مصطفى عبد العزيز البطل هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته لا أعرف كم من الناس يتابعون سلسلة الكاتب الصحافي الأستاذ حسن البطري، مدير تحرير جريدة (الصحافة)، التي ما زالت تدور - إذ لم تكتمل فصولاً بعد - في مدارات عطبرة والقطار، والباخرة النيلية التي تُعرف في عامية كثير من مناطق السودان ب (الوابور). تلك حروفٌ ثرية مترعة بعبق التاريخ ومجد الكتابة. لا ريب عندي أنها تثير عند كثيرين كوامن الأشجان ولواعج الأشواق. من لم يقرأها فقد أهدر خيرا كثيرا. أما أنا فقد قرأت، وما برحت استزيد. مئات الآلاف في الشمال انتموا، جيلا بعد جيل، إلى وسيلتي النقل تلك، أعني القطار و(الوابور). وذلك في غالب أمره انتماء حياة ومعاش ونضال خبز. ولكن ظل هناك وبمحاذاته دائماً انتماءٌ آخر ذو طبيعة انسانية متفردة، مادته العواطف المشبوبة والمشاعر المضطرمة. كثير من أشعار واغنيات الشريط النيلي في الشمال استهدفت القطار و(الوابور)، وأدمنت خطابه بكلمات حييّة شجية ومرهفة أحيانا. ولغة حاسرة جاسرة وثائرة أحيانا أخرى. بين أحرفها، يكمن الرجاء والتوسل، أو يفور الاحتجاج والغضب. ثم تلى ذلك الأسئلة التائهة الحيرى، تستعلم الناقلات الحديدية البرية والنهرية عن المحبوب الذي حملته على أمتنتها، وغابت به عن نظر المحب، لا تلوي على شيء، تنهب خطوط الحديد نهباً، أو تمخر عباب النيل إلى المجهول. لا اعرف كيف جمع صاحبي كل تلك الأبيات عن عذابات الشاكين الباكين من ظلم القطار. رفيعها، من شاكلة (القطار المرّ وفيهو مرّ حبيبي)، و(قطار الشوق متين ترحل تودينا). و مهيضها، من صنف (القطار الشالك انت يتدشدش حتة حتة)، او (القطار الشال معاوية يتكسر زاوية زاوية)! ولكنني عندما قرأت عند البطري قصيدة العاشق الذي أذهله سفر المحبوب، وهو يستنجد بشاعر الشايقية الأشهر حسن الدابي، وجدت الزمان يرتد بي عقوداً إلى الحي الجامعي في مدينة الرباط المغربية. كمال شرف، الطالب الذي سينال الاعتراف ويصبح شاعراً مجيداً، وطلحة جبريل الذي سيصعد الدرج في بلاط صاحبة الجلالة، حتى يؤانس الملك الحسن الثاني في قصره ويحاور الرئيس جورج بوش في بيته الابيض. يجلس الاثنان - كمال وطلحة - في قلب الغرفة وبينهما جهاز التسجيل يصدح بأنغام الطنبور، وقد اخذ الوجد منهما كل مأخذ. تسمع مغني الشايقية يتغنى بكلمات ذلك المكروب المُعنّى، الذي علم لتوّه أن محبوته احتواها بطن ذلك الوابور الشهير الذي يحمل اسم (الجلاء). حيث ينادي الشاعر خدنه في يأسٍ حزين: (ود الدابي مالك ساكت؟ ما شفت الجلا السوّاها؟ / شال محبوبتي سافر بيها كيفن عاد بعيش لولاها). وحسن الدابي لا يخذل المستجير في محنة غياب الحبيبة على متن (الجلاء) فيهب ليرد مؤازراً ومواسياً: (صحيح يا عبدو اخوي قولك حقيقة / كتير الطفّشا الجلا من فريقا / يزازي نقل سميحات الخليقة / رنين صفارتو نفسي أبت تطيقا). وتمضي الابيات لتُصلى وابور (الجلاء) بحممها وتدعو له بالويل: (صميم مكناتو تلتهمو الحريقة / قمرات نومو تسكنن أم دريقة). وأنا لا أعرف أم دريقة هذه، ولكن رسالة الشاعرين العاشقين، والمغني، وصلتني وأضنت فؤادي! ثم أنني وجدت في السلسلة تاريخ عطبرة كله، بشراً وحجراً. من لدن ابراهيم المحلاوي، وشرارات الحركة الوطنية، وشهداء الجمعية التشريعية، والطيب حسن، وقاسم أمين، والحاج عبد الرحمن، وحسن خليفة العطبراوي، والرشيد مهدي، والمنبثق، وعبد الله علي إبراهيم، وأمين عبد المجيد، وحاج حمد عباس، وإبراهيم ملاسي، وعلى صالح داؤد، وعلي توفيق، والسرور السافلاوي، وموقف حاج الريح (جد عادل الباز)، ومكتبة دبورة، وجون أكوت كون. وصولاً إلى عثمان السيد، وعبد الله القطيني، والسر بابو. ووقفت على دفاع عبد الخالق محجوب أمام المحكمة العسكرية في فاتحة سني الحكم العسكري الأول. أسمعه، أعزك الله، يقول: (عشت في مدينة عطبرة عام 1947 وعاصرت تكوين أول منظمة نقابية سودانية هي هيئة شؤون العمال، وكانت تلك بحق فترة عزيزة في حياتي. عرفت فيها عن كثب استقامة وشرف ورجولة عمال السودان). وأدهشني حقاً ما قرأته للمرة الأولى، عند حسن البطري، منسوباً إلى الأستاذ محمود محمد طه: (كل المدفونين في عطبرة من أولياء الله الصالحين، ويجب التبرك بهم، لأنهم شهداء العيش والكفاف)! أحسنت يا حسن، وأنت توثق لعطبرة، ولقاطرات البخار والديزل. ثم للوابورات الأربعة (الجلاء وكربكان وعطارد والزهرة) اللائي سحقن مشاعر عشاق بني شايق، ذوي القلوب المرهفة. ثم وأنت توثق للشعر في الحناجر، وللطنبور في أيادي المبدعين على طول شواطئ النيل، سليل الفراديس.