في مطلع هذا العام أجاز البرلمان قانون حق الحصول على المعلومات في السودان. وأعتقد أن هذا قرار تجدر الإشادة به في المقام الأول لأنه يعتبر أول قانون يختص بهذا المجال منذ استقلال السودان في عام 1956، لذلك تأتي إجازته في مصلحة السودان أولا باعتباره التزاما وطنيا يتماشى مع المواثيق والاتفاقيات الدولية المختصة بهذا الشأن. ومصدر آخر لترحيبي بصدور هذا القانون هو كسر الحكومة السودانية لجدار الريبة الشديدة وإزاحة نقاب السرية اللذين ظلت تتعامل بهما مع كل ما يختص بنشر المعلومة وحرية تداولها. وفي عصر العولمة الذي نعيشه حاليا وما نتج عنه من انفتاح ووعي بالحقوق المدنية ما عاد يجدي أن تصبح المعلومات حكرا على الحكومات وصانعي القرار يعطونها متى شاءوا وكيف ما شاءوا ويحجبونها متى ما أرادوا وبحجج مختلفة لتحقيق مكاسب سياسية ومصالح فئوية ضيقة، ففي المفاهيم المدنية الحديثة تعتبر المعلومة ملكية عامة وأداة رئيسية من أدوات تعزيز الممارسة الديمقراطية والشفافية وأساسا لأعمال مبادئ المساءلة والمحاسبة لأداء الحكومات ومؤسسات البلاد العامة مما يمكن من محاربة الفساد والوصول إلى مفهوم الحكم الرشيد . كذلك يعتبر حق الحصول على المعلومة ضرورة من ضرورات أجندة التنمية، فبدون توفر المعلومة الصحيحة وبصورة حديثة ومستمرة يصعب جدا تحديد أوجه القصور ورصد مشاكل وتحديات التنمية بصورة علمية ومنهجية تؤدي إلى التخطيط الإستراتيجي السليم. وحتى بعد تنفيذ المشاريع التنموية لابد من الحصول على المعلومات الناتجة عن عمليات الرصد والمتابعة وتحليلها لتقييم نتائج هذه المشاريع ومعرفة إذا حققت أو لم تحقق الأغراض المنشودة منها والتقصي في أسباب القصور والإخفاقات بغرض التصحيح والتجويد . ومن ما يجدر ذكره أن الكثير من الدول تضمن حق الحصول على المعلومة في دستور البلاد أو من خلال القوانين التي تنظم بيئة العمل الإعلامي. فعلى سبيل المثال واستناداً على دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة2005 ومبادئه الأساسية المذكورة في وثيقة الحقوق، يكفل الدستور حق الحصول على المعلومات للمواطنين. ولكن أثبتت تجارب العديد من الدول أن الدستور وحده ليس كافيا لمنح حق الحصول على المعلومات لأنه لا يقدم ضمانات صريحة تؤمن على تفعيل هذا الحق وليس هنالك أي إجراء يمكن أن يتخذه طالب المعلومة ضد الشخص أو الجهة التي رفضت منح المعلومة. لذلك كان لا بد من سن قانون قائم بذاته ومجازا بواسطة الجهات التشريعية المختصة لتقنين هذا الحق. القانون الذي تمت إجازته بواسطة لجنة الطرق والجسور والاتصالات السابقة بالبرلمان في دورته الماضية ومن غير أي جلسات للحوار والتشاور مع المختصين والمتعاملين مع المعلومات من منطلق مهني وجد الترحيب من البعض والرفض لبعض بنوده من آخرين. هل من حق العامة أن يعرفوا كل شيء؟ فبينما رحب البعض بهذا القانون انتقده آخرون بسبب الاستثناءات الكثيرة الواردة فيه والتي بلغت اثني عشر استثناء يمنع فيها حق الحصول على المعلومات لأسباب عدة يأتي في مقدمتها الامن القومي والنظام العام وحماية التحقيقات الجنائية والحفاظ على الخصوصية والمصالح التجارية، وقد صنفت إحدى التقارير العالمية مثل هذا القانون في الصين "بأنه غير مجد وغير فعال" باعتبار أنه قد حوى ستة عشر استثناء. وعموما يمكن تعريف المعلومات المتعلقة بهذا القانون بأنها "أي بيانات متواجدة بحوزة هيئات ومؤسسات الدولة التي يسري عليها هذا القانون أو في حال حفظها لدى جهة أخرى بالنيابة عنها وسواء كانت شفوية أو مكتوبة أو سجلات أو إحصاءات أو وثائق مكتوبة أو مصورة أو مسجلة أو مخزنة الكترونيا أو بأي طريقة حفظ أخرى". وفي هذا الشأن تفرض بعض الأسئلة نفسها وهي : هل من حق العامة أن يعرفوا كل شيء؟ وإذا كانت الإجابة بلا وهي شيء مفهوم في تقديري طالما اقتضته المصلحة العامة ودواعي الأمن القومي، إذن لابد من تحديد الاستثناءات بصورة دقيقة وواضحة. وسؤال آخر يجب أخذه في عين الاعتبار وهو يتعلق بالكثير من القوانين الأخرى الموجودة والتي تحظر تداول المعلومات في مناح مختلفة، فكيف يمكن تفادي عدم حدوث تضارب يمنع الاستفادة الحقيقية من هذا القانون؟ والشاهد أنه حتى في اكثر الدول ديمقراطية ليس هنالك حق مطلق في الحصول على المعلومة فهنالك دوما "معلومة مصنفة للنشر" وأخرى "لا يمكن نشرها" وذلك بوجود نصوص صريحة في هذا الخصوص. وعموما يمكن القول بوجود قدر كبير من التشابه بين محتوى ونصوص قوانين تداول المعلومات في العديد من الدول فقد تأثرت ببعضها البعض فيما يختص بما تضمنه من بنود وما تحدده من محاذير بخصوص حجب معلومات بعينها. ولابد من القول هنا إن قانون حق الحصول على المعلومات الأمريكي مثل مرجعية لكثير من القوانين المشابهة في دول أخرى إذ أنه صدر منذ عام 1966 وبالتالي كان أقدم قانون في هذا المجال وهو مازال يخضع للتجديد المستمر تماشيا مع متطلبات العصر. واعتقد أن مرد تخوف الكثيرين من المختصين في السودان يرجع إلى كثرة الإستثناءات الواردة في القانون والتي يمكن أن تحدث ثغرات عند التنفيذ لأنها تمنح الجهات المختصة صلاحيات واسعة لحجب المعلومة وقد أبدى البعض من المتعاملين مع المعلومات بصورة مباشرة ويومية كالصحفيين مثلا تخوفهم من أن يكون القانون الجديد تقنينا لتقييد عملهم في بيئة معادية أصلا لحرية تدفق المعلومات. الترسانات البشرية والإدارية من مهددات هذا القانون كما ذكرت سابقا هذا القرار تجدر الإشادة به و لكن الرهان الحقيقي يكمن في كيفية إنزاله على أرض الواقع. وأقول دائما أن علتنا الرئيسية في السودان ليس في وجود القوانين أو عدمها ولكن في كيفية تطبيق هذه القوانين وإنزالها على أرض الواقع وتطبيقها بدون محاباة أو تلاعب أو استغلال للنفوذ، فقوانيننا على الورق "ما أجملها" ولكنها منفرة ومستفزة عند الممارسة والتطبيق والذي عادة ما يحدث بصورة انتقائية ومزاجية تنعدم فيها المؤسسية وإعمال مبدأ الناس سواسية أمام القانون. الشئ الآخر الذي يجب على القائمين على أمر هذا القانون القيام به هو القيام بحملة توعية للعامة عن طريق الوسائط الإعلامية المختلفة عن كيف يمكنهم الاستفادة من هذا القانون لأغراضهم الأكاديمية والبحثية وغيرها. كذلك لا بد من تدريب وتأهيل لكل المختصين بتنفيذ هذا القانون بغرض تغيير ثقافة السرية السائدة عند من يملكون المعلومة في السودان وتعاملهم معها كحكر شخصي لا يجوز للآخر حق الحصول عليها. على سبيل المثال ما زالت أغلبية الشعب السوداني تتساءل في خضم الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد "اين ذهبت أموال البترول؟ وفي تقديري أن هذا السؤال مبتور من نصفه الأعلى ويجب أن يبدأ أولا بكم كانت عائدات البترول؟ ففي عهد وزير النفط السابق دكتور عوض الجاز حرم المواطن السوداني من الحصول على معلومة أساسية وهي حق أصيل من حقوق المواطنة في معرفة إيرادات النفط والذي كان العمود الفقري لاقتصاد السودان إبان فترة اتفاقية السلام الشامل مع جنوب السودان. وبالتالي حرم المواطن من معرفة أين كانت أوجه صرف هذه العائدات الضخمة والتي لم يلمس منها المواطن العادي أي تغيير يذكر في مستوى معيشته اليومية أو زيادة دخله أو تحسين نوعية الخدمات الصحية والتعليمية المتوفرة له. وما ذكرته عن وزارة النفط ينطبق أيضا على وزارات أخرى ذات طبيعة إنتاجية مثل وزارة المعادن حيث ما زالت المعلومات والإحصائيات متضاربة عن الإيرادات الحقيقية للذهب وما ينتجه التعدين الأهلي والحكومي ودور الشركات الأجنبية واستثماراتها في هذا المجال وغيرها الكثير جدا من الأمثلة. غير أني أرى أن أكبر تحد سوف يواجه تنفيذ هذا القانون هو ببساطة عدم وجود المعلومة عند من يفترض أن يملكوها للآخرين! فعدم توفر البنى التحتية اللازمة لإدارة المعلومات من جمع للمعلومات وتحليلها وحفظها وعدم حوسبة النظام الحكومي، بالاضافة إلى ندرة الكادر البشري المؤهل سوف تمثل تحديا حقيقيا لتطبيق هذا القانون بصورة عملية. وهذا بالضرورة شيء مكلف ويحتاج إلى تخصيص موارد مستقلة للمفوضية التي أنشئت بغرض تطبيق القانون وللجهات الحكومية المستهدفة، على سبيل المثال تتكلف الإدارة الأمريكية ما يعادل مبلغ 286 مليون دولار سنويا مخصصة لإدارة المعلومات بصورة منهجية مما يمكنها من الإيفاء بالتزامها نحو مواطنيها فيما يختص بتنفيذ قانون حق الحصول على المعلومات . لذلك هنالك ضرورة لربط تنفيذ هذا القانون مع مشروع الحكومة الإلكترونية لتشابه متطلبات الاثنين فيما يختص بتوفير الجانب التكنولوجي وتأهيل الكادر البشري، والشيء الجيد أن كليهما يتبع لوزارة واحدة وهي وزارة العلوم والاتصالات مما يمكن أن يسهل من عملية التنسيق والتنفيذ. وأعتقد أنه من الضروري بمكان أن لا يقتصر القانون على السودانيين بل يمكن أن يمتد ليشمل أيضا حق الأجانب في الحصول على المعلومات على الأخص في ظل سياسة الحكومة الحالية الرامية إلى استقطاب الاستثمار الأجنبي وتوسيع التبادل التجاري مع ضمان اعتبارات الأمن القومي وهذا شيء معمول به في عدة دول مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة واليابان وبلغاريا وتايلاند والمكسيك. وأتمنى أن لا يظل هذا القانون حبرا على ورق لأنه هنالك دائما الكثير من الترسانات البشرية والحواجز الإدارية التي تحول دون تفعيل نصوص مثل هذه القوانين. والتجارب أثبتت لنا أنه في أحيان كثيرة يرفض الوزراء والجالسون على هرم السلطات التنفيذية الاستجابة لرغبة البرلمان في الإدلاء بإفاداتهم حول موضوع معين أو مد البرلمان بمعلومات تختص بقضية ما. وإذا كان هذا حال بعض مؤسسات القطاع العام في التعامل مع البرلمان كأعلى سلطة رقابية وتشريعية في البلاد، فكيف سوف يكون التعامل مع المواطنين العاديين وغيرهم من المتعاملين مع المعلومة بصفة مهنية؟ وفي الختام وبعد كل حديثي أعلاه حول هذا الموضوع لك عزيزي القارئ أن تعلم أني فشلت تماما وحتى هذه اللحظة في الحصول على نسخة من هذا القانون من كل الجهات المختصة للإطلاع عليها ومحاولة معرفة إجراءات طلب الحصول على بعض المعلومات لأغراض بحثية أقوم بها وقد أستندت في مقالي هذا على تصريحات رسمية سابقة للقائمين على أمر هذا القانون وفقط! لذلك أرجو الإفادة عن مصير هذا القانون والذي تمت إجازته منذ سبعة أشهر من الجهات ذات الصلة والتي تشمل البرلمان ووزارة العلوم والاتصالات والمركز القومي للمعلومات وغيرها. ندى أمين هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته