الراهب الذي استخدم الصوم للإحتجاج السياسي.. مصعب الصاوي اتصل بي الأخ العزيز والصديق الجميل ضياء الدين بلال طالباً مني الكتابة عن البابا شنودة الثالث الذي تصادف أن شهدت اللحظات الأخيرة من معاناته مع المرض ثم نياحته "رحيله" وما تبع ذلك من أصداء وردود فاض بها المشهد المصري إبان زيارتي القصيرة للقاهرة وبشكل عام فقد شكلت وفاة البابا طقساً وطنياً فريداً ومشهداً آخر من مشاهد وحدة الطيف السياسي والفكري المصري في مشهد لا يقل روعة عن الثورة المصرية نفسها، وللمفارقة فإن آخر لقاء معلن للبابا في مكان عام كان مع زعيم الأخوان المصريين الأربعاء التي سبقت رحيله حيث كان البابا يحرص على عظة الأربعاء في الكاتدرائية المصرية وهي دروس مفتوحة يجيب فيها على اسئلة أتباعه وقد كان البابا يحرص على هذا اللقاء رغم نصح الأطباء له بعد اعتلال صحته وكان يرد على الأطباء بطريقته المرحة اللطيفة "صحتي لما أكون بين أولادي"، البابا شنودة جلس على كرسي مرقس الرسول وترتيبه السابع عشر بعد المائة وكرسي مرقس الرسول هو كرسي الكنيسة القبطية المصرية وسمي بهذا الأسم لأن مرقس الرسول هو أحد تلاميذ المسيح الذين إختاروا الهجرة إلى مصر وعلى يده تم نشر المسيحية وسط عالم وثني غارق في الأساطير والخرافات وتعاقب على هذا الكرسي عدد من البطاركة شكلوا سنوات خدمتهم تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. *الُيتم والرهبنة: ولد قداسة البابا شنودة في الثالث من أغسطس العام ألف وتسعمائة ثلاثة وعشرين وأسمه العلماني نظير جيَد روفائيل.. توفيت والدته بعد ساعات من ميلاده بحمي النفاس وتولت رضاعة الطفل نساء "سلام" وهي قرية بصعيد مصر مسلمات ومسيحيات في مشهد إنساني وإجتماعي نادر وربما هذه الحادثة في لا وعي قداسة البابا هي ما جعلت روح التسامح والوطنية هي منهاجه في الحياة. ضمّه شقيقه الأكبر إليه وأدخله مدرسة في دمنهور على مستوى التحضيري ثم إنتقل إلى الإسكندرية مواصلاً دراسته النظامية في هذه المرحلة بدأت مرحلة التأثر الديني في أسيوط على يد الأبن مكاريوس وواصل دراسته حتى تخرج في جامعة الملك فؤاد قسم التاريخ بتفوق وعمل لفترة أستاذاً للتاريخ، نشأ قداسة البابا على تعاليم مدارس الأحد وهي مدارس بطبيعتها تغرس في الأطفال والصبية والشباب تعاليم الكتاب المقدس والتراتيل الدينية وتحت هذا المناخ بدأ البابا يكتب الشعر بتلك التأثيرات الروحية والتوق لحياة الرهبنة ومنها القصيدة التى يصوّر فيها الخواطر التى جالت في فكر سيدنا يوسف عليه السلام عندما سحبت إمرأة العزيز ثوبه: هو ذا الثوب خذيه.. إن قلبي ليس فيه أنا لا أملك هذا الثوب بل لا أدعيه هو من مالك أنت لك أن تأخذيه إنما قلبي لقد أقسمت ألا تدخليه أنه ملك لربي وقد استودعنيه عبث قربك منه هو ذا الثوب استريه. أثناء دراسته بجامعة الملك فؤاد "جامعة القاهرة الأم" بدأت النزعة الدينية تسيطر على قلب قداسة البابا وروعه فالتحق بكلية اللاهوت وتخرج فيها في العام ألف وتسعمائة تسعة وأربعين وصار مدرساً بها، وظلت أشواقه تتوق لحياة الرهبنة وتم له ما أراد إذ ترهبن في الثامن عشر من يونيو أربعة وخمسين ألف وتسعمائة وهو تاريخ مفصلي في مسيرته يقول عن هذا اليوم:"أكثر يوم بكيت فيه مسح اسم نظير جيد الاسم الذي صحبني كل هذه السنوات وصار أسمي الجديد هو "انطونيوس السرياني" أحسست أن مجرى حياتي تغير تماماً ولا سبيل لعودتي للعالم ظلت الرهبنة هي الحلم الذي يساورني منذ آماد بعيدة وها قد تحقق لي ما أردت كنت معجباً بسيرة القديس أنطونيوس الذي يسمى في الكتب اللاهوتية "بذهبي الفم" لأن كل ما يخرج من فمه ثمرة للتأمل والحكمة والتجربة الروحية العميقة.. لم يمض وقت طويل في حياة الدير ولم أشعر بالملل لأن من يعزل يحس بالضيق ولكن من يعتزل يهنأ والهناءة تأتي من حرية الاختيار فلا أحد يرغمك أن تختار حياة الرهبنة هي أختيارك وقدرك في آن معاً" *الطريق إلى الكرسي البابوي: كان اختيار قداسة البابا هو أن يظل بالدير دير السريان في النطرون ولكن تشاء الأقدار مرة أخرى أن تضعه في مسار آخر.. زار البطريرك الدير والتقى بالرهبان وطلب منه أن يعمل إلى جواره في المقر البابوي فاعتذر فما كان من البابا إلا أن وضع يده على راسه وقال "فلان أسقف" فما كان عليه إلا السمع والطاعة وهكذا اختاره البابا ليكون أسقف التعليم يدير الكلية اللاهوتية ويشرف على التعليم المسيحي وسمي أسقف التعليم وظل يعمل في هذه الخدمة بكل جد وإخلاص بل طور اسلوب العمل بما يملك من ملكات معرفية ومواهب أدبية ومعرفة بفنون التأليف إضافة لتخصصه في التاريخ. قصة الكرسي البابوي بدأت حين تقدم الطفل أيمن مغمض العينين وحمله رئيس الشماسة، مدّ الطفل يده في الصندوق وسحب ورقة صغيرة من أصل ثلاثة أخذها قائم مقام البابا الذي كان يمارس أعمال المجلس الأعلى وفتحها ثم قرأها نيافة الأنبا شنودة أسقف التعليم جرت قرعة الاختيار التى تسمي في التقاليد الكنسية "القرعة الهيكلية" داخل الكاتدرائية وأشرفت عليها وزارة الداخلية وكان المرشح الذي وقع عليه الاختيار وقتها في دير السريان بوادي النطرون لا يعلم أنه في هذا اليوم عام 1971م، تم إنتخابه بابا وبطريكا ورئيس أساقفة للكرسي الرسولي كرسي القديس مرقص. *المواجهة السياسية جلس قداسة البابا شنودة على قمة الكنيسة القبطية في طقس سياسي شديد التوتر في العام 1971م، مصر ودعت الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وسجّل هزيمة هي النكسة ويخوض حرباً هي حرب الإستنزاف وتستقبل أيام السادات التى شهدت حالة إستقطاب طائفي حاد ربما هي الأبرز في تاريخ مصر الحديثة وإسرائيل تتربص بالشرق كله المسلم والمسيحي تعامل جمال عبد الناصر مع الكنيسة بإحترام وتوقير وكان يعتبر الكنيسة القبطية من أعمدة البناء الوطني وعنصراً وطنياً مع عناصر تشكيل الشخصية المصرية بعكس السادات الذي أراد أن يخضع كل المؤسسات القائمة لسلطانه ولعب السادات على ورقة الفتنة الطائفية وشجع جماعات التطرف الذي جعل البابا يقول ساخراً:"صار في مصر جماعتان- جماعة التكفير والهجرة- وجماعة التفكير في الهجرة" تعرضت العديد من الكنائس في أيام السادات للاعتداء والحرق ولم يحرّك النظام أو الدولة ساكناً رغم الشكاوي المقدمة. واستخدم قداسة البابا شنودة الصيام الإحتجاجي على الأوضاع وهو تقليد مستمد من عصر الشهداء عندما بدأ الرومان يطاردون ويقتلون المسيحيين وهو أسلوب في المقاومة استخدمه المهاتما غاندي وعرف في الديانات الهندية القديمة بمصطلح "الساتجداها" سخر السادات من هذا الصوم وقال بطريقته:"دول ح يصوموا وح يفطروا على بصلة وفسيخ" في إشارة إلى عيد شم النسيم الذي يأكل فيه الأقباط البصل والأسماك المملحة. *أقباط المهجر: عندما لمس الأقباط مدى العسف والتضييق الذي حاق بهم تفرقوا في المهاجر المختلفة كندا- الولاياتالمتحدة- إستراليا- بريطانيا- فرنسا- والبعض هاجر إلى أثيوبيا والسودان وصار إقباط المهجر يمثلون ضغطاً هائلاً على نظام السادات السياسي باعتباره نظاماً يدعو للسلام والحرية ويضطهد مواطنيه.. وصل العسف بالسادات درجة التضييق على المقر البابوي نفسه فصار البابا شنودة يتنقل بين الإسكندريةوأسيوط والعباسية ويحكى ان السادات في إحدى سخرياته من البابا سأل: "أنتو الراجل ده بروح فين أنا ما بعرفلوش مطرح" فجاء رد البابا شافياً وقوياً:"مقر البابا حيث يوجد البابا ولكن مقري الذي لا يتغير هو قلوبكم المحبة". وبالفعل ظلّ البابا يلح في مطالب الأقباط ويحاول إيصال صوتهم وشكواهم إلى الدولة بشتي الطرق دون أن تفتر له عزيمة وينتقد الأوضاع صراحة دون خوف الأمر الذي أكسبه شعبيه تخطت حدود الطائفة إلى كل القوى السياسية والإجتماعية الحيّة المناهضة لنظام السادات في مصر وعندما كثر النقد على السادات قال بضيق وتذمر "هو لو مصر مش عاجباه يروح زي جماعة الفي كندا وأمريكا يعملوا مظاهرات هناك" فقال مقولته الخالدة التى صارت نغمة في أفواه كل مصري حر: "مصر ليست وطناً نعيش فيه بل يعيش فينا".. ظلت علاقة الكنيسة القبطية بنظام السادات في حالة شد وجذب وتراشق بالعبارات الساخرة من الجانبين ومنها سخرية السادات الشهيرة:"ده الراجل طالب أربعين كنيسة قلت له وأها دي عشرة من عندي يبقوا خمسين" وللمفارقة في فتيلة الفتنة الطائفية التى اشعلها السادات وحذره منها البابا في نبوءة مشهورة بقوله:"النار لما تولع ما بتعرفش مين البواب ومين صاحب البيت" وقد أحرقت نار الفتنة الطائفية السادات الذي كان يعتقد أنه سيّد مصر الأول وصاحب البيت في حادثة المنصة. *الرؤى الإصلاحية كاريزما قداسة البابا التى عركتها التجربة السياسية وتجربة التعليم الأكاديمي الديني والعلماني اكسبته روح المجدد والمصلح الديني فقد قضى على العديد من المظاهر والتقاليد التى يعتقد أنها أقعدت الكنيسة القبطية وهي الإغراق في الطقوس والشكليات بعيداً عن الجوهر وأبرز المعارك التى أدارها داخل النظام الإكليركي هي معركة الديمقراطية داخل المؤسسة الكنسية وبدأها بنفسه حين قال:"على الشعب أن يختار راعيه" وبالتالي صارت مهام ومسئوليات اختيار القيادات الدينية على مستوى المناطق تخضع لخيارات الشعب والجمهور ولا تفرض الكنيسة أسقفاً أو خادماً على منطقة معينة دون رضاء شعبها. كما فتح قداسته باب الشكاوي من أي تقصير يحدث في أداء أطقم الكنيسة ويتابع هذه المسألة بنفسه وبشكل دوري. *تنظيم الوقف والإدارة: أجرى قداسة البابا شنودة الثالث حزمة تغييرات تعتبر جوهرية في الهياكل الإدارية والنظم المالية والمحاسبية وهي إجراءات باختصار تعمل على حماية الكنيسة من شبهات التمويل مجهول المصدر وعن سيطرة بعض رجال الأعمال على الكنائس ومنها تأسيس أجسام متخصصة تتصرف في الأموال وتديرها وفق أغراض معلومة وبسط مبدأ الشفافية ومراعاة النظم والمعاملات القانونية المعتمدة لدى الدولة وغيرها من المؤسسات كالمصارف والشركات وقد أوضح البابا هدفه من كل هذه الإجراءات عندما قاوم البعض هذه الإصلاحات خاصة أصحاب المصالح فقال: "إنتو زعلانين ليه أنا زي اب ابنه بيمتحن بقول لابنو كل اللي نفسك فيه ح أجيبهولك لحد عندك ما تشغلش نفسك إلا بمذاكرتك" ويعنى أنه يهدف لأن يتفرغ رجال الدين لأمور العبادة والتعليم وليس بمسائل الهبات والتبرعات والنذور التى تستغرق وقتاً ثميناً هو ملك الشعب. *إصلاح التعليم الديني إنخرط قداسة البابا في أخصب سنوات عمره اسقفاً للتعليم لذا كان إصلاح التعليم الديني ومناهجه إحدى مشاغيل البابا وكان منهجه هو التبسيط غير المخل والوصول إلى جوهر الأشياء وقد اكتسب شعبية واسعة لأن عظاته كانت تستخدم العامية وتستلهم الأمثلة والنماذج من واقع حياة الناس وقبل قداسته كان شرط التعليم اللغة العربية الفصحي أو القراءة من الكتب مباشرة كانت عظاته ورسائله ومحاضراته عبارة عن نقاط يكتبها في ورقة صغيرة ثم يفيض عليها من روحه وتعليقاته ومداخلاته وكان يميل إلى الأسلوب التفاعلي أو اللقاء مباشرة مع الجمهور وكان يهوّن على ثقيلي الأحمال والمغلوبين همومهم وأحزانهم بالنكتة والطرفة والسخرية حتى من نفسه الطاهرة النقية جاءته مرة سيدة من شبرا تشكو ابنها قائلة "يا سيدنا ابني مرقص بيلعب بالفلوس لعب ومش راضي يتجوز!! فقال لها: هو عنده كم سنة؟ فقالت المرأة يجي أربعين سنة فقال مطيباً خاطرها:"أنا برضو يجي لي أربعين سنة ما اتجوزتش أدعي لي معاه.