترميم الشرخ الكبير الذي حدث في العلاقات السودانية المصرية، وتمت الاتفاقية بين البلدين الخاصة بمياه النيل والتجارة والدفع والجمارك وذلك في اليوم الثامن من نوفمبر 1959م بمقر وزارة الخارجية للجمهورية العربية المتحدة. أما علاقة السودان بدول الجوار الأفريقي فقد تحكمت في مسارها بشكل أساسي مشكلة جنوب السودان، إذ إن معظم تلك الدول تتاخم السودان، وكانت المعارضة الجنوبية تتحرك من أراضيها، فكانت قوات الحكومة السودانية تطاردهم حتى داخل تلك الحدود لدول الجوار الأفريقي. ومهما كان من أمر، فقد بدأت المعارضة الشعبية السلمية تطل برأسها منذ أواخر 1964م مما مهد الطريق سريعا لزوال أقوى وأشرس حكومة وطنية تمر على البلاد. وفي منتصف نهار 15 نوفمبر 1964م أذاع الفريق إبراهيم عبود تنازله عن سلطاته كرئيس للدولة وقائد أعلى للقوات المسلحة، بعد أن كان قد حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 21 أكتوبر1964م، وانتقلت سلطاته مؤقتا إلى مجلس الوزراء حتى يتم التشاور على مجلس السيادة وفق دستور 1956م. وجاء في خطاب الفريق إبراهيم عبود: (احتراماً لرغبة الشعب السوداني وهو مصدر السلطات في انتهاء الوضع العسكري بكافة صوره، وبعد اقتناعه بأن الحكومة القومية تمثل الرأي العام السوداني في كافة قطاعته وأنها أهل للاضطلاع بالمسؤوليات الخطيرة التاريخية الملقاة على عاتقها في تأمين سير البلاد بإجراء انتخابات حرة نزيهة تنبثق عنها الجمعية التأسيسية التي ينتخبها الشعب انتخابا حرا، لتضع الدستور الدائم للبلاد). وأشار الفريق عبود إلى أنه قد أدى واجبه على الوجه الذي فرضته عليه الظروف، عليه فإنه قرر التخلي عن رئاسة الدولة ومهما اختلف الرأي بين المواطنين حول حكمه، كان رائده خير السودان وهدفه تحقيق مصلحته العامة والحفاظ على استقلاله ووحدته. واختتم الفريق إبراهيم عبود خطابه بعبارات مؤثرة (إني إذ أستودعكم الله، أدعو لكم بالاستقرار والازدهار، وأتمنى دوام وحدتكم، وأدعو الله من قلبي أن يشمل هذا البلد الأمين برعايته، وأن يحقق أمانيه في حياة كريمة). ::: مصحح/حاتم