وكوستي هي المدينة الوحيدة في هذه الدنيا التي لا يسكنها الناس ولكنها تسكنهم وتسيطر على دواخلهم بلا استئذان، وهي المدينة الوحيدة في هذا العالم التي تبادل ساكنيها وعارفي فضلها وجمالها حبا بحب وعرفانا بعرفان وفوق هذا وذاك فإن كوستي هي المدينة الوحيدة التي يتراجع أمام حبها وعشقها مسقط رأسك لأن أهلها يجعلونك لا تفتقد الأهل والعشيرة والصحاب لأنهم هم الأهل والعشيرة والصحاب والملاذ الإنساني الآمن. وكوستي جميلة ومعشوقة في صدور عارفيها فقط الذين يهيمون عشقاً وولهاً حتى عندما يأتي ذكرها وإذا كنت في جزر "الواق واق" وتأتي سيرة كوستي فلا تملك إلا أن تدمع عيناك غصباً عنك ودون إرادة ولا زالت الذاكرة تختزن صورة تلك الدموع الحقيقية الوفية عندما زار أحد رموز كوستي رمزاً كوستاوياً مريضاً ولكنه حبس الدموع حتى يخرج إلى الشارع العريض ليجهش بالبكاء حزناً على رفيق دربه المريض. تابعت بحزن بالغ أواخر الأسبوع الماضي مأساة أهل كوستي وهم يعتصمون بالمحلية أملاً وتوسلاً أن يعود إلى محليتهم كوستي ابنها البار أبوعبيدة العراقي الذي غير وجه المدينة بعد الدمار والخراب الذي لحق بها في غابر الأزمنة وبجهود ومجهودات ومجاهدات أبوعبيدة الذي تجاوب معه أهل كوستي لأنه منهم ولأنهم شعروا بطهارة يده وعفة لسانه وتحولت كوستي في زمن قياسي بسيط إلى مدينة تضاهي كل مدن السودان الكبرى، نعم تغيرت ملامح كوستي تماماً وتوفرت فيها كل البنى التحتية وتوقفت فوضى الأسواق وانتشر النور في شوارع المدينة التي كانت مظلمة واكتست شوارع كوستي وميادينها بخضرة زاهية تسحر الناظرين كل هذا في زمن وجيز وجيز، ولكن يبدو أن البعض لا يعجبه العجب ولا هيثم مصطفى وأرادوا أن ترجع كوستي "سيرتها الأولى" أيام الدمار والخراب والفوضى والظلام وكان القرار أن يغادر ابن كوستي أبوعبيدة العراقي محلية كوستي بعد النجاحات الخرافية التي تحققت ولم تشفع ولم تنفع صيحات أهل كوستي التي تطالب ببقاء العقيد أبوعبيدة معتمداً لمحلية كوستي، ولأن أهل كوستي لا يعرفون أكثر أحسن من الحكومة، كما يقول عادل إمام فقد تجرعوا الظلم ورفعوا أياديهم للسماء التي لا تظلم أحداً. ونحن نتساءل ببراءة الأطفال لماذا يكافأ الناجحون بالجحود والتعسف وتوضع أمامهم العراقيل والسدود؟ لماذا نعتقل النجاح ونحاصره ونطلق العنان للفوضى لنتجول جنباً إلى جنب مع الفشل لتمد لسانها للناجحين وأنصارهم. وسؤال بريئ لولاة الأمور في هذه الولاية لماذا يقفون على الضفة الأخرى من النهر؟ ولماذا يقهرون المواطن ويرفضون الاستجابة لطلباته ولماذا يفرضون على المواطن ما لا يريد ويحرمونه عنوة ما يريد وهل كتب على الناس في هذا الزمن الرديئ أن لا يعيشوا في سلام وأمان وسعادة؟ وهل يريد ولاة الأمور في الولاية أن يتغنى أهل كوستي برائعة النعام آدم: مظلوم ما حصل في يوم وجدت مرادي مكتوب لي العذاب في جبيني يوم ميلادي. وهل يريد الحزب الحاكم إخراج منسوبيه من أبناء كوستي وخاصة أولئك الذين يعتلون مناصب قيادية في هذا الحزب؟ ولماذا يستجيب الحزب الحاكم لبعض اللمسات والهمهمات الصغيرة ولا يسمع لتلك الأصوات الداوية الصادقة الحادبة القاصدة إعمار وتطوير المدينة! وقبل اتخاذ القرار بمغادرة العراقي إلى كوستي كان يمكن لهؤلاء السادة أن يقارنوا كوستي بعد وقبل أن يتولى أمورها العراقي، وأهل كوستي لا ينحازون للمعتمد لأسباب جهوية أو غيرها، ولكنهم انحازوا تماماً للإنجاز والإعجاز والصدق والعزيمة التي لم يألفوها من قبل. وإذا كان البعض يتحدث عن التغيير فهذه في نظرنا نكتة كبرى ونكتب ونقول "نضحك مما نسمع" على رأي الشعار القديم ولماذا التغيير في كوستي فقط؟ وأين كان شعار التغيير ونحن نرى ذات الشخوص منذ ما يفوق عقدين من الزمان يجلسون على ذات الوزارة وذات الوظيفة؟ ولماذا يرفع شعار التغيير؟ شعار التغيير يرفع عالياً إذا كانت الأحوال مائلة، وسيئة ولكنه يتراجع ويتقهقر في زمن الإنجازات، ونحن نقول إن التغيير في حالة معتمد كوستي يعتبر كلمة حق أريد بها باطل. نحن لا نلوم كثيراً الذين اتخذوا القرار بمغادرة العراقي وإنهم لم يرددوا مع أهل كوستي في الزمن الجميل "كوستي بلد" ولم يسمعوا ولم يعرفوا الرموز الأوائل التجاني محمد خير وعمر عثمان الأمين وأحمد عبد القيوم والرعيل الأول الذي صنع كوستي التي وجدوها. نعم هؤلاء السادة لا يعرفون مجتمع كوستي ودروبه لأنهم يشجعون الرابطة في الاستاد ولم يتعاطفوا مع الشعلة والجهاد والأهلي والشبيبة ولم تطأ أقدامهم أندية الهلال والمريخ والوطن ولعلهم لم يتذقوا القهوة في ليالي رمضان عند مقهى حامد السيد. نحن لا نعتب على هؤلاء السادة إذا لم يعشقوا كوستي لأنهم لم يندمجوا وينصهروا في مجتمع كوستي الجميل في أحزانه وأفراحه، نعم إننا نعذر هؤلاء الذين لم يمارسوا طقوس العزاء في مدينة كوستي ولم يحرصوا على حضور الأفراح التي تشعر الإنسان بآدميته وتقربه من المجتمع الكبير. نحن حتى الآن ما زلنا ندرس ونستقصي الحقائق لماذا يكره هؤلاء الناس كوستي؟ لماذا يعملون على تدميرها وهم ربما لا يشعرون- لماذا يريدون إقصاء وإبعاد الذين يحبون كوستي ويسهرون على تطويرها؟ ما هو سر هذا العداء الظاهر الذي لا تخطئه العين لكل ما هو جميل في كوستي؟ ولماذا يناصبون العداء الرعيل الأول الذي جعل كوستي مدينة وشيدوا أسواقها ومدارسها وجوامعها وعبدوا طرقها وجعلوها قبلة لكل من يبحث عن الجمال والأصالة والصدق. نحن لا نريد أن نكتب كثيراً وهنالك الكثير المثير الخطر، ولكن هنالك أيضاً ثقافة "المسكوت عنه" وربما نريد أن "نخليها مستورة". لماذا لا تتوحد الأيادي وتتحد لتطوير كوستي والعمل على رفعتها أليس ذلك ممكناً؟ وإذا كنتم تحبون كوستي فلماذا غبتم عن النفرات التي قصدت تغيير وجه الحياة في تلك المدينة؟ لماذا لا نجرب الانصهار ونترك الإقصاء والاستحواذ وصناعة الأزمات؟ أيها السادة عليكم النظر نحو كوستي ومعلوم أن أهل مكة أدرى بشعابها وعليه فإن أهل كوستي أدرى بمصلحتها ولا داعي أن نغالط أنفسنا في إصرار عجيب ونقول إن أهل مكان ما أو مدينة يمكن أن يعرفوا مصلحة كوستي أكثر من أهلها، ولا يمكن قطعاً لأهل كوستي أن يعرفوا مصلحة أهل مكان آخر أكثر من أهله. وأخيراً ندعو الناس للتوحد بحثاً عن تطوير هذه المدينة الجميلة بعيداً عن الإقصاء والاستحواذ رافعين راية التجرد والرفض والنقاء.