حفنة تراب من أرضك المكتوم عذاب عندي ما بتهون دقيقة ولا بتقدر بي ثمن عزّة ضرايحك وهي بتعانق في السحاب طرتني في درب السفر المعزة النازفة وشحت التراب وتغيب الصورة حساً ويبقى معناها الكبير الأشم .. تنطوي الجغرافيا وتتبدل معالمها .. ويبقى التاريخ .. حكايات وذكريات ورؤى لا تبارح الخيال ولا العقل يبارحها .. ويظل الشوق نزيفاً ومورداً ويتجسد الوطن و " يتحكَّر " في القلب والخاطر .. كما آلهة الإغريق . ما كان السفر والارتحال إلا ابتعاثاً للتعلم يعود بعدها المبتعث نفسه ليعتصر نفسه وعلمه رحيقاً للوطن، ثم ظهرت بعد ذلك مآرب أخرى بعد أن تسيّد البترودولار أسواق العمل .. لحظات قاسية تلك التي يوازن فيها الإنسان بين بقاء في أحضان أم رءوم .. أو رحيل إلى حين .. هكذا تبدأ المقارنة غير العادلة .. رحيل إلى حين .. تكتسب فيه سماوات ذلك الرحيل لوناً وردياً .. وغداً يبدو كبارق ثغر عبلة .. والنتيجة رحيل رغم كل الثراء في أدبيات الرحيل التي تستعرض كل أوجاع الرحيل .. ولا تداويها . غريب وحيد .. فى غربته حزنان .. يكفكف .. دمعته حيران يغالب لوعته ويتمنى بس لي أوبته . ويحدث نفسه .. هذه ديار بعيدة .. وغربة موحشة أليمة الليل فيها غريب " مازي ليالينا الزمان " .. والدنيا فيها " نشفانة عدمانه الحنان " والقمر هناك قاتم ومظلم " ما زي قميراتنا الحسان " أفلا يكفي هذا كي يشرق صاحبنا بالدمع .. ويفيض بالأمل لعودة وأوبة ؟ . الفين سلام يا يمة ياشتل المحنة الشب في وسط الجروف الفين سلام يا يابا يالدرع المتين الليهوكم سجدت سيوف هذا هو الملجأ والملاذ .. أن يرد ذلك المورد المتجدد .. أن يرحل محلقاً بخالية حاملاً سلامه إلى أهله وأحبابه .. ملقياً حواجز الزمان والمكان مستهدفاً بعض ارتواء من فيض حنانهم علَّ ذلك يعطيه شيئاً من الزاد . كنت في زيارة صديق عزيز في قاهرة المعز قبل سنوات .. سلمت على أهل الدار وفيهم سيدة ظننتها أم زوجته المريضة وقتها .. وحينما كنت أحدثه حامداً الله لوجود أم المريضة معها .. فاجأني بأن هذه سيدة زائرة لم يكن يعرفها فى الأساس وهى تنتظر منذ وقت هنا في القاهرة تعليمات تأتيها من أبنائها في كندا كي تسافر إليهم .. مثلها كثيرات .. ومثلهن كثيرات أيضاً ولكن الأكثرية منهن صبايا وفتيات في سن مبكرة بلا تجربة ولا خبرة ولا حماية ولا سند منا يعرضهن لمخاطر جمة . وإذا كانت كل أدبيات الغربة والاغتراب قد سطرت نتيجة غربة اختيارية فكيف بواحدة قهرية وقسرية ؟؟ ولئن كان الاحتراق يوجع ويؤلم بعود ثقاب تشعله انت فكيف بنيران يضرمها أهل الحي ؟؟ ظن صاحبنا أن الدنيا تواصل ابتسامها له .. فهو إنسان ناجح ويدير أعمالاً كبيرة وناجحة .. محبوب وهذا مايعكسه التعامل الودود للناس معه .. أعجبته إحدى الفتيات .. سأل عنها هنا وهناك وجاءت الإفادات خالية من أيِّ مأخذ .. عليها أو على أسرتها .. فرح صاحبنا .. وبدأ يخطط ويفكر .. وسريعاً ما اهتدى إلى أن الطريقة المثلى أن يفاتح الفتاة قبل أن يفاتح أهله ليتقدموا رسمياً لأهلها .. نعم هذا هو الرأي الصواب وغاب يحلم .. لا أظنها ستمانع .. فهو من أسرة طيبة .. وهو نفسه لا شيء يعيبه .. نعم ليس هذا غروراً .. لكنه الواقع مايقوله الناس عنه .. أولم يسمع أكثر من مرة كلمات الإطراء والإعجاب من كبار الأسرة وأصدقائها .. أولم يسمع " اريتو يا يمة عريس بتَّي " أو أريتو ولدي يا بت أمي " أو "ولد السرور ياختي " وأشياء مثل هذه لم تزده إلا تمسكاً بنهجه. كان الموعد في بيت أخته التي نظمت اللقاء وبدأ الحديث بينهما عادياً ومتحفظاً ثم أخذ بعداً بشوشاً ومتبسطاً .. أبدى لها احترامه وتقديره لها ولأسرتها فبادلته الشيء نفسه .. أظهر لها حسن نواياه ورغبته في الارتباط بها .. وسألها إن كانت تريد وقتاً للتفكير .. فاجأته بأنها لا تريد ذلك .. فهي تعرفه وتعرف أهله وإلا لما كانت معه في بيت أخته .. تلك الثواني التي انتظر رأيها في الأمر كانت كتلك السنوات السبع العجاف .. انتظار مر .. أمل في قارب النجاة .. وإشفاق من حبل المقصلة .. جاء ردُّها هادئاً .. " أنا مقدرة رغبتك وكان يسعدني اني أوافق .. إنت مافي واحدة بترفضك .. مرتاح ومبسوط وإنسان كويس ما بتتعيب .. لكن دي المشكلة ذاتها .. إنك مرتاح .. ومبسوط .. أنا عايزه ليَّ زولاً يكون ما مرتاح ولا مبسوط . عشان يهاجر بي من البلد دي .. صدقني ده السبب .. وما تناقشني فيهو .. إنت ما سمعت بالقال " مالو ما يموت تلت عشان التلتين يعيشوا مرتاحين .. أنا طبعا ما عايزه أكون في التلت .. وما ضامنه إنو التلتين يكونوا مرتاحين منطق .. مش ؟؟ عن إذنك " . هكذا أصبح الرحيل .. أو الهروب هو الأمل.