سيد الأتيام يحقق انتصارًا تاريخيًا على النجم الساحلي التونسي في افتتاح مشاركته بالبطولة الكونفدرالية    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    كامل إدريس يدين بشدة المجزرة البشعة التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في مدينة الفاشر    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالفيديو.. الفنان طه سليمان يفاجئ جمهوره بإطلاق أغنية المهرجانات المصرية "السوع"    إلى متى يستمر هذا الوضع (الشاذ)..؟!    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    قرارات وزارة الإعلام هوشة وستزول..!    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    قرار مثير في السودان    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أما آن لهذه الغفلة أن تزول؟

حالة البحث عن الذهب الشائعة حاليا في السودان وبالذات فى الأجزاء الشمالية أصبحت تقض مضجع أى سودانى يهمه أمر الوطن. فالذهب المستخرج من باطن الأرض يوجد فى صور معروفة وبدأ الأهالى فى استخراجها فعلا والاستفادة منها. وما صرحت به ولاية نهر النيل فى وقت سابق أن يسمح للأهالي باستغلاله للمنفعة الشخصية لتعم الفائدة المنطقة بدلا من عمليات منظمة قد تبعد الأهالي من الفائدة المباشرة هو كلام معقول الى حد كبير. ولكن ما حدث كان غير هذا بل يمكن أن نقول إنه قد يرقى إلى "كارثة قومية" . فالذهب المستخرج من تلك المناطق وعلى امتداد فترة من الزمن كان كثير منه عبارة عن مصنوعات يدوية أثرية artifacts متنوعة تشير قرائن الأحوال أنها من العهد النوبي القديم (منطقة كوش). والمعروف، نتيجة لكثير من الأبحاث والاستكشافات المتخصصة يعلمها بالتأكيد المختصون فى السودان، أن هذه المناطق تشتمل تحت الثرى على مدن وقرى قديمة وتعتبر من كنوز البشرية والتى تكون حاليا مادة ثرة للتناول العلمي على مستوى العالم والذى ينبئ عن تحول كبير فى مفاهيم بدايات الحضارة الإنسانية فى العالم. وبالفعل بدت بوادر تلك التجمعات السكنية القديمة فيتحدث الناس حاليا عن سراديب تحت الأرض ومقابر ومومياءات وأواني فخارية (يقوم الأهالي بكسرها ورميها فى كثير من الأحوال وفق تقرير بعض الشهود(. وحسب روايات هؤلاء الشهود هناك طائرات تحط فى الخلاء وأجانب عابثون ينهبون. ومافيا الآثار من أكثر العصابات خطورة بعد المخدرات وهي تجارة تشمل مليارات الدولارات. ومما يزيد الألم والحسرة أن الناهبين من المواطنين يقومون بصهر الآثار الذهبية لبيعها سبائك غير مدركين الخسارة الفادحة فى هذا إذ يسلبون قيمتها التاريخية التى لا تقدر بثمن.
فإذا تغاضينا عن انعدام الحس الوطني من قبل الأفراد العاديين بضرورة الحفاظ على تراثنا التاريخي الذى يهتم به – دوننا – القاصي والداني فى الأوساط الثقافية والعلمية فى العالم، وإذا تغاضينا أيضا عن انعدام الوعى اللازم بأزمة وجودنا الحضاري الذى نعيشه ولأسباب أظنها معروفة منها قصور النمط التعليمي وغياب بناء ثقافة الأمة وزرع الحس بالفخر والاعتزاز بالانتماء لهذا الشعب والملهاة الحائرة التى يعيشها النشء فى ظل أداء إعلامي مضطرب منكفئ وسياسة إرشادية وإعلامية بعيدة عن القدرة على التمكين أو التأثير ... فهل نتغاضى عن الدور البيروقراطي المحض للدولة ؟ وتتمثل درجة غفلة السلطات المسئولة فى تصريح السيد الوزير المختص لإحدى الصحف بأن ما يحدث حاليا من نهب للآثار هو جرائم "غسيل أموال" وحصر التراث المنهوب فى قيمته المالية كأنها سرقة بنك أو نهب خزنة وهذا ينم عن قصور فى الوعي بأبعاد المشكلة. إنها جريمة سرقة وطمس تاريخ أمة وهويتها. إن التعامل مع أية مشكلة يأتي بقدر إدراك أبعادها. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
يعرف قانون الآثار لعام 1999 فى الفصل الأول منه الحفريات ومناطق الآثار ويعرف فى الفصل الثاني ملكية القطع الأثرية ودور الدولة فى حماية المناطق ووضع اليد عليها ودور الجهة المسئولة عن الآثار فى تقييم القطع الأثرية ووصفها (وضرورة تعريف الشعب بها) وفى الفصل الثالث يبين اللوائح المنظمة للترخيص وحق الملكية العلمية والعينية. هذا القانون يفترض أنه يحافظ على تراث وثروة الأمة وتاريخها وخصوصا أن هذا الشعب فى حاجة ماسة لأن يعي تاريخه ويفخر به ويتمثله ويحافظ على ينابيع الحضارة الإنسانية التى بين يديه وتحت الثرى. القصور فى تطبيق القانون والتفريط فى القيمة التاريخية للأمة التى لا تقدر بمال والتى ترقى لدرجة الجريمة القومية هو المسئولية المباشرة للمسئولين عن الآثار فى الدولة، سواء فى الدواوين أو فى الرواق الأكاديمي. فنحن نعلم أن هناك أكاديميون لهم وزن فى المجال ونطالع أسماء بعضهم فى المحافل الدولية وفى الإصدارات العلمية ولكن الاستفادة منهم فى تثقيف المواطنين والاسترشاد بهم لحفظ الثروة القومية والعالمية فى نفس الوقت منعدمة تماما. وكعادة الغرب فى هذه الحالات يمكن أن يقدم لهؤلاء الأكاديميين أي شيء ليرضوا غرورهم الشخصء – ومن أخطر الأشياء على الأمم هو الغرور الأكاديمي لنخبتها "المثقفة" - ولكن أي فائدة عملية يكون محلها دائما فى الغرب العتيد.
فهل قدر لنا أن نستكين ونرى آثارنا وتاريخنا ينهب كما رأينا أراضينا تنهب من قبل (حلايب ، شلاتين ، قطاع فرس) ؟ وهل قدر لنا أن نقبل الحياة لأمتنا وهي راضية بالفتات من مائدة التاريخ ؟ لقد رضينا باستكانة غريبة ‘للفضلة' التى اتخذناها اسما لبلادنا ، فكل من يرى خريطة لهذه المنطقة من إفريقيا قبل استقلال دول المنطقة (فى الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي) يجد أن المنطقة برمتها من ساحل البحر الأحمر وحتى المحيط الأطلنطي تسمى بلاد السودان "البلاد التى يسكنها السود". ومع استقلال دول المنطقة ذهب كل قوم باسم لهم يرون فيه تعبيرا عن هويتهم. السودان الفرنسي صار موريتانيا ومالي والنيجر ، السودان المصري الإنجليزي (كما كان يسمى) هو بلادنا التى لم نحاول أن نثبت لها هوية حتى الآن. وكأن هناك صراع بين من يرى أن يكون الاسم الجديد متيمنا الشطر الإنجليزي من الاسم السابق ومن يرى أن يكون مستخرجا من الشطر المصري. ويبدو أن الصراع لم يحسم بعد أو يكون قد نُسي أو أُغفل أو – لا قدر الله - لا يزال التفكير مستمرا.
ومن الغفلة أيضا ما قرأته فى إحدى الصحف عن امتناع الأستاذ جعفر ميرغني بمعهد حضارة السودان عن التعليق كمتخصص فى موضوع عن الحضارة النوبية، وهذه ظاهرة متعددة فى الرواق الأكاديمي حيث ينأى الأكاديميون عادة عن الناس وكأن التحصيل والعلم الذى اكتسبوه فقط من نصيب الطلبة أو المنتديات أو حلقات الدراسة والبحث. إن حالة الثقافة الوطنية أو القومية – سمها ما شئت – عندنا تدعو فى غالب الأحيان إلى الحسرة وإلى الضحك ، ولكنه ضحك كالبكا.
وهنا يجب توضيح أن هذا العصر وكما هو معلوم لدى الجميع هو عصر تقارب الشعوب وتطور العلاقات وذوبان الفواصل الثقافية والحدود ولن يسلم من هذا الطوفان إلا من يعي أصله وتاريخه وحال حاضره ومسار مستقبله. فمثل هذا الوعي هو ‘جواز السفر' الذى نسعى به بين الأمم ، وهو ‘السيرة الذاتية' التى يقبلنا بها الآخرون. فالشعب المصري تمكن من بناء كيان له بين الأمم عبر تاريخه والعمل الجاد على ربط هذا التاريخ بحاضرهم وأنجز واحدة من أكبر صناعات السياحة فى العالم مدعوما بأكاديمييه وعلمائه وجهازه الإعلامي والرسمي ووعي شعبه بأهمية تاريخه. وهم يسعون بين الأمم مفاخرين بحضارة 4 آلاف عام ومتطاولين على تراثنا بادعاءات غير صحيحة فى الحقائق التاريخية والتى بدأت تتكشف فى الأوساط العلمية حاليا (فى هذا الصدد يمكن للمهتمين مراجعة دراسات وكتابات تيموتى كندال من جامعة هارفارد وكريستوف جرمسكي من جامعة تورنتو بكندا والباحث السنغالي شيخ أنتا ديوب على سبيل المثال لا الحصر) الأمر الذى يلقي على نخبتنا المثقفة عبء ضرورة المشاركة الفعالة وعدم الرضا بدور المتلقي السلبي، فالأمر يخصنا فى المقام الأول. وبعد حرب العراق بدأ شعب العراق الرجوع الى الأصول التاريخية للتركيبة السكانية فى العراق والتوحد حولها درءا للذوبان فى حضارات أخرى وبدأت فئة الأمازيج بالمغرب العربي فى نفض الغبار عن ماضيهم وتأكيد إسهام علمائهم فى الحضارة الإسلامية. ومثل هذا فى الهند والصين وتركيا وإيرلندا وأسبانيا وأخيرا – وبالتأكيد ليس آخرا - أسكتلندا. وليس أقرب إلى الكمال من وحدة أمة تعي تماما تاريخها وتنوع أصولها وسلامة أمة تنشد تكامل هذه الأصول فى بوتقة تحولات حضارية جديدة تضيف لسابقاتها.
لقد عشنا عقودا من الزمان نرى تاريخنا يتعرض للسرقة والتغول والغش الاستلاب. وظلت الرؤية المصرية لتاريخ المنطقة هي السائدة وساعد فى هذا غرق رقعة كبيرة من مناطق الآثار السودانية وبها أعداد كبيرة من الأهرامات فى بحيرة النوبة لم تنل الاستكشاف والدراسة اللازمة. وظل "زاهي حواس" المسئول السابق عن المجلس الأعلى للآثار بمصر والذى عرف بكراهيته للأفارقة السود وتاريخهم – كان يوهم العالم بترهات عنصرية مضمنا تاريخنا تحت عباءة التوجهات العنصرية التى نادى بها الكثير فى مصر، من أمثال لويس عوض ، وتمادى فى غيه بإشاعة أن الحضارة النوبية (الكوشية) القديمة هى من فضلات الحضارة الفرعونية فى شمال الوادي ولم يأل جهدا فى إقناع المحافل العلمية والدراسية والاجتماعية فى العالم بآرائه ولم يحرك "علماؤنا" أو "متخصصونا" ساكنا لمواجهته (تمت الإطاحة به فى ثورة 25 يناير).
وتعرض حواس لهجوم كبير من كثير من الأوساط العلمية مفندة لآرائه بعد النشاط الكبير والتعمق فى تاريخ شمال السودان الأركيولوجي وتعدد البعثات العلمية للتنقيب والبحث الذى تم منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي مما أدى إلى تغيير فى المفاهيم القديمة الرامية الى اعتبار الحضارة المصرية هي الرائدة ولا علاقة للجنس الإفريقي بها. وعلى العكس تماما ثبت أن الحضارة والثقافة الكوشية ، وحسب قول كريستوف جرمسكي: "... المواقع الأثرية فى شمال السودان تعتبر أكبر المواقع وأكثرها أهمية وتعتبر قلب حضارة سوداء قوية ازدهرت على ضفاف صعيد النيل حوالي 750 سنة قبل الميلاد. ورغم أن البعض اعتبر الحضارة الكوشية كامتداد للحضارة المصرية فقد كانت على العكس حضارة خلاقة ذات ثقافة على امتداد أكثر من ألف ميل على النيل وشيدت القصور والمعابد والأهرامات وكانت مركزا لإنتاج وتصنيع الحديد ورغم هذا يجهلها المثقفون والعامة ".
ومع ذلك كان نتيجة لهذا الوعي المفاجئ لتاريخ السودان الأركيولوجي والاكتشافات الجديدة أثر على درجة من الخطورة بالنسبة للسودان وتوجهاته المستقبلية ينبغي الوعي به تماما وبمراميه وما قد يترتب عليه. فقد أدى انتشار النشاط الإعلامى والأكاديمي عن الحضارة النوبية القديمة وظهور الاتجاه القوي "أفرقة الأصول الحضارية للجنس البشريAfro-centrism " والذى عضده آراء العالم والباحث السنغالي شيخ أنتا ديوب (الذى كتب عن الأصول الأفريقية للحضارة) وبعض الأكاديميين الغربيين مثل مارتن برنال (الذى كتب عن الأصول الأفروآسيوية لحضارة أثينا). كل هذا أدى إلى انتفاضة وعي بين الأمريكيين الأفارقة حيث صار الكثير منهم يجاهرون بأن لهم أصول نوبية وصار هناك حملة ترويجية لكل ما اعتبروه – وفق هواهم - نوبيا من الموسيقى الى الأزياء إلى المواقع الإباحية على الإنترنت. والخطورة تكمن بصورة أشد فى الجماعات التى تدعي أنها نوبية وتنادي بضرورة إرجاع المسيحية الى أرض النوبة فى السودان والتى يروجون أنها قُهرت بالغزو الإسلامي فى القرن السادس، وبعضهم يروج بضرورة حفظ اللغة النوبية القديمة التى بدأت تندثر فى موطنها نتيجة لسياسة فرض اللغة العربية على الأهالي من قبل العرب.
ولعل أخطر تلك الإفرازات هو النشاط الصهيوني الذى بدأ بخبث وبالأسلوب اليهودي الداهي فى زرع الاعتقاد عند الناس بالوجود اليهودي فى بلاد النوبة منذ الأزمنة الأولى. فصارت بلاد النوبة – فجأة – موضوعا للندوات والنقاشات بدءا "بنية الحكومة الإسلامية فى السودان لطمس الآثار النوبية بإغراقها فى بحيرة خزان مروي" الى الدعوة للمخطط الرامي لدعم توحيد الشعب النوبي فى مصر والسودان. وهناك إشارات قوية أن الفاتيكان تقف أيضا وراء مثل هذه المخططات. ولكن الذى استرعى انتباهي بالذات هو حلقات الدراسة التى عقدت فى الغرب حول هذه المواضيع أذكر منها على سبيل المثال الندوة التى عقدتها فى يونيو 2008 مؤسسة "التراث Heritage Foundation" الأمريكية التى تعتبر من أقوى بؤر الفكر اليميني المتطرف فى الولايات المتحدة فى ماساتشوستس بعنوان ( النوبة القديمة ، الهدف التالي للتصفية فى السودان Ancient Nubia: The Next Target for Annihilation in Sudan) وتحدث فيها الصحفي الكندي هنري أوبن حول كتابه الذى اكتسب شهرة فى الغرب "إنقاذ أورشليم: التحالف بين العبرانيين والأفارقة عام 701 ق. م." وأقدم هنا ترجمة للمادة التعريفية عن الندوة للتعرف على ما تنطوي عليه من خبث ودهاء:
(الحضارة النوبية القديمة بكنوزها التاريخية القديمة وآثارها التى تشمل أهرامات وأعمال فنية من زمن الفراعنة وتحف الجماعات المسيحية واليهودية فى كوش مهددة بالفناء من السدود التى يشيدها نظام الجبهة الإسلامية القومية بالخرطوم. جاهد النوبيون فى السودان الحديث للحفاظ على ثقافتهم كما حافظوا شفاهة على لغتهم الخاصة عندما أجبرتهم الخرطوم على التكلم بالعربية. الآن تواجه كنوز الحضارة القديمة هذه خطر الفقدان إلى الأبد حيث تسعى الخرطوم لتنفيذ أجندتها لاستئصال الثقافة الأفريقية والتراث المسيحي واليهودي من أرض النوبة بإغراق المنطقة كلها). لا تعليق!
ومن المعروف أن الأحداث التاريخية التى بني عليها الكتاب المذكور موضوع الندوة صحيحة حيث تمكن "ترهاقا" من فك حصار الأشوريون عن أورشليم فى القرن السابع ق. م. استجابة لملك اليهود "حزقيال". ولكن لا أظن أنه كان هناك وجود يهودي فى بلاد النوبة بالمعنى المفهوم حيث اقتصر وجودهم فى جزيرة فيلة بأسوان وكانوا يعملون لصالح فرعون مصر فى حماية الحدود من هجمات النوبة وتأمين التجارة.
الطريقة الوحيدة للإعداد لمجابهة الأخطار القادمة ، والتى سيجابهها بلا شك الجيل القادم، هو إعداد كل فئات الشعب للمستقبل، وتبصيرهم ويجب الاقتناع بأن النظام التعليمي الحالي هو عملية ‘تغليف' المرء بصبغة وظيفية معينة ولا تعد العقل للتفكر والتدبر واستنباط الحقائق واقتناص الخير ودرء الشر. والوعي بالتاريخ يجب أن يأتي على قمة الاهتمامات والعمل على هذا عبر الإعلام والدروس الموازية وفتح المتاحف للناس وإعداد موجهين بها للشرح لكل مستويات الشعب.
أمتنا اتخذت من التاريخ شريط ذكريات للمتعة والتلذذ بأحداث الماضي ، فقد برعنا فى سرد أي تفصيلات تافهة، وبرعنا كالعادة فى عرضها بكل المحسنات البديعية وزخرف القول. نسينا أن التاريخ مقدمات لها نتائج تشكل المستقبل وتنير الحاضر. وبدون إدراك هذا فالمستقبل ظلام والحاضر تخبط ويتوقف الزمن ويضيع العمر هباءً منثورا.
قال القدماء "إن قراءة التاريخ تضيف لقارئه عمراً ثانياً ، وإنها من ثم – تضاعف العمر ، لأنها تضيف إلى عمر القارئ عمر الشعوب والقادة والأبطال الذين قرأ تاريخهم عن طريق اكتسابه خبراتهم ، وجعله يعيش ما عاشوا من أحداث ووقائع وأيام. والتاريخ أيضا " عرض الأمة " كما سماه الكاتب عباس محمود العقاد.
ويجب أن نعي وجوب التفاعل مع التاريخ الذى بين أيدينا والانطلاق إلى آفاق أخرى فى المستقبل بأفكار جديدة ومتجدده والحذر من مدّعي العودة للتاريخ حيث كان والانطلاق من هناك، حينذاك نضيع فى غياهب نفس التاريخ. وقد قال "كارل ماركس" كلمات حقة: (إن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن أعاد نفسه ففي المرة الأولى مأساة ، والمرة الثانية مهزلة(.
مازالت أراضينا الواسعة تحوي الكثير من الكنوز فعلى المسئولين بالدولة بما لهم من سلطات الحفاظ عليها بالتوعية والحماية، وعلى المثقفين والأكاديميين بما لهم من دراية وعلم من الرصد والاستنباط والتأصيل وتنشيط الوعى القومي وشحذ الهمم للتحصيل والمعرفة العامة والتسلح بالخلق الحضاري فى التعامل مع مقدرات الأمة.
وكلما ظهرت الحقائق من باطن الأرض، تداعت الأفكار الزائفة وخفتت الأصوات الحاقدة. وظهور الحقائق من باطن الأرض يستلزم العزم والمثابرة والتسلح بالمعرفة والالتزام الخلقي والوطني. وكما قال المدون الأمريكي ‘ديلامر دوفيرس': " حقيقة أساسية واحدة يمكن أن يبنى عليها جبل من الأكاذيب ، فإذا نقبنا فى عمق ذلك الجبل من الأكاذيب واستخرجنا تلك الجقيقة ووضعناها على قمة ذلك الجبل من الأكاذيب سينهار تحت ثقل تلك الحقيقة الواحدة".
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الصواب والإخلاص ولا يجعلنا أبدا من الغافلين.
عبده


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.