اندماج المبدع والإنسان.. وردي نموذجاً عمرو منير دهب غالباً ما نتحدّث ونكتب عن مبدعينا وإبداعهم عرضاً ثم نقول كلاماً من قبيل:" هذا العمل،أو ذلك المبدع، يحتاج إلى وقفة مستفيضة لتبيُّن تفاصيل إبداعه"، وعادةً ما نتوالى بالتعقيب على ما قيل أو كُتِب عن مبدعينا وأعمالهم بالنظرات العامة المتتابعة بحيث نرجئ النظر في التفاصيل إلى أجل غير مسمَّى. "من مستمع غير محترف إلى محمد وردي" رسالة قصيرة ليس لها أن تزعم أنها نظرت في معظم تفاصيل وردي وأعماله، فأقصى حظوظها أنها حاولت أن تتجاسر على الوقوف أمام بعض تلك التفاصيل.. بشيء من التفصيل. وضع أستاذنا الجليل علي شمو مقدمة الكتاب في العام 2007، ولأن أولويات النشر قد تستدعي من الكاتب تقديم كتاب حديث على آخر قديم، إضافة إلى وعورة الطريق إلى دور النشر بصفة عامة مع أي كاتب وأي كتاب، فإن قدَر تلك الرسالة القصيرة كان أن يرحل وردي وهي في طريقها إليه، وأظن أن الرجل كان على علم بالكتاب الذي أخبره به البروفيسور شمو كما أومأ وردي نفسه بذلك إلى صديقنا العزيز مجدي عبدالله الذي حمل عني عبء تسجيل إفادة وردي في كتاب "الشخصية السودانية في عيون صفوتها" قبل أكثر من عامين. ما ضير أن لا يقرأ المبدع كتاباً وُضِع عنه الأصلُ فيه أنه رسالة إلى القراء عامة؟ تلك بحق لحظة في نفسيّة الناقد تستحق الوقوف عليها، فما يشبه الفراغ في وجدان الناقد يظل كما هو إذا لم يطّلع مبدعه على نقده مهما اتسعت دائرة القرّاء المقبلين على العمل ومهما كال له النقاد من الإطراء، ولعله فراغ من الفضول – أرجو أن يجوز التعبير – ليس إلّا، فالعمل النقدي عندما يكون في مجمله لصالح المبدع أشبه بالهدية التي يروق المُهدي رؤية الدهشة والغبطة في عيني من تُهدى إليه وهو يتلقّاها. العلاقة بين المتلقِّي والمبدع علاقة من طرف واحد، لكنها حتماً علاقة متبادلة بشكل أو آخر بين المبدع والجمهور بصفة عامة، غير أن كل متلقٍّ يحس كما لو أن المبدع يخاطبه وحده، ولذلك فإن فراق وردي كان مما أحسه كل واحد من معجبيه كما لو أنه وجعه الخاص. إلى ذلك تنشأ علاقة من نوع فريد لدى الناقد تجاه المبدع خلال متابعته والكتابة عنه حتى إذا لم تجمعهما علاقة خاصة على المستوى الشخصي، وأنا لم أعرف وردي ولم يعرفني شخصياً، وإن أكن كلّمته مرتين هاتفياً على عجل وحدّثه عني غيري مرتين أيضاً على عجل - فيما أظن - بخصوص كتابين واحد ساهم في الإفادة فيه مع آخرين وآخر كُرِّس بالكامل له. رحيل وردي ينطوي على مفارقة في المشاعر، فالانزعاج طبيعي لأن الرحيل مهما يكن كثير المقدّمات لا يمكن أن يكون مُرضياً في وقعه على النفس البشرية للوهلة الأولى مهما بلغت من الإيمان، فما بالك بملايين النفوس من المعجبين؟ من ناحية أخرى عاش وردي حياته كما أحب، والأهم أنه عاشها بما فتح للملايين بلا حساب نوافذ وأبواباً للحب ولتذوُّق الحياة بنكهة جديدة وفريدة، ومن هنا تحديداً يتسلّل الرضا الذي ينسرب شيئاً فشيئاً حتى يغمر النفس عنوة - مهما بلغ طيشها بالمصاب - لأن الفقيد أخذ من حياته ومنحها أفضل وُسْعه، وكان مما منحه للحياة ما جعل حياة الآخرين أكثر ثراءً وبهجة. في الكتاب آنف الذكر أن "صفة التمرّد ( على المسلّمات والأطر الجاهزة) ..إضافة إلى الإصرار وفرط الثقة هي ما لازم وردي الفنان من صفاته إنساناً فكفل له التربّع على القمة عقب اعتلائها بعد ظهوره بيسير في منتصف القرن الماضي". أشير هنا تحديداً إلى أنه مع تجربة وردي، وفي الصفات المذكورة على سبيل التمثيل، تجلّى اندماج المبدع والإنسان بوضوح تام. وإذا كان جديراً أن ننوِّه بأن افتراق المبدع والإنسان ليس نقيصة ابتداءً، أي أن الصفات الخاصة في شخصية الإنسان ليس من الضروري أن ترافقه في إبداعه، فإن اندماج المبدع والإنسان يتيح للمبدع والمتلقي على السواء قدراً ضافياً من الاندماج بدورهما معاً، بينما يلقي افتراق صفات الإنسان عن تلك التي تتلبّسه في حالات إبداعه عباً ثقيلاً على كلا المبدع والمتلقي، فالأخير قد يرى نجمه على الطريق – إذا صح أن النجوم تسير هكذا – أو حتى وراء كواليس حفل فيصدمه من صفاته الشخصية ما لم يطالعه في إبداعه موضع الإعجاب. اندماج المبدع والإنسان لم يتِح لوردي فقط السكينة المتمثلة في المصالحة بين الحياتين الخاصة والعامة على المستويات الشخصية والإبداعية، وإنما أتاح له أن يصنع نجوميته ويصقلها في اطمئنان وثقة. مما نستحق أن نهنِّئ أنفسنا عليه أننا لم نعد ننتظر حتى يغادر مبدعونا الحياة فنكرّمهم، لقد تداركنا ذلك بشكل جيد ليس مع من هم في قامة وردي فحسب وإنما مع كل من بسط يده بعطاء محمود من أي قبيل في حياتنا. نال وردي ما استحقه من التكريم في حياته، وحتى اللحظة لا تزال مظاهر تكريمه تتوالى بسخاء، وتقديري أن الصورة المثلى لتكريم الرجل هي مزيد من الوقوف على تفاصيل فنه تدويناً بالتحليل والنقد عقب أن ينحسر – بطبيعة الأشياء – فيض المشاعر الجارفة بُعيد لحظات الفراق. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته