كان الحدث الثقافي الأبرز في برلين هذا الأسبوع هو حصول الشيخ راشد الغنوشي علي جائزة بن رشد للفكر الحر لهذا العام 2014،وقد حظيت الاحتفالية التي احتضنها بيت الثقافات ببرلين بحضور نوعي مهم ومتميز من قبل أصحاب الثقافة والفكر والمهتمين من المثقفين العرب والألمان. أحسن الدكتور حامد فضل الله الطبيب والمثقف السوداني البارز ببرلين تقديم الشيخ الغنوشي وهو يتلو خطاب مؤسسة بن رشد ساردًا حيثيات ومبررات اختياره من ضمن أحد عشر مرشحاً من سبع دول عربية من قبل هيئة طوعية مستقلة كان على رأسها الدكتوران حسن حنفي وعبدالوهاب الأفندي وتوجان الفيصل وغيرهم. الدكتور الألماني ميشيل لودس أستاذ الدراسات السياسية والخبير في شؤون الشرق الأوسط في الجامعات الألمانية قال إن الغنوشي تم اختياره عام 2012 من قبل مجلة فورن بوليسي على رأس أفضل مائة مفكر في العالم كما اختارته مجلة تايم ضمن أكثر مائة شخصية نفوذًا وتأثيرًا في العالم.وهو يمثل صوتاً للحكمة والعقل في السياسة التونسية وهي تجابه ميلاد ومخاض تجربتها الديمقراطية الأولى. وأشار إلى أن الغنوشي ليس مفكرًا ثاقب النظر فحسب بل سياسياً حكيماً وهو يجنب بلاده تونس الكوارث والعنف والدماء، وهو قد ارتضى أن يقبل بدستور يرتكز على قاعدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وهو دستور لم ترد فيه كلمة الشريعة كأحد مصادر التشريع، وفيه فصل واضح بين الدين والدولة. وقال الدكتور لودس إن الغنوشي من خلال قيادته لحزب النهضة يجيب على سؤال طالما أرق حركات الإسلام السياسي وهو: ماهو الإسلام الذي تريده الشعوب العربية؟ وكم نحتاج منه في السياسة والمجتمع؟وقال لودس لو استشرد الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي بآراء راشد الغنوشي لجنب مصر المصير المظلم الذي تعيشه الآن.. في كلمته الرصينة استعرض الغنوشي أصول تفكيره النظري مستدلاً بتراث ابن رشد في خلق التوافق السياسي والانسجام الاجتماعي في تونس مؤكداً أنه شديد التفاؤل بمستقبل الديمقراطية في تونس. انقدح في ذهني وأنا استمتع بفعاليات هذا التكريم المستحق، أن أواصل ما ابتدرته من تفصيل في حيثيات المقارنة بين إخفاقات الترابي ونجاحات الغنوشي في مجال الكسب السياسي في بلديهما السودان وتونس. قال الدكتور جون اسبيزيتو أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة جورج تاون بواشنطن إن الترابي لو ركز على الإنتاج الفكري النظري لنال قصب الريادة والسبق والتميز في الفكر الإسلامي المعاصر، ولكن غلبة الفعل السياسي وتمسكه بتحويل أفكاره واجتهاداته النظرية إلى برنامج سياسي عرضه لسيل من الانتقادات والتنافس السياسي والإخفاق العملي. يقول الباحث التونسي نوفل بن إبراهيم إن تأثير الترابي على فكر حركة النهضة عامة وعلى الشيخ راشد الغنوشي يعتبر عميقًا وبالغاً وذلك منذ مشاركة الغنوشي في فعاليات الموسم الثقافي لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم 1979- 1980، حيث جمعت بين الترابي والغنوشي مفاكرات عميقة حول مستقبل الحركات الإسلامية في المنطقة،وقد كان من ثمرة تلك المحاضرات والندوات كتاب (الحركة الإسلامية والتحديث) للترابي والغنوشي. وأخرجا من بعده كتاباً مشتركاً هو (الشورى والديمقراطية). وقال الأستاذ نوفل إن المثقف الإسلامي التونسي خميس الماجري كتب مقالا بعد عودة الغنوشي من السودان عام 1981 أسماه (قصة الإعلان) استعرض فيه التحولات الفكرية للشيخ راشد الغنوشي وقراراته الباكرة لخوض غمار العمل السياسي المباشر، وهو ما دفع الإسلامي التونسي الراحل حميدة النيفر الذي احتفى بهذه التحولات ليقول (لو كنت أحسن الزغرودة لزغردت)، ويرد الأستاذ نوفل بن إبراهيم هذه التحولات إلى تأثير فكر الترابي على الحركات الإسلامية المعاصرة خاصة إعلاء صوت العقل على حاكمية النصوص. وذلك ما دفع أيضاً الكاتب السعودي يوسف الكويليت في مقاله الذي نشرته صحيفة الرياض في أكتوبر الماضي بعنوان (الترابي والغنوشي: الريادة والإخفاق) والذي اتهم فيه الغنوشي باستخدام ذكائه السياسي لإخفاء أهدافه ومقاصده وإلباس خطابه لبوساً وطنياً عاماً، مشيراً إلى أن الترابي أكثر خطرًا لأنه ثعلب سياسي ماكر له قدرة التقلب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. ويرى الكويليت أن الترابي والغنوشي يمثلان نموذجاً للقيادة الكارزمية البراغماتية أو الميكافيلية حسب تعبيره رغم فوارق الثقافة والاقتصاد بين بلديهما، واعتبر أن المد والجزر في مسيرة عملهما السياسي والفكري لم يضعهما في مصاف رصفائهم في مصر حيث القاعدة الشعبية الأكبر. إن ما يحظى به الغنوشي الآن من احتفاء واحترام من الغرب لا يعود سببه الموضوعي المباشر إلى تميزه الفكري فحسب ولكن قيادته الناجحة لتجاوز إشكالات البناء الديمقراطي في تونس، وتنازله عن العديد من القواعد والمرتكزات التي وسمت توجهاته الدينية مثل إباحة الخمر والاحتفاظ بأدوات الترويج السياحي والمساواة بين الرجل والمرأة وحذف الشريعة كأحد مصادر التشريع واعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الدستور، والموافقة علي فصل الدين عن الدولة. وهي تنازلات لو قدمها الترابي في السودان من أجل التوافق والبناء الديمقراطي لأخرج من الملة تكفيرًا ومن السياسة حدًا. المفكر الراحل محمد عابد الجابري يميز بين عقلانية الفكر المغاربي وعرفانية الفكر المشارقي، ورغم وقوع الترابي من حيث التصنيف الجغرافي في الدائرة المشرقية إلا أن منابع تكوينه الفكري أقرب إلى المغاربية لإعلائه العقل وشأن التدبر في الآفاق وتأثره بمنهج بن خلدون وبن رشد في التفكير. ولعل هذا ما دعا الغنوشي لإهداء كتابه (الحريات العامة في العمل الإسلامي) إلى الدكتور حسن الترابي باعتباره الإمام المجدد في العصر الحديث. رغم تشابه مشاربهما الفكرية إلا أن الفرق الجوهري يعود حسب ظني إلى غلبة الفكر القانوني بحكم التخصص على الدكتور حسن الترابي وغلبة الفكر الفلسفي بحكم التخصص أيضاً على الشيخ راشد الغنوشي، ولعل هذا ما دعا الترابي لأن يبتدر مشروعه النهضوي الإصلاحي وإسهامه النظري في تجديد أصول الفقه، بينما اهتم الغنوشي بتوطين الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر. ويؤمن الترابي بحكم تخصصه الأكاديمي أن الديمقراطية يمكن أن تحدث نتاجاً للثورة كما حدث في فرنسا، على عكس الغنوشي الذي يرى أن الديمقراطية تتم بطريقة تدريجية نتيجة لتراكم الوعي والحراك الاجتماعي والبناء الديمقراطي الوئيد.كما يعتقد الترابي أن الغرب لا يريد ولا يقبل ديمقراطية تلد إسلاماً، ولكن الغنوشي يخوض غمار تجربة مغايرة. فهو رغم مركزية قيادته الإسلامية فهو لا يدعو إلى أجندة إسلامية صارخة بل وطنية وإنسانية لا مكان فيها للمغالبة بل التوافق وعلى عكس الترابي فهو لا يدعو إلى تصدير الثورة بل يعتبر الثورة التونسية للاستهلاك الداخلي فقط. خطاب الترابي أكثر نزوعاً للأممية على عكس خطاب الغنوشي الذي يصدر مشبعاً بالوطنية والتراب التونسي، وهو لا يتردد في إعلاء الوطني على الديني. ولكن الترابي أكثر أصولية في إعلاء الديني على الوطني والأممي على المحلي ويؤثر الثورة على التدرج. لا شك أننا نشهد قرب أفول عصر الترابي رغم ضخامة وتميز إسهامه النظري والفكري في تجديد أصول الفقه، والفكر السياسي والسلطاني وانتهاء نموذج تجربته السياسية في بناء دولة إسلامية ديمقراطية معاصرة، وهو بلا شك يعتبر أحد أئمة التجديد الإسلامي في العصر الحديث، رغم بعض إخفاقات تجربته السياسية، ولكن في المقابل نشهد صعود أحد أبرز تلامذته في سماء الفكر الإسلامي المعاصر، ولا شك أنه رغم احتفاء البعض بنجاح الغنوشي في قيادة حركته وحزبه في تجاوز إخفاق البناء الديمقراطي وتقديم تنازلات جمة من أجل تونس وليس انتصار النموذج الديني. ولكن العبرة أنه رغم فشل تجربة الترابي في السودان إلا أن ذات مدرسته الفكرية والتجديدية هي التي تقود النجاح في تونس الآن. ما أكثر العبر وأقل الاعتبار..