نقل قائد كتيبة البراء بن مالك المصباح أبوزيد طلحة للمستشفى ووفاة (2) من مرافقيه    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    افتتاح المعرض الصيني بالروصيرص    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاطرات وذكريات في الدبلوماسية (1)
نشر في السوداني يوم 09 - 12 - 2014


(1)
ليست خواطرى أنا ولا ذكرياتى أنا، فليست لى في الدبلوماسية خواطر ولا ذكريات. وأنّى يكون لى مثل ذلك وقد بلغت من العمر عتيا، ولم تمسسنى السفارة من قبل ولم أكن دبلوماسيا؟!
ابتعادى عن صنعة السفارة – لأصدقك القول - لم يكن زهدا فيها واشاحة بوجهى عن وجهها، فالحق أننى وصديقى ورفيق درب الشباب الباكر، عادل أحمد خالد شرفى، كنا قد عقدنا العزم، ونحن بعد على مدارج الطلب بجامعة محمد الخامس بالمغرب، على أن نلتحق بوزارة الخارجية، فور إكمالنا لدراستنا بقسم العلوم السياسية، وأن نتبوأ مكانا عليّا يليق بنا في سلكها الدبلوماسى. وسلخنا سنواتنا في حمى الملك الحسن الثانى، قدس الله سرّه، نغوص غوصاً في أحشاء كتب السياسة والقانون والعلاقات الدولية، نعدُّ المشرفية والعوالى، ونهيئ لمقبلات الأيام زادها وعتادها، وقد خلنا أن الله بعد أن هيأ الإنسان لخلافته على الأرض، هيأنا – عادل وأنا - لخلافته على وزارة الخارجية!
وقد جلس عادل لإمتحان الدبلوماسية المعهود، ضمن مئات ممّن استوفوا المؤهلات المقررة وكان ترتيبه الأول بإطلاق، وانتظم بعد ذلك في سلك الدبلوماسية فخدم بلاده بعزم وجدارة في عديد من بلدان العالم شرقا وغربا، وارتقى مراقى الدبلوماسية صُعُدا فبلغ درجة الوزير المفوض. ولكن السفارة تأبّت على عادل، أو لعله تأبّى عليها، وكان هناك من يتربص، فتركته الوزارة وتركها، وهجرته المهنة، التى تجرى منه مجرى الدم، وهجرها.
أما الفقير لربه فقد التحق بإحدى اجهزة الخدمة المدنية عقب تخرجه، وكان عند فتح الباب لامتحان السلك الدبلوماسى قد ترقى الى تلك الدرجة المشهورة في زماننا ذاك (دى اس). ونصحه الناصحون بأن يتمهل بعض الشيء ريثما تعلن الوزارة عن مسابقة اختيار دبلوماسيين في درجة سكرتير ثان لا سكرتير ثالث، إذ لا يعقل ان يُقدّم موظف حكومى "رفيع" في الدرجة (دى اس) لوظيفة السكرتير الثالث في الدرجة (كيو)! وانتظرت واصطبرت، عملا بالنصيحة، حتى تعلن وزارة الخارجية عن استيعاب سكرتيرين ثوان، فأدخل وأغيظ عادل بأن أكون رئيسا عليه. ولكن رياح الدنيا كادت أن تقتلنى أنا بغيظى، فقد هجرت الخارجية كليا والى الأبد تقليدها باستقطاب كادرات ذات خبرات نسبية من الوزارات الأخرى لشغل وظائف السكرتير الثانى!
(2)
وأسمعك – أعزك الله – تقول: كفانا من نرجسيتك وحديثك المغرور عن نفسك وصديقك وكأنكما مركز الكون، وقل لنا: ذكريات من وخواطر من هى أذن؟ ولا أضيع من وقتك أكثر مما أضعت، فأجيبك بأنها ذكريات وخواطر السفير المخضرم الدكتور أحمد محمد دياب، الذى كدح في سلك الدبلوماسية السودانية كدحا، لعقود ثلاثة إلا قليلا، وما برح يرفدها من علمه وتجربته، حتى أهل فجر الثورة المنقذة فوضعت على رأسه تاج "الصالح العام". واستقطبته - بعد ذلك - دولة قطر مستشارا للشؤون السياسية بوزارة خارجيتها.
وقد صدر الكتاب، تحت العنوان الذى تراه على صدر المقال، عن مركز عبدالكريم ميرغنى الثقافى بأم درمان. وأكثر ما أغرانى بمطالعته الصفحات الرائعات الماتعات الأربع التى سطرها في تقديمه غابرييل غارسيا ماركيز السودان، أديبنا الكبير الطيب صالح، الذى ثمّن الكتاب ونسب اليه صفات مقدّرة حُق للمؤلف أن يعتز بها، و لخص محتواه تلخيصا دقيقا معبرا حيث كتب: (هذه الفصول الممتعة، هى مزيج من الذكريات، ولمحات من السيرة الذاتية، ونظرات دقيقة متمعنة في تقلب الأحوال في السودان على إمتداد أكثر من ثلاثين عاما. وقد وفق الكاتب، الدكتور أحمد دياب، أيما توفيق أنه اتخذ أسلوبا سلسا جميلا يمتاز بالبساطة وروح الدعابة). واختتم أديبنا الكبير مقدمته بالقول: (لا توجد في هذا الكتاب مرارات أو عنتريات أو تصفية حسابات، بل هو سجل أمين لحياة خصبة مثمرة ).
فأما كون الكتاب "سجل أمين" لحياة صاحبنا فذلك مما لاشك فيه، ومن آيات أمانته أنه تضمن وقائع وتفصيلات مما تتحاماها الأقلام ويتحاشاها الكتّاب. ومن مثال ذلك سرده لواقعة إستضافته بمنزله، إبان عمله في سفارة السودان بنيروبى في النصف الثانى من الستينات، لوزير الداخلية المغفور له الأمير عبدالله عبد الرحمن نقد الله، إذ اسقط في يد صاحبنا عندما أزف وقت الصلاة فسأله الأمير عن "سجادة الصلاة"، فاضطرب واضطر للإقرار بأنه ليست لديه سجادة صلاة في بيته، ففتح الأمير حقيبته وأخرج منها سجادة، ثم سأل مضيفه: (القبلة على وين)، وقبل أن ينعم الله على صاحبنا بكلمة أضاف الأمير نقدالله: (أنت ما عندك مصلاية، معقول حتعرف القبلة؟!)
(3)
أضحكنى وصف المؤلف لوقائع أول يوم خطت فيه قدماه مبنى وزارة الخارجية في العام 1963، بعد اختياره كسكرتير ثالث. كان المؤلف يدخن الكدوس (الغليون)، برغم أنه كان حديث التخرج من جامعة الخرطوم، فدخل والكدوس في فيه من الباب الخلفي للوزارة، وكله ترقب وتشوق لأن يبدأ أول يوم في حياته الجديدة. ثم سمع صاحبنا ورأى شخصا طويلا ضخما يلبس البدلة الكاملة وربطة العنق يقف في الطابق العلوي يناديه: (يا أفندي .. يا أفندي. تعال هنا فوق) فصعد إليه. (مين إنت يا أفندي؟)، أجاب: (أنا سكرتير تالت جديد). وبدون أي مقدمات مد الرجل الضخم يده وأمسك بالكدوس من يد صاحبنا وكسره كسرا فانقسم الى نصفين، ورماه في الأرض من الطابق الثانى، ثم أردف قائلا: (سكرتير تالت؟ وجاى أول يوم ماسك كدوس؟ واُمّال لمّا تبقى سفير حتجى ماسك إيه؟) وهذا الرجل الضخم، كسّار كدوس أحمد دياب، على وزن (كسّار قلم ماكمايكل)، هو نفسه السفير ووزير الخارجية الأسبق محمد ميرغنى مبارك، وقد كان عند كسره كدوس صاحبنا مديرا للشؤون الإدارية بالوزارة.
وقد عمل دياب في مراحل لاحقة - وارتاحت نفسه للعمل - تحت إمرة محمد ميرغنى. الا أن حادثة معينة يحكيها الكتاب بتفصيلاتها عن هذه الشخصية لفتت انتباهي بشدة، وكدت أتشكك في الرواية بكاملها لمجافاتها منطق الأشياء ومصادمتها لكثير من الأعراف المستقرة. ملخص الحادثة أن السفير محمد ميرغنى ترك حقيبته الصغيرة في مكتبه بسفارة السودان بنيروبى وذهب الى الحمام، وعندما عاد وجد أن الحقيبة مفتوحة. وعلى الرغم من أنه وجد جميع محتوياتها في مكانها كاملة بدون نقصان إلا أنه أصر إصرارا شديدا على معرفة من الذى قام بمحاولة فتح الحقيبة. وقد بلغ من تشدد السفير إنه قام باستدعاء الشرطة المحلية، حيث تقرر إجراء (كشف البصمة) على طاقم السفارة بأسره من دبلوماسيين وإداريين وغيرهم. وقد تم ذلك بالفعل إذا قامت الشرطة الكينية بأخذ بصمات أصابع جميع الدبلوماسيين بالإضافة الى الملحق العسكرى، المقدم (آنذاك) ميرغنى سليمان خليل، الذى أصبح فيما بعد مديرا للاستخبارات العسكرية وسفيرا في تركيا. وإنتهى التحقيق البوليسى الدقيق ومضاهاة بصمات أعضاء السفارة الى لا شئ، إذ قرر المتحري أن الحقيبة فتحت بضغط ذاتي!
وأجدني شديد التعجب والاستغراب من هذه الرواية، إذ يبدو لى أن قيام السفير بإلزام طاقم السفارة الدبلوماسي والإداري والعسكري بالخضوع لإجراءات تحقيق بوليسية مهينة، بل وشديدة الإذلال، على نحو ما تقدم، بواسطة شرطة بلد التمثيل ينطوي على غلو وشطط يتخطيان أسوار المعقول، ولله في بعض سفراء السودان شؤون! رحم الله الوزير والسفير محمد ميرغنى أن كان قد غادرنا الى دار البقاء، وأطال في عمره وبارك فيه أن كان على قيد الحياة.
(4)
يتنقل الكتاب بقارئه، بخفة ويسر وحيوية، بين دول العالم المختلفة التي عمل بها المؤلف، ويتناول ضمن ما يتناول، المؤثرات الحضارية والعناصر التاريخية صاحبة القدح المعلى في تشكيل الواقع السياسي والثقافي لكل دولة. وقد وقفت مليا عند حديث المؤلف عن جمهورية تنزانيا، وتحديدا عن الثورة الدموية التي اندلعت في العام 1963 في زنجبار، وكان من مؤداها قيام دولة إتحادية بين الجزيرة التى تنام في أحضان المحيط الهندى، ودويلة تنجانيقا الرابضة على الساحل الإفريقى الشرقى.
والسائد في الفهم العام أن الثورة الشهيرة في زنجبار، إنما كانت ثورة عنصرية محضة أشعل نارها السود، ذوي الأصول الإفريقية، بهدف إقتلاع قواعد وبنيات العنصر العربى القابض على مقدرات الجزيرة المنتجة للقرنفل والهيل والبهارات، من جذورها وإنهاء السيطرة العربية، والانتقام لتجارة الرقيق التي تورط فريق من بني يعرب في آثامها. ولكن صاحبنا يقول لنا إن ذلك هو الوجه الظاهر من الأمر، ولكن الحقيقة هي أن مخططي وقادة ورموز تلك الثورة لم يكونوا من الأفارقة السود، بل أن معظمهم كان من أصول عربية.
وكانت العقول المفكرة وراء الثورة من الشباب العربي أصحاب الميول اليسارية والمتشبعين بالفكر الماركسي، ممن درس في الدول الأوربية الإشتراكية وكوبا. وأن تجربة فيدل كاسترو كانت المثل الأعلى لأولئك الشباب، الذين رأوا في حكم السلطان والنخبة العربية في زنجبار مظهرا من مظاهر الطغيان الرأسمالي ضد الكادحين من عمال ومزارعين. وقد فوجئت بما أورده الكتاب في هذه الجزئية، ثم تضاعف إحساس المفاجأة عند مطالعتي لقائمة أسماء هؤلاء (الشباب) ذوي الأصول العربية والانتماءات الماركسية، من منظري الثورة في زنجبار والذين كانت لهم اليد الطولى في إشعال فتيلها، إذ وجدت في موقع متقدم من القائمة سالم أحمد سالم، وزير خارجية تنزانيا الأسبق والسكرتير العام السابق لمنظمة الوحدة الأفريقية.
ومهما يكن من أمر فأن إفادات الدكتور السفير في شأن ثورة زنجبار لو صحت واستقامت على سوقها، فإنها تضعنا – بغير شك - أمام معضلة تاريخية تستوجب البحث والتحري، ذلك أن نموذج الثورة الافريقية الدموية، التي تطفح غلاً وحقدا، وخيالات الرجال السود، يجزون الرؤوس بالفؤوس، وجثث الرجال والنساء العربيات تتساقط تحت اقدامهم في زنجبار، ما انفكت تحتل موقعا مركزيا في الذهن العربي العام، فضلا عن توظيفها في السودان على وجه التخصيص، كأداة تحريضية فاعلة في العمل السياسي التعبوي. فما زلنا نذكر كيف أن قادة كيانات سياسية معينة، ومشايعيهم من السياسيين والإعلاميين، ظلوا ردحا من الزمن يرددون في الناس جهرة بأن التغيير العسكري في 1989 ما جاء الا ليحول دون تكرار الأنموذج الزنجباري في السودان، الذي كان، بحسب هؤلاء، قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التجلي.
ولكن الصورة الراسخة في العقل العربي عن الثورة في زنجبار تظل على حالها، ولأن السودان يَعِدُّ نفسه في ملة العربان، ولأن بعض أهله كاثوليك أكثر من البابا، فقد قررت وزارة الخارجية، عند زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية اللواء محمد الباقر أحمد لتنزانيا في العام 1973، أن ترفض الجانب من برنامج الزيارة الذي يتضمن زيارة ضريح القائد عبود كرومي، وهو تقليد مراسمي في تنزانيا يحترمه جميع زوارها، وذلك على أساس أن عبود كرومي كان من قادة ثورة زنجبار.
ظل أحمد دياب يضرب أخماسا في أسداس وقد حار به الدليل، هو يجهد ذهنه بأمل الوصول الى وسيلة أو عذر مقبول ينهي به إلى السلطات التنزانية رغبة السفارة في إلغاء ذلك الجزء من البرنامج على نحو يحقق المراد ويحول في ذات الوقت دون إحداث أي نوع من الحساسية لدى دولة التمثيل. وما لبث صاحبنا على هذا الحال حتى جاءه الحل الناجز على يد دبلوماسي أصغر منه درجة، اقترح عليه أن ترسل السفارة خطابا الى وزارة الخارجية التنزانية تعلنها فيه أن اللواء محمد الباقر أحمد مسلم من أتباع المذهب الوهابي الذي يحرم زيارة القبور، وإن زيارة ضريح القائد عبود كرومي تتعارض مع عقيدته ومذهبه. وقد قبل التنزانيون ذلك الاعتذار الكاذب الملفق، فلم يكن الباقر وهابيا ولم ينتم الى المذهب الوهابي المتشدد في يوم من الأيام.
وأن دلت هذه الواقعة على شيء فإنما تدل على أن من بين كادراتنا الدبلوماسية من سبق بعض عتاة السياسيين في اكتشاف " فقه الضرورة " وتوظيفه لتحقيق الأغراض المشروعة... وغير المشروعة!
(5)
لا يهمنى في قليل أو كثير ما إذا كان سفراؤنا ودبلوماسيونا يرتدون الزي الأفرنجي أو الزي الوطني إبان وجودهم خارج البلاد. فالسؤال المهم هو: ماذا أنجزت، وليس ماذا لبست؟! غير أن المؤلف شديد الاعتداد بما يصفه بالزي الوطني، ويحدده عناصره في ثلاثة: ( الجلابية والعمة والعباءة ). ويقول إنه كان يرتديه أثناء تأدية واجباته الدبلوماسية في كل الدول، وأنه جنى من وراء ذلك في بعض الأحيان إمتيازات، وتعرض في أحيان أخرى لمضايقات، وواجه في أحوال بعينها إحراجات. ولكنه مع ذلك يحث زملاءه وأبناءه من رجال السلك الدبلوماسي على التمسك بالزي السوداني، إذ هو بحسب المؤلف: (يفتح الباب لتمييز السوداني بصورة مباشرة، وتأكيد سماته الخاصة منذ الوهلة الأولى، ويؤكد إستقلالية الشخصية السودانية وتفردها عن غيرها).
وليس صاحبنا مبتدعا أو متفردا في دعواه تلك إذ هناك الكثير ممن يعتدون بالزي الوطني ويجعلون من ارتدائه شأنا مبدئيا. كان أول من عرفت من هؤلاء الوزير السابق والعالم الدكتور عون الشريف قاسم، رحمه الله، وقد صحبته في مهام رسمية خارج البلاد فكان لا يعرف غير الزي الوطني لباسا، وعندما سألته عن ذلك أجابني: (أنا أؤمن بالأصالة في الزي. أعبّر عن أصالتي بزيّي، وقد توقفت تماما عن ارتداء الزي الأفرنجي). وثاني هؤلاء هو الإمام الصادق المهدي، الذى عملت الى جانبه ردحا من الزمن، إبان توليه منصب رئيس الوزراء في حقبة الديمقراطية الثالثة، وصحبته في رحلات عمله داخل البلاد وخارجها فلم أره في غير لباسه الوطني، الأبيض في الغالب والملون في أحيان نادرة. ولكنني في حالات استثنائية تعد على أصابع اليد الواحدة، رأيته خارج البلاد وهو يرتدى البدلة الاوربية الكاملة، ثم يلبس معها طاقية سودانية! وقد سمعت أن آلافا مؤلفة من موظفي الدولة وعمالها باتوا في يومهم هذا يرتدون الزى الوطني الى أعمالهم كل صباح. غير أنني أذكر مقالا للراحل الكبير الوزير والسفير جمال محمد أحمد، نشرته في زمن مضى صحيفة (الأيام)، جاهر فيه جمال للمرة الأولى برأيه أن الجلابية والعمة والعباءة لا تمثلان زياً وطنياً سودانياً بأي مقياس، كما يسود الاعتقاد، وأن ذلك وهم محض. ونافح عن رأيه ذاك بتقديم نماذج من مناطق وقبائل، وإشارات الى ثقافات السودان المختلفة، معدداً أنواع الملابس التي يرتديها السودانيون وأوصافها، وانتهى الى أن العمة والجلابية والعباءة ليست لباس الغالبية في السودان، بل ربما كانت لباس الأقلية!
وانتقد جمال توجيها رسميا كان قد صدر من جهة عليا، في نهايات العهد المايوي، يقضى بإلزام سفراء السودان بإرتداء الجلابية والعمة والعباءة عند تقديم أوراق اعتمادهم، وقلل من شأنه وسخّفه. ورأيي صورة كربونية من رأي الوزير والاديب الكبير الراحل. غير أنني - كما أسلفت – لا أبالي ولا أكترث مقدار خردلة بما يلبسه هؤلاء وأولئك. وهل فرغت أنا من كل شيء في دنياي، فلم يبق لي إلا الفتيا في أمر ما يلبس الرجال والنساء وما لا يلبسون؟!
مصطفى عبد العزيز البطل
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.