ما زلت أذكر تلك الأيام جيدًاً، وجدتي تحمل بين يديها (صاج العواسة) وجردل (العجين المر)، قبل أن تتخذ مكانها في ذلك (الزقاق) كما يسمونه، ما زلت أذكر سؤالي لها: (ياحبوبة إنتي ماتعوسي في الحوش)، لتتجاهل السؤال وتشير إليّّ بيدها نحو ذلك الكيس الصغير الملفوف بعناية، وهي تقول: (ياولد..بطل غلبة وجيب لي الطايوق داك).! دقائق معدودة، ويتحول الزقاق إلى فرن مصغر، ينبعث دخانه الأبيض من فوهات ذلك (الكانون) القديم، وأصابع جدتي تمسح الصاج بذلك (الطايوق) قبل أن تسكب عليه بعض العجين، ثم تخرج (القرقريبة) من ذلك الإناء الممتلئ بالمياه وتبدأ فعليًا في إكمال مراسم الوجبة! كل ذلك يحدث أمامنا ونحن نراقب في دهشة، التحضير لعملية صناعة (الكسرة) وحتى وضعها في طبق أبيض نظيف على صينية الغداء وإلى جانبها عدد من (الطبائخ السودانية) أو ما يعرف ب(الملحات)، بداية من (الخدرة) المفروكة وحتى (أم رقيقة) أشهر (ملاح) سوداني في ذلك الوقت، لكن فجأة تغيرت المشاهد، وأصبح من النادر جدًا أن يشاهد الجيل الجديد تلك المراحل، فالعلاقة الحميمة التي كانت تربط الجيل القديم مع طقوس (الكسرة)، صارت اليوم ذكريات من الماضي، بعد أن غابت تلك النكهة السودانية الخالصة عن البيوت، وصارت (الكسرة) في كثير من المنازل وجبة نادرة لا تحتاج لكثير من العناء، سوى الحصول عليها جاهزة من إحدى البائعات اللائي ظل عددهن بالمقابل يتناقص خلال السنوات الأخيرة بصورة مخيفة.! وقبيل أيام تطلق شركة دال للصناعات الغذائية مهرجان الأغذية التقليدية، ذلك المهرجان الذي أظن أنه سيسهم بشكل أوبآخر في تعريف أبناء جيل (الشيبس) بتلك الأكلات السودانية ليست التقليدية وإنما (التاريخية) -إن شئنا الدقة- وهذا النهج أعلاه نهج تستحق عليه شركة دال التهنئة وتستحق كذلك أن تفرد لها المساحات عبر الصحف والقنوات الإعلامية لتتحدث عن تلك المبادرة والتى أعتقد أنها من المبادرات التي نحتاجها جداًً في مثل هذا التوقيت، والذي باتت فيه الكثير من ملامحنا وطقوسنا وأكلاتنا السودانية تنسل الواحدة تلو الأخرى. في مهرجان دال تعرف الكثيرون على العديد من المشروبات والأكلات التقليدية، وآخرون أعادهم مشروب (الكركدي) إلى تلك الأيام الجميلة التي كان فيها ذلك المشروب (يسيطر على الجو)، فيما تعرف أبناء هذا الجيل على العديد من الأكلات الشعبية التي لم يسمعوا بها من قبل، وهذا في حد ذاته يعتبر انتصاراً كبيراً ورائعاًً لشركة دال، والتي أتمنى أن تواصل في مثل هذا النهج الذي يخدم (سودانويتنا) جدًاً، وأن تعمل كذلك على تطوير هذه المنتجات السودانية الشعبية وتقدمها ب(نيولوك) جديد ربما لن يخصم من تاريخها ولكنه بالمقابل سيضيف لمستقبلها الكثير. شربكة أخيرة: جيل اليوم يحتاج وبصورة سريعة وعاجلة لمن يساعده على التفريق مابين (الرقاق) و(أم رقيقة)، ويحتاج كذلك لمن يخبره بأن ملاح (الشرموط) ليس (رجساً من عمل الشيطان).!