لم أسأل أحداً هذا السؤال مؤخَّراً عقب رحيل وردي إلا وأجاب مستنكراً إجابة من قبيل:" طبعاً..كيف!"، وليست تلك القطعية في الإجابة المصحوبة بالاستنكار لأن الإعجاب بوردي مما ألقاه إعلامنا في روع الناس على أنه مسألة بدهية غير قابلة للخلاف أو النقاش كما هو حال كثير من الدول مع رموزها، فلا إعلامنا كان كذلك في أيٍّ من عصوره ولا نحن صيد هيِّن لذلك النمط من التلقين إذا همّ القائمون على الإعلام عندنا بفعلة كتلك. وردي بلغ من اكتمال أدواته مبلغاً أصبح معه عسيراً على أحد – حتى إذا كان من شانئيه – أن يجاهر بإشانة تخص سيرته مبدعاً، لكن الأهم أن رحيله قد ضاعف مشاعر الانجذاب إليه والإعجاب به وأتاح حتى لمن يقف على مسافة بعيدة من أفكاره أن يستخلص في وجدانه وردي مبدعاً فلا يرى وردي الإنسان إلا صنواً للمبدع حتى إذا تباين تقييم الناس للآراء والمواقف وفسدت للودّ قضايا بسبب ذلك غير مرّة. الإجماع على حب وردي المبدع حالة فريدة على كل نطاق زماناً ومكاناً وليس في السودان وحده، ومبرِّر تلك الفرادة أن الرجل لحّن وغنّى للوطن بأسره لا من باب العاطفة لتملّق جمهوره أو تملُّق السلطة وإنما فعلاً فنيّاً خالصاً، فقولنا إن السودان يزخر بثقافات غنية من ضروب متنوعة لم يشفع له أحد في تقديري ببرهان على إمكانية إظهاره بتمازج تلك الثقافات تمازجاً خلّاقاً كما فعل وردي، فهو لم يعمد إلى أن يلحن أو يغني مرة أغنية للشمال ومرة أغنية للشرق وثالثة للغرب ثم الجنوب وهكذا، وإنما ظل كل مرة يستوحي إيقاع وروح منطقة ما ليطلع بهما عملاً للوطن الكبير بأسره يتشرّبه سودانياً بنكهة الشمال أو الغرب أو الوسط أو ما عداها من جهات.. لا فلكلوراً يخص وجهة بعينها يقبل عليه الناس من باقي أنحاء البلاد من باب التعرّف على ثقافة تلك الوجهة لمجرّد أن تكتمل في النهاية زينة الوطن على طريقة "من كل بستان زهرة". إجماع السودانيين على حب وردي حالة فريدة خاصةً مع رجل اشتهر باعتداده الكبير بفنه وبذاته في مجتمع مبالغ في إيثاره للبساطة وفي رفضه لقبول الحواجز من أي نوع ومهما تكن الدواعي. بيد أن السودانيين بسلامة ذائقتهم الفنية أدركوا أن سائر ما اصطنعه وردي لنفسه لا يدخل في قبيل الحواجز التي تفصل بينه وبين جمهوره وإنما هي مما هو ضروري لكل مشروع يروقه أن ينزل من الفن أسمى منازله ويتيح لصاحبه بدوره أن يجلس على عرش العمالقة المبدعين. وإذا كنا قد رأينا في مقام قريب أن وردي حالة بالغة الندرة في الإبداع السوداني، بل وفي العمل السوداني بصفة عامة في أي مجال على مرّ العصور، من حيث استحقاقه بامتياز لقامة العمالقة، فإن من أهم ما أعانه على ذلك أنه ظل منذ بداية مشواره يصغي إلى صوت فنه ابتداءً، وكان مما سهّل عليه مهمة الإصغاء تلك – كما رأينا في ذات المقام القريب – أن صوته وسائر صفاته إنساناً كانت مطابقة لصوته وسائر سماته مبدعاً. وإذا كانت السمات الشخصية للمبدع مما يسهم في ترسيخ أسطورته فليس غريباً أن نذهب إلى أن تميُّز طلّة وردي وجهاً وقامة، بل وحتى اسماً، من جملة السمات الشخصية التي أعانت على توطيد أسطورة الرجل في الوجدان السوداني. وكانت أصول وردي النوبية أقرب إلى أن تغري الآخرين من أبناء السودان بقبول متحفظ له مهما بلغ من الإجادة في فنِّه، كون النوبة ظلت مدّة طويلة حالة خاصة ليس فقط قياساً إلى الوسط وإنما إلى غيرها من أطراف السودان – ما عدا الجنوب – من حيث الامتزاج العاطفي في الوجدان السوداني، ولكن مجدداً لم يكن ذلك عائقاً للرجل وفنّه، بل إن الطريف أن سبيله إلى تجاوز ذلك العائق - المفترَض بداهة في المجتمع السوداني حينها - لم يكن إقصاءَ الهوى النوبي إلى خلفية سيرته الذاتية والفنية، وإنما النفاذ إلى هوى كل بقعة سودانية مستصحباً معه هواه النوبي ومذكِّراً به في ثنايا اللكنة التي ربما حافظ على بعض آثارها بشيء من التعمُّد كما لم نستبعد في مقام التحليل النفسي لسيرة وردي من قبل، واثقاً من أن نوبيّته هي مدخله إلى سودانيّته تماماً كما أن بجاوية وزغاوية رصيفيه من الشرق والغرب هي مدخل كليهما إلى السودانيّة التي هي امتزاج لثقافات متعددة وليست ثقافة مختلَقة مما يشبه العدم يُطلَب إلى من يريد الانتساب إليها أن يتبرّأ من أصوله أو يقذف بها إلى أقاصي الذاكرة والوجدان ولا يستدعيها إلّا تأدّباً في الخفاء. كذلك ظل وردي محبوباً رغم حدة ردوده أفعالاً وأقوالاً، وربما ظل محبوباً بسبب تلك الحدة لا رغماً عنها، فالحدّة في قاموس السودانيين العاطفي – والفكري - ليست سوى مرادف الحق والصراحة وهما ما يبجِّلهما الناس في السودان أعظم تبجيل. تقول العرب:" كلٌّ يغني على ليلاه"، لكن وردي غنى عن السودان وللسودانيين أجمعين فلم يكن بدعاً أن يحبه السودانيون أجمعون. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته