استهواها كثيرا ما قرؤوه عليها من ذكرياتنا في "رسائل في الذكرى والحنين". ذكريات أرض الجزائروالمراكب والطنابير(اتترن ) و(المقاد) بصنوفه المختلفة كالقاعون والبطيخ والقرع واللوبيا الطازجة الخضراء تسلق مع الجرم و(الحدج). ولعلها استحضرت أصوات الهدهد تنطلق في الصباحات الندية من (حراز جدى) حيث كانت أوكارها وذلك الطائر المهاجر بألونه الزرقاء والبيضاء الذى تكثرحوله الأساطير(القينقارد).جيب الله ودكدكى أحد فحول شعراء الشايقية يقول مصوراً أضرار فيضان للنيل بالتمور والبراسيم وأن كثرة المياه أتلفت الزرع : أما التمر خلاه جالاليق انهرد بس غاية بخت القينقارد صادفه البخت لأنه يقتات على الديدان الناتجة عن ذاك الضرر. وفى البنادر علمونا أن اسمها( أم قيردون) ورددتْ معهم أرجوزة راجت على أيامنا: أم قيردون الحاجة الكلو صباحاً لاجا قاعدة في ضليلا تذبح في سخيلة وطائر آخر زاهى الألوان أسموه "الجقجيقة" وغنوا له مبهورين بجماله و ألوانه البديعة: الجقجيقة قلبى بريدا الله يعيقا شايلى ابريقا ألم يصف الشاعر ابورنات طيور الجنة بالحنينات، تلك عصافير لا يؤذيها أحد لأنها من طيور الجنة في زعمهم: لا طيور الجنة ليك اترسللى الحنينات كلمنك وجن حكنلى. كل ذلك يختلط بثغاء الأغنام وخوار الأبقار وربما رأتْ بعين الخيال الصبية والصبيات ينطلقون للجزارة فجراً يجلبون قطعاً من اللحم أو( المرارة) يلفونها في جريد النخل الأخضر خوفاً من خطفات الحدأة ,الحديدة البصر الماكرة. ولعلها استنشقت بفعل الخيال ايضاً رائحة الجريد الجاف يحترق لطهى (القراريص والدمعة) عندما كان الناس يتناولون الفطور باكراً. قالت لى ضاحكة وكل ذلك يجول في خاطرها: "ولم نسيت سُكسُك الحداد!؟" يا لخيالها من خيال طواف لا يستقر على حال! كأنها استرجعت كل شئ كان في شقاوتنا الباكرة. وسكسك الحداد كان رسماً باقدامنا على الرمل الأحمر.ونغنى ايضاً عندما يمتد طويلاً ونحن نزجر اقدامنا بذلاً للمزيد من الجهد لنبالغ في طوله حتى يكتمل في خيالنا جماله: "سكسك الحداد. .. دقا لى مرواد....". وللرمل في شأننا شؤون! كيف وهو مستودع ذكرياتنا في الأفراح والأتراح. يكثر (المعازيم) فلا تكفى الأسِرة في استيعابهم عليها فينام أهل الدار على الرمال الحمراء.ويغسلون ثيابهم لتنشر على أديمها فلا تتسخ. قال شوقى على لسان قيس بن الملوح وهو يسترجع ما كان من شأنه وشأن ليلى على الرمال: وكم خططنا في نقا الرمل فلم تحفظ الرمل ولا الريح وعى! نعم لقد صدق فليس للريح ولا للرمل واعية حافظة فقد محت الريح سكسك الحداد الذى رسمنا على صفحة الرمل وبات كأن لم يكن لكنه لم ينمحِ من ذاكرتها بل قل من ذاكرتنا معاً.كانت (السيدة) جسورة ذات جبرة لذلك غيّرتُ مناداتي لها من (السيودة) إلى (السيادة). كانت ترد علىّ بالتبسم والهمس"اين السيادة وقد وهن العظم ومضى الزمان؟" كأنها تستشعر دنو النهاية. وكنت على عكسها في طفولتي هادئاً و مسالماً لا أشاغب أحداً قط. كانت محظية عند أبي فقد جاءت بكراً لأمنا فكأنه قد تفاءل بقدومها بعد تشاؤم من التبكير بالذكور. إذ انه افتقد اثنين من الأولاد كانوا باكورة ذريته من نساء فاضت ارواحهن في إثر من خلفن من الولد. فإذا عيل صبرى من مضايقتها لي فانتفضت مغاضباً أرد عن نفسي الضيم ضرباً او رمياً بالحجارة سارعت إليه شاكية وهي موقنة من حيفه لا اقول من عدله. " داقها ليه.دقاك مدفع جبلي!" ولعل ذلك مما بقى في ذاكرتهم من ذكرى الحرب العظمى! فإذا قلت أدفع عن نفسي محقاً غضبته المضرية (رشت علىّ الماء إبتداءً! وها هو أثره على ملابسي!" رد على الفور "نان الموية حربة!؟" أى ماذا يضيرك من رش الماء يجهد في دفع التهمة عنها! ذكرت ذلك يوم أن دلق نادل أخرق (الشربات ) الباردة على سفير عربي من سفراء الشام. فوقع حرج عظيم على مضيفه فرد السفير الحصيف يبيد بلطفه ذاك الحرج " معليش صار خير الدنيا شوب !" اي الجو حار وهذه الشربات الباردة على سترتي الراقية تبيد ذلك الحر. وفى شأن الإبادة قال ابوالطيب في مدح كافور: يبيد عداوات النفوس بلطفه فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا كانت تكبرني بنحو عامين او ثلاثة وعندما ولدتُ حاروا في الاسم الذي يطلقونه عليّ فعمدت إلى ( العجان) وهو حجر ترحى به الحبوب على الرحاية فضمته إلى صدرها كالرضيع وبدأت تغني له وتناديه بالخضر فنزلوا على حكمها فكنت الخضر. كانت متوقدة الذكاء قوية الذاكرة حدثتني عن حي السجانة قبل أن يكتمل وعيي به. قالت كانت المرافق الصحية مشاعة في خارج البيوت (المراحيض) ولم تكن شبكات المياه قد أدخلت إلى المنازل فقد كان الحي ريفاً من الأرياف يعتمد على السقاة يجلبون الماء كل صباح. أرسلوها إلى مكان يعرف ببيت الخياطة فتعلمت طرفاً من الكتابة والقراءة فيه وبعض فنون الحياكة وكانت تكاد تحفظ موضوعات المطالعة في كتاب الأطفال تتغنى بها بألحان صاغتها بنفسها: (عمر والمهر.... عمر والمهر..). ولعل وفاة الوالد والوالد حالت دون تعليمها على الوجه الذي كان سيخلق منها إمرأة قيادية فذة. فتقاصرت سني طفولتها ودخلت في عداد الكبار وهي في الرابعة عشر من عمرها حلت محل الأم في الطبخ وإدارة البيت وكانت أماً لنا بمعنى الكلمة. تزوجت بابن عمنا البروفسور الخضر عبد الرحيم وأنجبت نجباء ونجيبات: محمد المبارك, عبد الرحمن وعبد الله، هند وخضراء وخنساء وخديجة. جاوروا البيت الحرام عقداً كاملاً من الزمان فحفظوا الذكر الحكيم فحفظت معهم ما تيسر لها من الأجزاء وظلت كما وصفها أحد المصلين يوم نعيها "حمامة مسجد". كانت تشتد عليها وطأة المرض فإذا زرناها فرحت من كل قلبها وضحكت من أعماقها لأنسنا وأطلقت الطرف والمضحكات وهى بارعة في محاكاة الأصوات والمواقف." وأنبغ ما في الحياة الألم !" وكان يسوؤها أن نسافر خاصة هاشم الذى يكثر السفر فلا تكاد تنام حتى نعود.وغادر روحها الفرح يوم غادر جعفر هذه الفانية.ذكرت كريماتها أنهم كثيراً ما كانوا يجدونها في جوف الليل تبكي عليه في صمت تنعي صغر سنه ورحيله المفاجئ. ثم صاحب روحها قبل الرحيل بأسبوعين نشاط وصحة وعزيمة ففرحنا لذلك واطمأنت نفوسنا التي كانت دوماً قلقة عليها وهي تعاني مضاعفات داء السكر منذ اربعين عاماً. قالت لى إحدى كريماتها إنها أسرت إليها بأنها تحس بانها لن تكمل هذا العام 2015وأنها ابتهلت إلى الله أن يأخذ روحها بغير ضجيج ومتاعب للاهل ورددت" يا الله من القوة إلى الهوة" وكان لها ما أرادت في الثاني من مايو الحالي لعام خمسة عشر وألفين للميلاد. فكان موتها موتاً ثانياً لأمنا العزيزة أنزل الله عليهما شآبيب الرحمة والغفران. وبعد قولوا لي بربكم كان ذلك بعد اشهر قليلة من رحيل حبيبنا الاصغر جعفر.ومع التسليم المطلق بقضاء الله وقدره والرضا التام بمراده فينا ألفيتنا نحن الذين خبرنا الموت صغارا زغب الحواصل, وكأننا لم نذق مراراته في حياتنا قط فكأن الموت هو الشيء الوحيد المستعصي على الفطام. الله وحده يشهد أننا محزونون. . محزونون حتى النخاع. فمصيبة الموت مهما تواترت ومهما تكررت في الحياة لا تفقد مذاقها البئيس المغموس في الدم ورائحة الفناء الأبدى. أحبة لن تقع عليهم عين ولا يسترق أصواتهم سمع. قال المتنبئ ولعله كان يغايظ خصومه وحساده : رمانى الدهر بالأرزاء حتى فؤادى في غشاء من نبال وصرت إذا اصابتنى سهام تكسرت النصال على النصال فهان فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي هذا مقام مختلف ايها الشاعر الفحل فوقع الموت أنكى وأشد مضاضة من ضرب الحسام و السهام. لكنه أحسن حين قال: كأن الموت لم يفجع بنفس ولم يخطر لمخلوق ببال مر علىّ أحد فضلاء العُباد وأنا لم أفرغ بعد من كتابة هذه السطور، يسألنى أن كانت قد قرت نفوسنا بعد مصابنا الجلل في فقدها فسألته سؤال المستيقن من الإجابة : هل من فطام في تكرار الأحزان؟ أجابنى على الفور بالنفى قائلاً إن حبيبنا المصطفى عليه السلام وصف بأنه كان متواصل الأحزان و بشوشاً مع ذلك لا تفارق محياه البشاشة. قال تساءلت كيف ذاك؟ قالوا تهزه الأحزان ويسعده تجدد الحياة بقدوم آخرين عليها. بأبي هو وأمي. غفر الله للسيدة ولجعفر وجمعنا بهم في أعلى عليين. وحتى ذلك الحين، اللهم أربط على قلوبنا المفجوعة بجميل الصبر وحسن العزاء. والدعاء بأجزل الثواب لكل من واسانا حضوراً وهتافاً عبر الأثير. آمين! الدكتور الخضر هارون هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته