ندوة الشيوعي    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاطرات وذكريات في الدبلوماسية (1)
نشر في السوداني يوم 09 - 12 - 2014


(1)
ليست خواطرى أنا ولا ذكرياتى أنا، فليست لى في الدبلوماسية خواطر ولا ذكريات. وأنّى يكون لى مثل ذلك وقد بلغت من العمر عتيا، ولم تمسسنى السفارة من قبل ولم أكن دبلوماسيا؟!
ابتعادى عن صنعة السفارة – لأصدقك القول - لم يكن زهدا فيها واشاحة بوجهى عن وجهها، فالحق أننى وصديقى ورفيق درب الشباب الباكر، عادل أحمد خالد شرفى، كنا قد عقدنا العزم، ونحن بعد على مدارج الطلب بجامعة محمد الخامس بالمغرب، على أن نلتحق بوزارة الخارجية، فور إكمالنا لدراستنا بقسم العلوم السياسية، وأن نتبوأ مكانا عليّا يليق بنا في سلكها الدبلوماسى. وسلخنا سنواتنا في حمى الملك الحسن الثانى، قدس الله سرّه، نغوص غوصاً في أحشاء كتب السياسة والقانون والعلاقات الدولية، نعدُّ المشرفية والعوالى، ونهيئ لمقبلات الأيام زادها وعتادها، وقد خلنا أن الله بعد أن هيأ الإنسان لخلافته على الأرض، هيأنا – عادل وأنا - لخلافته على وزارة الخارجية!
وقد جلس عادل لإمتحان الدبلوماسية المعهود، ضمن مئات ممّن استوفوا المؤهلات المقررة وكان ترتيبه الأول بإطلاق، وانتظم بعد ذلك في سلك الدبلوماسية فخدم بلاده بعزم وجدارة في عديد من بلدان العالم شرقا وغربا، وارتقى مراقى الدبلوماسية صُعُدا فبلغ درجة الوزير المفوض. ولكن السفارة تأبّت على عادل، أو لعله تأبّى عليها، وكان هناك من يتربص، فتركته الوزارة وتركها، وهجرته المهنة، التى تجرى منه مجرى الدم، وهجرها.
أما الفقير لربه فقد التحق بإحدى اجهزة الخدمة المدنية عقب تخرجه، وكان عند فتح الباب لامتحان السلك الدبلوماسى قد ترقى الى تلك الدرجة المشهورة في زماننا ذاك (دى اس). ونصحه الناصحون بأن يتمهل بعض الشيء ريثما تعلن الوزارة عن مسابقة اختيار دبلوماسيين في درجة سكرتير ثان لا سكرتير ثالث، إذ لا يعقل ان يُقدّم موظف حكومى "رفيع" في الدرجة (دى اس) لوظيفة السكرتير الثالث في الدرجة (كيو)! وانتظرت واصطبرت، عملا بالنصيحة، حتى تعلن وزارة الخارجية عن استيعاب سكرتيرين ثوان، فأدخل وأغيظ عادل بأن أكون رئيسا عليه. ولكن رياح الدنيا كادت أن تقتلنى أنا بغيظى، فقد هجرت الخارجية كليا والى الأبد تقليدها باستقطاب كادرات ذات خبرات نسبية من الوزارات الأخرى لشغل وظائف السكرتير الثانى!
(2)
وأسمعك – أعزك الله – تقول: كفانا من نرجسيتك وحديثك المغرور عن نفسك وصديقك وكأنكما مركز الكون، وقل لنا: ذكريات من وخواطر من هى أذن؟ ولا أضيع من وقتك أكثر مما أضعت، فأجيبك بأنها ذكريات وخواطر السفير المخضرم الدكتور أحمد محمد دياب، الذى كدح في سلك الدبلوماسية السودانية كدحا، لعقود ثلاثة إلا قليلا، وما برح يرفدها من علمه وتجربته، حتى أهل فجر الثورة المنقذة فوضعت على رأسه تاج "الصالح العام". واستقطبته - بعد ذلك - دولة قطر مستشارا للشؤون السياسية بوزارة خارجيتها.
وقد صدر الكتاب، تحت العنوان الذى تراه على صدر المقال، عن مركز عبدالكريم ميرغنى الثقافى بأم درمان. وأكثر ما أغرانى بمطالعته الصفحات الرائعات الماتعات الأربع التى سطرها في تقديمه غابرييل غارسيا ماركيز السودان، أديبنا الكبير الطيب صالح، الذى ثمّن الكتاب ونسب اليه صفات مقدّرة حُق للمؤلف أن يعتز بها، و لخص محتواه تلخيصا دقيقا معبرا حيث كتب: (هذه الفصول الممتعة، هى مزيج من الذكريات، ولمحات من السيرة الذاتية، ونظرات دقيقة متمعنة في تقلب الأحوال في السودان على إمتداد أكثر من ثلاثين عاما. وقد وفق الكاتب، الدكتور أحمد دياب، أيما توفيق أنه اتخذ أسلوبا سلسا جميلا يمتاز بالبساطة وروح الدعابة). واختتم أديبنا الكبير مقدمته بالقول: (لا توجد في هذا الكتاب مرارات أو عنتريات أو تصفية حسابات، بل هو سجل أمين لحياة خصبة مثمرة ).
فأما كون الكتاب "سجل أمين" لحياة صاحبنا فذلك مما لاشك فيه، ومن آيات أمانته أنه تضمن وقائع وتفصيلات مما تتحاماها الأقلام ويتحاشاها الكتّاب. ومن مثال ذلك سرده لواقعة إستضافته بمنزله، إبان عمله في سفارة السودان بنيروبى في النصف الثانى من الستينات، لوزير الداخلية المغفور له الأمير عبدالله عبد الرحمن نقد الله، إذ اسقط في يد صاحبنا عندما أزف وقت الصلاة فسأله الأمير عن "سجادة الصلاة"، فاضطرب واضطر للإقرار بأنه ليست لديه سجادة صلاة في بيته، ففتح الأمير حقيبته وأخرج منها سجادة، ثم سأل مضيفه: (القبلة على وين)، وقبل أن ينعم الله على صاحبنا بكلمة أضاف الأمير نقدالله: (أنت ما عندك مصلاية، معقول حتعرف القبلة؟!)
(3)
أضحكنى وصف المؤلف لوقائع أول يوم خطت فيه قدماه مبنى وزارة الخارجية في العام 1963، بعد اختياره كسكرتير ثالث. كان المؤلف يدخن الكدوس (الغليون)، برغم أنه كان حديث التخرج من جامعة الخرطوم، فدخل والكدوس في فيه من الباب الخلفي للوزارة، وكله ترقب وتشوق لأن يبدأ أول يوم في حياته الجديدة. ثم سمع صاحبنا ورأى شخصا طويلا ضخما يلبس البدلة الكاملة وربطة العنق يقف في الطابق العلوي يناديه: (يا أفندي .. يا أفندي. تعال هنا فوق) فصعد إليه. (مين إنت يا أفندي؟)، أجاب: (أنا سكرتير تالت جديد). وبدون أي مقدمات مد الرجل الضخم يده وأمسك بالكدوس من يد صاحبنا وكسره كسرا فانقسم الى نصفين، ورماه في الأرض من الطابق الثانى، ثم أردف قائلا: (سكرتير تالت؟ وجاى أول يوم ماسك كدوس؟ واُمّال لمّا تبقى سفير حتجى ماسك إيه؟) وهذا الرجل الضخم، كسّار كدوس أحمد دياب، على وزن (كسّار قلم ماكمايكل)، هو نفسه السفير ووزير الخارجية الأسبق محمد ميرغنى مبارك، وقد كان عند كسره كدوس صاحبنا مديرا للشؤون الإدارية بالوزارة.
وقد عمل دياب في مراحل لاحقة - وارتاحت نفسه للعمل - تحت إمرة محمد ميرغنى. الا أن حادثة معينة يحكيها الكتاب بتفصيلاتها عن هذه الشخصية لفتت انتباهي بشدة، وكدت أتشكك في الرواية بكاملها لمجافاتها منطق الأشياء ومصادمتها لكثير من الأعراف المستقرة. ملخص الحادثة أن السفير محمد ميرغنى ترك حقيبته الصغيرة في مكتبه بسفارة السودان بنيروبى وذهب الى الحمام، وعندما عاد وجد أن الحقيبة مفتوحة. وعلى الرغم من أنه وجد جميع محتوياتها في مكانها كاملة بدون نقصان إلا أنه أصر إصرارا شديدا على معرفة من الذى قام بمحاولة فتح الحقيبة. وقد بلغ من تشدد السفير إنه قام باستدعاء الشرطة المحلية، حيث تقرر إجراء (كشف البصمة) على طاقم السفارة بأسره من دبلوماسيين وإداريين وغيرهم. وقد تم ذلك بالفعل إذا قامت الشرطة الكينية بأخذ بصمات أصابع جميع الدبلوماسيين بالإضافة الى الملحق العسكرى، المقدم (آنذاك) ميرغنى سليمان خليل، الذى أصبح فيما بعد مديرا للاستخبارات العسكرية وسفيرا في تركيا. وإنتهى التحقيق البوليسى الدقيق ومضاهاة بصمات أعضاء السفارة الى لا شئ، إذ قرر المتحري أن الحقيبة فتحت بضغط ذاتي!
وأجدني شديد التعجب والاستغراب من هذه الرواية، إذ يبدو لى أن قيام السفير بإلزام طاقم السفارة الدبلوماسي والإداري والعسكري بالخضوع لإجراءات تحقيق بوليسية مهينة، بل وشديدة الإذلال، على نحو ما تقدم، بواسطة شرطة بلد التمثيل ينطوي على غلو وشطط يتخطيان أسوار المعقول، ولله في بعض سفراء السودان شؤون! رحم الله الوزير والسفير محمد ميرغنى أن كان قد غادرنا الى دار البقاء، وأطال في عمره وبارك فيه أن كان على قيد الحياة.
(4)
يتنقل الكتاب بقارئه، بخفة ويسر وحيوية، بين دول العالم المختلفة التي عمل بها المؤلف، ويتناول ضمن ما يتناول، المؤثرات الحضارية والعناصر التاريخية صاحبة القدح المعلى في تشكيل الواقع السياسي والثقافي لكل دولة. وقد وقفت مليا عند حديث المؤلف عن جمهورية تنزانيا، وتحديدا عن الثورة الدموية التي اندلعت في العام 1963 في زنجبار، وكان من مؤداها قيام دولة إتحادية بين الجزيرة التى تنام في أحضان المحيط الهندى، ودويلة تنجانيقا الرابضة على الساحل الإفريقى الشرقى.
والسائد في الفهم العام أن الثورة الشهيرة في زنجبار، إنما كانت ثورة عنصرية محضة أشعل نارها السود، ذوي الأصول الإفريقية، بهدف إقتلاع قواعد وبنيات العنصر العربى القابض على مقدرات الجزيرة المنتجة للقرنفل والهيل والبهارات، من جذورها وإنهاء السيطرة العربية، والانتقام لتجارة الرقيق التي تورط فريق من بني يعرب في آثامها. ولكن صاحبنا يقول لنا إن ذلك هو الوجه الظاهر من الأمر، ولكن الحقيقة هي أن مخططي وقادة ورموز تلك الثورة لم يكونوا من الأفارقة السود، بل أن معظمهم كان من أصول عربية.
وكانت العقول المفكرة وراء الثورة من الشباب العربي أصحاب الميول اليسارية والمتشبعين بالفكر الماركسي، ممن درس في الدول الأوربية الإشتراكية وكوبا. وأن تجربة فيدل كاسترو كانت المثل الأعلى لأولئك الشباب، الذين رأوا في حكم السلطان والنخبة العربية في زنجبار مظهرا من مظاهر الطغيان الرأسمالي ضد الكادحين من عمال ومزارعين. وقد فوجئت بما أورده الكتاب في هذه الجزئية، ثم تضاعف إحساس المفاجأة عند مطالعتي لقائمة أسماء هؤلاء (الشباب) ذوي الأصول العربية والانتماءات الماركسية، من منظري الثورة في زنجبار والذين كانت لهم اليد الطولى في إشعال فتيلها، إذ وجدت في موقع متقدم من القائمة سالم أحمد سالم، وزير خارجية تنزانيا الأسبق والسكرتير العام السابق لمنظمة الوحدة الأفريقية.
ومهما يكن من أمر فأن إفادات الدكتور السفير في شأن ثورة زنجبار لو صحت واستقامت على سوقها، فإنها تضعنا – بغير شك - أمام معضلة تاريخية تستوجب البحث والتحري، ذلك أن نموذج الثورة الافريقية الدموية، التي تطفح غلاً وحقدا، وخيالات الرجال السود، يجزون الرؤوس بالفؤوس، وجثث الرجال والنساء العربيات تتساقط تحت اقدامهم في زنجبار، ما انفكت تحتل موقعا مركزيا في الذهن العربي العام، فضلا عن توظيفها في السودان على وجه التخصيص، كأداة تحريضية فاعلة في العمل السياسي التعبوي. فما زلنا نذكر كيف أن قادة كيانات سياسية معينة، ومشايعيهم من السياسيين والإعلاميين، ظلوا ردحا من الزمن يرددون في الناس جهرة بأن التغيير العسكري في 1989 ما جاء الا ليحول دون تكرار الأنموذج الزنجباري في السودان، الذي كان، بحسب هؤلاء، قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التجلي.
ولكن الصورة الراسخة في العقل العربي عن الثورة في زنجبار تظل على حالها، ولأن السودان يَعِدُّ نفسه في ملة العربان، ولأن بعض أهله كاثوليك أكثر من البابا، فقد قررت وزارة الخارجية، عند زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية اللواء محمد الباقر أحمد لتنزانيا في العام 1973، أن ترفض الجانب من برنامج الزيارة الذي يتضمن زيارة ضريح القائد عبود كرومي، وهو تقليد مراسمي في تنزانيا يحترمه جميع زوارها، وذلك على أساس أن عبود كرومي كان من قادة ثورة زنجبار.
ظل أحمد دياب يضرب أخماسا في أسداس وقد حار به الدليل، هو يجهد ذهنه بأمل الوصول الى وسيلة أو عذر مقبول ينهي به إلى السلطات التنزانية رغبة السفارة في إلغاء ذلك الجزء من البرنامج على نحو يحقق المراد ويحول في ذات الوقت دون إحداث أي نوع من الحساسية لدى دولة التمثيل. وما لبث صاحبنا على هذا الحال حتى جاءه الحل الناجز على يد دبلوماسي أصغر منه درجة، اقترح عليه أن ترسل السفارة خطابا الى وزارة الخارجية التنزانية تعلنها فيه أن اللواء محمد الباقر أحمد مسلم من أتباع المذهب الوهابي الذي يحرم زيارة القبور، وإن زيارة ضريح القائد عبود كرومي تتعارض مع عقيدته ومذهبه. وقد قبل التنزانيون ذلك الاعتذار الكاذب الملفق، فلم يكن الباقر وهابيا ولم ينتم الى المذهب الوهابي المتشدد في يوم من الأيام.
وأن دلت هذه الواقعة على شيء فإنما تدل على أن من بين كادراتنا الدبلوماسية من سبق بعض عتاة السياسيين في اكتشاف " فقه الضرورة " وتوظيفه لتحقيق الأغراض المشروعة... وغير المشروعة!
(5)
لا يهمنى في قليل أو كثير ما إذا كان سفراؤنا ودبلوماسيونا يرتدون الزي الأفرنجي أو الزي الوطني إبان وجودهم خارج البلاد. فالسؤال المهم هو: ماذا أنجزت، وليس ماذا لبست؟! غير أن المؤلف شديد الاعتداد بما يصفه بالزي الوطني، ويحدده عناصره في ثلاثة: ( الجلابية والعمة والعباءة ). ويقول إنه كان يرتديه أثناء تأدية واجباته الدبلوماسية في كل الدول، وأنه جنى من وراء ذلك في بعض الأحيان إمتيازات، وتعرض في أحيان أخرى لمضايقات، وواجه في أحوال بعينها إحراجات. ولكنه مع ذلك يحث زملاءه وأبناءه من رجال السلك الدبلوماسي على التمسك بالزي السوداني، إذ هو بحسب المؤلف: (يفتح الباب لتمييز السوداني بصورة مباشرة، وتأكيد سماته الخاصة منذ الوهلة الأولى، ويؤكد إستقلالية الشخصية السودانية وتفردها عن غيرها).
وليس صاحبنا مبتدعا أو متفردا في دعواه تلك إذ هناك الكثير ممن يعتدون بالزي الوطني ويجعلون من ارتدائه شأنا مبدئيا. كان أول من عرفت من هؤلاء الوزير السابق والعالم الدكتور عون الشريف قاسم، رحمه الله، وقد صحبته في مهام رسمية خارج البلاد فكان لا يعرف غير الزي الوطني لباسا، وعندما سألته عن ذلك أجابني: (أنا أؤمن بالأصالة في الزي. أعبّر عن أصالتي بزيّي، وقد توقفت تماما عن ارتداء الزي الأفرنجي). وثاني هؤلاء هو الإمام الصادق المهدي، الذى عملت الى جانبه ردحا من الزمن، إبان توليه منصب رئيس الوزراء في حقبة الديمقراطية الثالثة، وصحبته في رحلات عمله داخل البلاد وخارجها فلم أره في غير لباسه الوطني، الأبيض في الغالب والملون في أحيان نادرة. ولكنني في حالات استثنائية تعد على أصابع اليد الواحدة، رأيته خارج البلاد وهو يرتدى البدلة الاوربية الكاملة، ثم يلبس معها طاقية سودانية! وقد سمعت أن آلافا مؤلفة من موظفي الدولة وعمالها باتوا في يومهم هذا يرتدون الزى الوطني الى أعمالهم كل صباح. غير أنني أذكر مقالا للراحل الكبير الوزير والسفير جمال محمد أحمد، نشرته في زمن مضى صحيفة (الأيام)، جاهر فيه جمال للمرة الأولى برأيه أن الجلابية والعمة والعباءة لا تمثلان زياً وطنياً سودانياً بأي مقياس، كما يسود الاعتقاد، وأن ذلك وهم محض. ونافح عن رأيه ذاك بتقديم نماذج من مناطق وقبائل، وإشارات الى ثقافات السودان المختلفة، معدداً أنواع الملابس التي يرتديها السودانيون وأوصافها، وانتهى الى أن العمة والجلابية والعباءة ليست لباس الغالبية في السودان، بل ربما كانت لباس الأقلية!
وانتقد جمال توجيها رسميا كان قد صدر من جهة عليا، في نهايات العهد المايوي، يقضى بإلزام سفراء السودان بإرتداء الجلابية والعمة والعباءة عند تقديم أوراق اعتمادهم، وقلل من شأنه وسخّفه. ورأيي صورة كربونية من رأي الوزير والاديب الكبير الراحل. غير أنني - كما أسلفت – لا أبالي ولا أكترث مقدار خردلة بما يلبسه هؤلاء وأولئك. وهل فرغت أنا من كل شيء في دنياي، فلم يبق لي إلا الفتيا في أمر ما يلبس الرجال والنساء وما لا يلبسون؟!
مصطفى عبد العزيز البطل
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.