هذه ترجمة وتلخيص غاية في الاختصار لجزء من مقال طويل كتبه "سي . اي . جي . ويلكيلي" وهو أحد أعضاء الإدارة العسكرية البريطانية في السودان وقد نشر هذا المقال في العدد (14) من مجلة السودان في رسائل ومدونات عن قصة الخرطوم والتي تناولها الكاتب بدءاً من أواخر الحكم التركي وبدايات الثورة المهدية، ساردا فيه وقائع حصار وسقوط الخرطوم من قبل جيوش المهدية ومن ثم سقوطها تاليا في ايديهم، ومن الواضح أن كاتب المقال قد نقل وقائع سقوط المدينة في أيدي قوات المهدية بتصرف كامل من كتاب الأب جوزيف أورفالدر عشر سنوات من الأسر في معسكر المهدي والذي ترجمه للغة العربية قبل سنوات قليلة السفير عوض أحمد الضو، كما تناول المقال جهود إعادة إعمار وإحياء المدينة بعد نهاية حكم المهدية وبداية الحكم الثنائي. في هذا الجزء الذي ترجمناه نتناول قصة الخرطوم في أواخر الحكم التركي حتى سقوطها بأيدي المهدية و نهايتها كعاصمة لحقبة الحكم التركي للسودان. في عام 1874 زار البارون رودلف فون سلاطين الخرطوم لأول مرة وهو في طريقه لجبال النوبة وعند عودته للنمسا في العام التالي والتي كانت خلال فترة ولاية غردون الأولى كحكمدار للسودان وهو ذات الوقت الذي بدأ فيه فرنسي يدعى مونسيور ماركيت صناعته الجديدة في الخرطوم بتعبئة وتمحيص الصمغ بجودة وحجم، وبعد ست سنوات تالية وصف نائب القنصل البريطاني في المدينة باور مونسيور ماركيت بقوله "التاجر المليونير هنا، وقنصل فرنسا". و بسبب الحمى خسرت البعثة التنصيرية النمسوية في عام 1878 سبعة عشر قساً من قساوستها، بينما وصل للخرطوم ويلسون وفيلكن حيث حظيا بترحاب غاية في اللطف من قبل غردون باشا حكمدار السودان وقتها اللذين تحدثا عنه كواحد من أنبل رجال عصره، وبعد عامين وصل للخرطوم دكتور يانكر واقام فيها في منزل عرف بمنزل أبو خمسمائة وهي كنية الحاكم السابق الذي كان يعاقب المذنبين بالجلد خمسمائة جلدة، وكان موقع هذا المنزل غير بعيد عن ضفة النهر ويقع بين مبنى المديرية والقصر في تلك الأيام. في فبراير من ذات العام 1880 عاد ويلسن وفيلكن ولاحظا تحسنا كبيرا طرأ على المدينة والتقيا جقيلر باشا الذي كان حكمدارا عاما مكلفاً وحضرا الايام الثمانية المقدسة للمسلمين – لعل الكاتب يقصد مناسبة عيد المولد النبوي الشريف المترجم - وقد نصب كل ديوان من دواوين الحكومة وهي دواوين الحربية، المالية، الداخلية خيمة للاحتفال بهذه المناسبة في فنائها، وقد زينت كل واحدة منها بالاعلام والمصابيح وقد تبادل رؤساء الدواوين زيارة تلك الخيم كل ليلة وقد اختتمت احتفالات المولد النبوي بعرض كبير للمفرقعات والألعاب النارية (ربما تكون هذه أول إشارة الى أن الخرطوم عرفت مبكراً استخدام الألعاب النارية في إحياء المناسبات والاحتفالات العامة – المترجم). في أغسطس 1881 أعلن محمد أحمد نفسه مهديا وفى العام التالي ارتحل الى كردفان وشرع في الاستيلاء عليها، وقبيل وقت قصير على وصول هكس باشا بقواته المصرية البالغ قوامها 10 آلاف جندي للخرطوم، خلف علاء الدين باشا عبد القادر حلمي باشا في منصبه حكمداراً عاماً للسودان في 1883 وقد بدأت المدينة وسكانها في ذلك العام في حالة حصار مفترض، وبلغ عدد الأرقاء المسجلين في الخرطوم نفسها 27 ألف عبد ودارت عجلة تجارة الرق مجدداً فيما عانى الأهالي اشد المعاناة من الضرائب والفساد فإذا رغبوا في زراعة الذرة توجب عليهم دفع مقدار من المال للحصول على رخصة تمكنهم من فعل ذلك ثم يتوجب عليهم بعد ذلك الدفع كذلك لرفع مياه الري من النيل وإذا ما حصلوا على محصول وفير توجب عليهم كذلك الحصول على رخصة لبيعه وحال كان المحصول جيداً تتضاعف ضرائبهم التي يذهب نصفها للباشا والنصف الآخر لحكومة القاهرة. في نوفمبر 1883 ابيد جيش هكس باشا، فأصاب الرعب سكان الخرطوم فطفق حسين باشا سري ومساعدوه إضافة لقناصل بريطانيا، فرنسا، والنمسا يجمعون المؤن ويجلبونها للحاميات، وشرعوا في تقوية دفاعات المدينة بتعميق الخنادق ومد المتاريس الى 1,54 ياردة على طول السهل الجاف الذي خلفه تراجع النهر. فى نهاية الشهر (نوفمبر) أقام مونسيور ماركيت عشاء وداع حيث كان سيغادر الخرطوم في اليوم التالي، كانت ترتيباته لهذه المأدبة مثيرة للاهتمام إذ كان له صالون عده نائب القنصل البريطاني باور يفوق ما هو موجود في باريس نفسها حيث كان مضاءً بالشموع وتحفه المرايا وزجاج معشق وفضة وزهور، وعشرة من الخدم يرتدون حللا زاهية، كان عشاءً باريسياً خالصاً قام بإعداده الطباخ الفرنسي لمونسيور ماركيت وقد تضمنت أنواع الخمور المقدمة الشمبانيا، الهوك، والكليبرت خمر مدينة بوردو الفرنسية، وقد جمع ماركيت حصيلة كبيرة في حديقة بيته التي كانت تشتمل على ببغاوات خضر، وفطر، وزنابق، والعديد من الفواكه من الفراولة الى الأناناس (ذكر الدكتور أحمد أحمد سيد أحمد في كتابه الرائع تاريخ الخرطوم في العهد التركي المصري، أن منزل التاجر الفرنسي مونسيور ماركيت كان يقوم جزء منه في الجزء الشرقي من جنينة السيد علي الميرغنى والجزء الآخر في الشارع الذي يقع للشرق منها في خرطوم اليوم – المترجم). كانت هنالك دلائل وعلامات داعية للتشاؤم قبيل مجيء غردون فقد كان لا يمكن لبوار نائب القنصل البريطاني أن يرى شعاع ضوء عبر الظلام الحالك الذي يستمد البلد اسمه منه، وبدأ أن كل شخص في المدينة مصاب بالجدري، وقريبا من السوق الذي يبتاع منه الأوربيون طعامهم كانت هنلك جثث اربعة خيول والكثير من الجمال ظلت ملقاة لأكثر من شهر تلازمها ابن آوى والنسور مما دفع نائب القنصل باور والكولونيل كوتلوجون لأن يحملا كافورا ليسدا به أنفيهما طوال اليوم. الحدائق على طول ضفة النيل الأزرق استمرت مزدهرة، لكن حين فاض النيل وصل للمتاريس الأمر الذي سهل لاحقاً دخول الدراويش للمدينة. وقد بدت صورة المدينة من النيل الأبيض وكأنها كتلة من المنازل الكئيبة التي ارتفعت فوقها مئذنة المسجد، بين النهر والمدينة سهل رملي مجدب المدخل للمدينة على الجانب الغربي كان يمر عبر طريق طويل ضيق يمتد حتى جهتها الشرقية وينتهي عند السوق، هذا الطريق كان قذراً للغاية وكان على جانبيه منازل طينية كانت الوحيدة مشرعة أبوابها في الشارع ومع ذلك فقد كانت الأفضل في المدينة وتشتمل على مقر إقامة الحكمدار ومكاتبه ومنازل الأتراك، الأقباط، والعرب. في أجزاء أخرى من المدينة كانت هنالك بعض مظاهر الانتظام وبصرف النظر عن وجود قليل من المنازل الجيدة لكنها كانت من نوع بائس فقد تألفت من طين مجفف مكسو بروث البقر بعد خلطه بالطين، ولم تكن هناك فنادق أو نزل صغيرة فقد كان على المسافرين القادمين للمدينة أما أن يقيموا مع صديق أو أن يطلبوا من الحكمدار أن يمنحهم منزلاً والذى غالباً ما يكون منزلاً واسعاً وذا فناء متسخ تحيط به غرف، ولم تكن توجد مطاعم على الرغم من أن هناك عددا من المقاهى يملكها أغاريق والتي يمكن الحصول منها على مشروبات كحولية وقرب السوق يقع المسجد، مقاه، بارات، مدرسة قبطية، مستشفى، سجن، وتوجد كذلك ثكنات. كان لجوزيف هنسل قنصل النمسا الذي قضى نحو ثلاثين عاماً في السودان شهرة محلية واسعة وفي حفل استقبال نظمه الحكمدار قيل إن القنصل هنسل برز للعيان في مشهد مهيب وغير اعتيادي حيث ارتدى سترة حمراء بأكتاف واسعة مقصبة وصديري أبيض طويل ورداء أزرق فضفاض. أما الأمر الآخر الذي كان جديراً بالملاحظة لسكان الخرطوم في عام 1883 فقد كان الرحالة الهولندي شيفر الذي امتلك ثلاثة قوارب رفع عليها الراية الهولندية وقد عاش هذا الرحالة في منزل منعزل وسط أشجار نخيل خارج المدينة. وكانت البواخر قد أرسلت من مصر للخرطوم في ثلاث مناسبات مختلفة، البواخر الأربع الأولى أرسلها سعيد باشا والى مصر (1854 – 1863) حوالى عام 1860 ولاحقاً أرسلت ست بواخر أخرى عن طريق النهر وثلاث بواخر وصلت مجزأة عبر الصحراء لاستخدامها في الجهود الاستكشافية للسير صموئيل بيكر في عام 1869، فيما وصلت أربع بواخر أخرى مجزأة عبر طريق سواكن – بربر عندما أصبح غردون حكمداراً عاماً، وكانت الباخرة البوردين واحدة من تلك البواخر النيلية التي أرسلت لاستخدامها في الحملة الاستكشافية لصموئيل بيكر ولسنوات عدة أعقبت إعادة احتلال السودان رست البوردين على ضفة النهر في الخرطوم بحرى لكن الآن أعيد تأهيلها لتبدو كما كانت على أيام غردون راسية قبالة القصر وقد قيل إن اسمها "البوردين" مأخوذ من اسم قرية في مصر العليا "صعيد مصر" حيث كان شريف باشا رئيس وزراء مصر يمتلك أطياناً في تلك القرية، وقد جرى تجميع الباخرة البوردين أصلاً لتعمل كباخرة نقل رخيص على نهر التيمس بين جسر لندن وجرينتش، وعندما تم تسليحها تحت إشراف الكولونيل ستيورات كانت هنالك فراغات صغيرة في التجويف للكيبل ثم يأتي برج من عاراضات خشبية ربطت مع بعض بمسامير حديدية وكان هذا البرج يحتوي على مدفع يطلق النار أفقياً (يرقد هيكل الباخرة البوردين حاليا شمال منتجع الريفيرا على شاطئ النيل في أم درمان بعد أن أعيد تجميعه وترميمه عام 2010 - المترجم)، وقد قامت الباخرة البوردين في كبح جماح تجارة الرقيق كما استخدمت الباخرة البوردين عام 1880 في إنقاذ قوات جيسي حين عين غردون لأول مرة حكمدارا لخط الاستواء وكلف جيسي باحتلال بحر الغزال كجزء من مشروع إخماد تجارة الرقيق التي قيل في ذلك الوقت إنها تدر للخرطوم سنويا مليونين وثمانمائة ألف دولار. ترجمة: خالد هاشم خلف الله * * مراسل تلفزيوني