يتفاوت الناس في حظهم من الحفاظ على إمارات الشباب، ولكن علامات الكِبَر قادمة لا محالة، واستبداد تلك العلامات بالمرء بدرجة أو أخرى قادم لا محالة أيضاً، فعند نقطة من العمر يصبح أشدّ المحافظين على شبابه عجوزاً بحيث لا تجدي حيلة في استعادة علامات الشباب أو مداراة دلائل الكبِر. المحافظة على الشباب تعبير يجري على الألسنة تقديراً لمن يَبدون أصغر سنّاً مما هم عليه في الواقع، وهو عادة يُمنح لمن هم في الأربعين من العمر فما فوق، فالثلاثينيات ودونها مما لا يحتاج في العادة إلى شفيع من التعابير والألقاب لإثبات شباب الجسد أو الروح. وشباب الروح من أكثر الكلمات شيوعاً ليس بغرض التعبير عن المحافظة على الفتوّة وإنما في الغالب تعزيةً لمن استبدّت بجسده علامات الكِبَر ولا تزال روحه مستبسلة من وراء ستار الجسد في التتشبّث بتلابيب الشباب. مع تعقيد مدلول الروح الذي أشرنا إليه في مقام سابق، خاصة عندما يُراد تحديداً الفصل بين معنيَيْ الروح والنفس، فإن الظاهر من الشواهد يرجِّح أن الآلة المعنوية التي وراء الجسد (سمِّها ما شئت) تشيخ أيضاً، وإن يكن الأهم في تقدير الشباب عند الناس هو الجسد نفسه وليس ما يختبئ خلفه من أسرار مهما احتفظ في طياته من دلائل الحداثة بحيوية تستدعي أيماناً مغلّظة لإثباتها وتظل مع ذلك عرضة للتشكيك. وبرغم جاذبية الجسد كمظهر في الإفصاح عن شباب صاحبه، وبتجاوز التعقيد المستتر في غضون معاني الروح والنفس الملتبسة، فإن الدلالة الأجدر بالإلتفات في مقام تأكيد الشباب هي وظائف الجسد الحيوية تنهض بها أعضاؤه كافة ما ظهر منها وما بطن. غالباً ما يكون مظهر الجسد بمثابة التقرير غير المفصَّل عن أداء وظائف الجسم الحيوية، وإذا أظهر تقرير طبي مفصَّل غير ذلك في أعقاب سلسلة من التحاليل المخبرية فإن الجسد يصادق لا محالة على صحة تلك التحاليل بعد برهة، ليس بدافع الإيحاءات النفسية عقب الاطِّلاع على النتائج المخبرية الطبية بالضرورة وإنما رضوخاً لأحكام ما يشير إليه عنوان هذا الحديث بوصفه "نقطة انهيار" أفلح الجسم في مقاومتها لحين بفعل الإيحاءات النفسية التي كانت سادرة في إغراء صاحبها بالشباب. أشد نقاط انهيار العجوز فتكاً ما كان بداعي تقهقر صحته، وتقهقر الصحة مما يفتك بالشباب الذين لا مراء في شبابهم دع عنك الممسكين بتلابيب الفتوّة ممن هم على بعد خطوات من الكِبَر أو العجائز الذين لا لبس في كِبَرهم. من نقاط انهيار العجوز الفتاكة ما تعجز التحاليل المخبرية عن إظهار أسبابها، فيغدو التفسير كامناً في العوامل النفسية المختبئة أصولُها في ثنايا الروح يستجير بها الأطباء ملاذاً لما أعيا الأجهزةَ الدقيقة كشفُه من الدواعي. وربما كان المنعطف المفضي إلى نقطة انهيار العجوز حادثاً صحيّا معلوم الأسباب أو حدَثاً شخصياً أو اجتماعياً قاسياً يغدو الانهيار بعد أي منهما ظاهراً وحادّاً لا يستدعي الاستغراب قدرَ ما يدعو إلى الحسرة، ولكن لا الاستغراب ولا الحسرة يجديان في استعادة ما راح من طلاوة الشباب أو حتى تدارك ما تبقى منها، بل هما داعيان إلى مزيد من ضياع الشباب ورونقه. أعمق نقاط انهيار العجوز إيلاماً ما كان بداعي التقدُّم في العمر مجرّداً، أي بسبب استيفاء أعضاء الجسد (أو بعضها) عمرها الافتراضي دون أن يجور عليها مؤثر خارجي كحادث ماديّ طارئ أو تجربة نفسية قاسية، ومبعث الألم العميق مع هذه الشاكلة من نقاط الانهيار هو أن العجوز لن يجد سبباً خارجيّاً ظاهراً يعلِّق عليه مسؤولية انهياره بل داعياً يخصّه وحده هو الشيخوخة مجرّدة. العمر الافتراضي لأعضاء الجسد، وبالمحصلة العمر الافتراضي للجسد مجملاً، يختلف من واحد إلى الآخر، مرّة بما أفاء الله علينا من حظوظنا التي قسمها، ومرّة بأيادينا من حيث لا ندري حين يختار كل منا طريقته في عيش الحياة، أو بكلمات أخرى طريقته في إضاعة الحياة.