هذا هو الجزء الثانى من حلقات حاولت فيها جهد طاقتى رصد مظاهر مهمة فى مسيرة عمارة بيوت العاصمة فى تاريخ السودان الحديث. نركز هذه المرة على فترة ما بعد الإستقلال وحتى الثمانينات من القرن الماضي. تلك العقود كانت مرحلة المخاض وسنوات تشكيل هوية السودان الحديث بما فى ذلك عمارته المميزة. فى هذا الإطار كان من المتوقع أن يتنكب المعماريون السودانيون زمانئذ درب الحداثة. فوجدوا ضالتهم فى فكر وطراز غربى المنشأ عالمى التوجه فتعلقوا به وتشربوا بمفاهيمه. وأجتهد العديدون منهم. ولكن نجح منهم عدد محدود فى ترجمته لنموذج سودانى رصين وملائم ومعبر بحق عن إحساس وأشواق أهلهم. العمارة السكنية بالذات الحضرية منها كان لها حظ وفير من إهتمامتهم. قسمت مبحثي هنا إلى جزءين. الأول منها يغطي العقود الثلاثة الأولى بعد الإستقلال والتى كانت مرحلة تشكيل عمارة الحداثة السوادنية. الجزء الثانى يتفحص مسيرة عمارة بيوت العاصمة فى الثمانينيات. فى كلا الجزءين هناك فى البدء إستعراض لمجريات الأحداث بكل مكوناتها لأنها تشكل الأرضية الى نشأت وتأسست فيها عمارة المسكن أيا كان نوعه. بذلك نضع العمارة فى إطارها الصحيح الذى يساعد على فهمها وإستيعابها بعمق. فلنتابع معاً هذا السرد التاريخى لنستمتع بهذا التمرين الفكرى المشوق. فترة الستينات والسبعينات سنوات الاستقلال كانت مرحلة مفصلية بدأت فيها عمارة بيوت الخرطوم التحرر من الكلاسيكية ومفارقة روح الرومانسية وإستشراف أجواء الحداثة. وجاء كل ذلك فى سياق متتالي مع حركة عالمية فكرية التأسيس نبعت فى الغرب الأوربى. ضربة البداية فى الخرطوم كانت فى نهاية الخمسينات وتنزلت فى حى العمارات. من أبرز فرسان تلك المرحلة المعمارى النمساوي ( بيتر مولر). وضع الأساس المتين لعمارة الحداثة السودانية الذى أحدث نقلة مقدرة فى شكل المسكن الحضرى والعاصمى. فى الستينيات حمل المشعل من بعده ثلة من اميز المعماريين السودانيين الاوائل الذين أعلنوا وأشهروا ميلاد هذه الحركة وسودانيتها. من خلال ذلك تبلور شكل المسكن العاصمي وصارت له شخصية إعتبارية. ثمة حدث بالغ الأهمية وقع فى نهاية ذلك العقد لعب دوراً محورياً فى هذا الشكل والأنموذج - تفجر ثورة مايو بكل زخمها الإشتراكى ذاك. تأسست هذه الثورة على المفاهيم الإشتراكية أممية النزعة. حركة الحداثة الجديدة زمانئذ قامت أيضاً على مفهوم العالمية وخصماً على الإنتماءات المحلية. وثورة مايو فى بدايتها كانت شعبية وإختطت لها نهجاً تقشفياً مشبعاً بزهد يساري المنحى. فى تشابه واضح نجد أن فكر عمارة الحداثة العالمى قد رفع من شأن مواد البناء الأساسية مثل الطوب الأحمر والخرصانة بشكلها الخام، وعَلا من قيمة التعبير عنها بلا زيف ولا رتوش أو(مكياج). وفى كلا الحالتين كانت هناك قناعة تامة بتناسي الماضي والسعي الدؤوب لبناء واقع جديد. كل هذه الجوانب أوجدت نقاط إلتقاء محورية ومهمة بين إيدولوجية الثورة وفكر الحركة المعمارية العالمية. شكل هذا الفهم المشترك الأرضية الصلبة التى أسست لعمارة الحداثة السودانية فى ذلك العقد من الزمان وخرج من رحمها أنموذج مميز من فيلات وبيوت الخرطوم. أستاذنا الرائع/ عبد المنعم مصطفى كان له دور ملموس فى هذه النقلة الطرازية. أنتج فى هذا السياق مجموعة من الاعمال الخالدات. جرب عبد المنعم أفكاره الجديدة تلك زمانئذ فى مشاريع بيوت ثلة من أصدقائه الأقربين جلهم من أساتذة الجامعة الذين قضوا سنين فى الغرب الأوربى. فقدم أنموذجاً رائعاً مدهشاً بحق. عبر فيه عن الحداثة جوهراً ومظهراً. وأسس فيه لعمارة السدابة وجعلها بحسه الفني العالي مستساغة بالرغم من منظرها الخارجي الخشن الخام. ونجح تماماً فى تسويق هذا الأنموذج الذى لاقى رواجاً فيما بعد لدى طبقات لم تنل حظاً كبيرا من التعليم. ساعد فى ترويج الفكرة إرتباطها فى البداية بتلك الصفوة من نجوم المجتمع أساتذة الجامعة الذين غنى المغني وأنشد بلسان العذارى فردد أغنية شهيرة- يا ماشي لى باريس جيب معاك عريس شرطاً يكون لبيس ومن هيئة التدريس. يشهد لأستاذنا عبد المنعم أنه أسس لأنموذج رائع لبيوت الخرطوم خلال ثلاثة عقود من الزمان. نسج العمارة هنا من مواد أساسية بسيطة. إستمد جمالياتها من فكر الحداثة المبني على حسن التناسب والتناسق والتناغم بين مكونات المبنى واجزائه. ولم يلجأ هنا للإستلاف من التراث الكلاسيكي بإستنساخ أقواسه وأعمدته المعروفة تلك. والمهم هنا أنه منح العمارة المسكن روحاً سوداناوية ونفسا مداريا بدون أن ينتقص من هويتها الحداثية. إستخدم أكثر من حيلة لتحقيق هذا الهدف. منها حسن توظيفه لكاسرات أشعة الشمس المعلقة على واجهات الفيلات والبيوت المصنعة من مراين الخشب وأحيناً من زوي الحديد أوالمكعبات المجوفة. سخرها لترويض أشعة الشمس اللاهبة ولحماية خصوصية أهل الدار مع إتاحة إطلالة على العالم الخارجى. وفوق هذا وذاك جمل واجهات البيوت ومنحها حيوية باذخة. فترة الثمانينات فترة الثمانينات من القرن الماضى كانت حبلى بالمفاجآت على كافة الأصعدة بالنسبة للسودان وبالذات العاصمة ومجتمعها. على الصعيد الإيدوليجي والسياسي والإقتصادي دارت بوصلة نظام مايو بمقدار مائة وثمانين درجة. تخلى عن مبادئه الإشتراكية واليسارية وغازل الإسلام ثم تبنى الشريعة الإسلامية وسعى لتطبيق أحكامها وتنزيل العديد من مفاهيمها إلى أرض الواقع. وحدثت نقلة مشابهة فى مجال الإقتصاد إذ حل نظام السوق الحر مكان تلك السياسات الإشتراكية. وشاعت مظاهر الإنفتاح الزائف لتحل محل ظواهر تقشف عقود مايو الأولى. وعزز من أجواء الإنفتاح تزامنها مع الحالة التى أفرزتها الطفرة الإفتصادية فى بلاد الخليج العربى. ومفهوم ومعروف تأثيرات شريحة المغتربين المادية والثقافية على مجتمعاتنا بالذات الحضرية منها. والشواهد على ذلك كثيرة- أنواع وأسماء الثياب النسائية و(دقات) الذهب والحلى وحتى الكلمات والتعبيرات خليجية المنشأ. ولقد كان المغترب بحق هو نجم تلك المجتمعات فى فترة الثمانينات. وأرخت لذلك العديد من الأغنيات الشعبية الرائجة التى تسجل بعفوية وتفضح خفايا العقل الباطن. العمارة بشكل عام والسكنية منها تحديداً كانت أبلغ الشواهد على تأثير شريحة المغتربين الذى تزامن مع ظروف ومستجدات عديدة داخلية. من أهم تلك التأثيرات ظهور أنموذج الفيلا مرة أخرى كواحد من أهم مظاهر الفخامة و( البريستيج). لكنها عادت هذه المرة فى ثوب وحلة جديدة. ولدت هذه المرة متوشحة باللون الأبيض. وفى ميلادها الجديد هذا أظهرت عمارتها بعض تمرد على ضوابط الحداثة. أعلنت ذلك صراحة بعرشها المهيمن المائل المرصوف بالقرميد (بلاطات المارسيليا) والعقدات (الأرشات) الموزعة فى الواجهات. وتزينت هنا وهناك بحليات كلاسيكية المنشأ. برامك السياجات- الأعمدة القصيرة الشبيهة بأرجل (العناقريب المخرطة) المصطفة عند أطراف المصاطب والشرفات المعلقة- البلكونات. وهنا وهناك، تلك المشربيات الخشبية المخرمة المنمنة الأنيقة المعلقة أمام نوافذ الطوابق العليا. هذا النموذج إرتبط فى البدء بفيلات المغتربين. لكنه وبملامحه المميزة تلك سرعان ما إنتشر وتنزل على مستوى البيوت ثم شاع وعم القرى والحضر. وتبنته شرائح مجتمعية أخرى أملاً فى أن تنال حظ الإغتراب أوعملاً بمبدأ- إن فاتك الميرى إتمرغ فى ترابه. وهذه ظاهرة ثقافية تكررت من قبل عدة مرات خلال مسيرة عمارة العاصمة السكنية مثل حالة بيوت الأفندية وفيلات حى (الخرطوم واحد). فعامة الناس عادة يحاولون التشبه بحال علية القوم فيتبنون بدرجات متفاوته من النجاح نمط بيوتهم . عوامل أخرى مهمة عززت من موقف هذا النموذج. اللون الأبيض ومكونات ومفردات العمارة الإسلامية التاريخية والتقليدية جاءت متسقة تماماً مع المد الإسلامى فى الثمانينات. ملامح الفخامة وأن جاءت فى مجملها وأغلبها سطحية وزائفة وجدت رواجاً كبيراً فى أجواء ومناخ الإنفتاح. تلك الملامح التى منحت عمارة المسكن هنا وهناك تميزاً بائناً جاءت فى أوانها. فى زمان تحرر الناس فيه من قيود وإنضباط الإشتراكية ومفهوم ثقافة القطيع إلى فضاءات الفردانية والتفرد الرحبة. ظهور هذه المرحلة حرر المعماريين إلى حد ما من ضوابط ومحددات فكر الحداثة الصارمة. فإنطلقوا يحلقون فى هذا العالم الرحيب. قليلون منهم نجحوا فى التعبير عن طبيعة هذه المرحلة المفصلية التى أرخت لبداية ميلاد ما يعرف بطراز ( ما- بعد- الحداثة ). الرائع كمال عباس لعب دوراً محورياً. صمم العديد من المبانى والفيلات والبيوت فى هذا السياق. هذه الفترة شهدت أيضاً الميلاد الحقيقى لذلك النجم الثاقب المعمارى السودانى أرمنى الاصول (جاك إشخانيص). بدأ مسيرته الجادة فى عقد الثمانينات ومضى لاحقاً وعمل بجدية وقوة فساهم بشكل أساسى في صياغة عمارة (ما- بعد- الحداثة) السودانية. سنحدثكم عنه وعن غيره ممن صنعوا معاً هذا المجد فى الجزء الثالث والأخير من هذه الحلقات عن مسيرة عمارة بيوت العاصمة فى تاريخ السودان الحديث. خاتمة الحلقة الثالثة القادمة والأخيرة من هذه الحلقات ستغطى عقد التسعينات وبداية الألفية الثالثة حتى زماننا هذا. عليه ستفحص وتتعامل مع فترة الإنقاذ الأكثر تمدداً زمنيا والحافلة بالأحداث الكبيرة والتأثير البليغ على المجال العمرانى والشق الأسكانى منه. وهى فترة بسطت فيها سيطرة الإسلام وجرت فيها محاولات مضنية لتنزيله على كافة أوجه حياة التاس. فهل نجحت تلك المساعي فى مجال العمارة وفى إنتاج نماذج معبرة بحق بالذات فى الشق السكني منها. أسئلة كبيرة مهمة سنحاول الإجابة عليها فى الحلقة القادمة. أهمية هذه الفترة تنبع من أنها شهدت تحولاً معمارياً بالغ الأهمية. فقد أرخت لمرحلة بلورة عمارة ما- بعد- الحداثة السودانية. نجح نفر محدود من المعماريين فى المساهمة فى هذا المقصد النبيل. عدد مقدر جايت مساهماته من خلال أعمال تعبر فقط عن حالة إحتجاجية متمردة على مفاهيم عمارة الحداثة بدون تقديم بديل مقنع. ومجموعة ثالثة تمسكت بقناعات فترة الستينات وأنتجت من خلالها أعمالا رصينة. هذا الصراع فكرى المنحى فى حد ذات جدير بالملاحظة. لذا سنسعى لتسليط الضوء عليه فى المرة القادمة إن شاء الله.