في صباحية رحيل الشاعر الكبير محمد الحسن سالم حميد، وقبيل إعلان "النبأ" الفاجع بقليل كان الحديث يدور بيني وبين الزميل والصديق الصادق الرضي حول ملاحظة بدت لي غريبة في ذلك الحين، وقد اكتشفتها حينما كنت أبحث عن أحد الأرقام الموجودة داخل موبايلي، فقد لاحظت أن العديد من المشتركين لا يمكن الوصول إليهم ..أبدا! مررت بقائمة من الأسماء المسجلة في هاتفي وقد أصبح أصحابها في ذمة مليك مقتدر، وفي كل يوم ينضم لهذه القائمة أصدقاء جدد، فالموت لم يعد حدثا كبيرا وخبرا يتصدر الصحف، وقد يتفق معي الكثيرون في أن الموت تدحرج من خانة الفجيعة والخبر الضخم وتوارى خجولا في صفحة أخبار المجتمع. كنت قبل سنوات عديدة أرتعد من أسماء مدن وأحياء بعينها في العاصمة، لا لشيء سوى ارتباطها بنشرة الثامنة مساء في راديو أم درمان. وذلك عندما يجسّد أحد المذيعين خطورة الحدث في نشرة الوفيات بالتضخيم والتفخيم ويقول يقام المأتم بأم بدة أو الحاج يوسف وانضمت إليهم مؤخرا الكلاكلة بامتداتها الرأسية والأفقية، وكنت أشعر حينها أن الموت لا يخطف غير سكان تلك المناطق المهمشة! في مفكرة هاتفي مبدعون وأقارب وأصدقاء، أرتجف حينما أمر على أسمائهم وفي بعض المرات تغلبني الجرأة و"أدق الرقم" فيأتيني ذلك الصوت الأنثوي المعروف "الخدمة غير متوفرة لهذا المشترك" وأظنها تقصد "الحياة غير متوفرة لهذا المشترك" ويا لها من خدمة! حاولت في كثير من الأحيان أن أشطب هذه الأرقام لكنني كنت أطرد هذه الفكرة في اللحظات الأخيرة إذ بدت لي مثل "الخيانة العظمى". ولا أدري كيف يكون موقفي إذا رن هاتف أحد هؤلاء الذين فقدتهم عندما أتصل به، لكن الذي أعرفه جيدا أن راحة عميقة تغمرني عندما لا يأتي الرد، ولعل سبب تلك الراحة يعود للنفس الإنسانية الجبانة والأنانية حيث أتأكد –بذلك- أنني لم أنضم إليهم بعد. وربما يكون السبب شيئا آخر، وتخيل معي أن تسمع صوت حبيب أو قريب عبر الموبايل وأنت متأكد من أنه يسكن تحت الثرى! ويساوي الموت بين المشاهير والبسطاء، ويظهر ذلك منذ لحظات الدفن الأولى حيث لا يتخير الشخص جاره في القبور، ولا حتى في كونه طفلا أو رجلا أو امرأة، ويتساوى الإحساس بالفجيعة طالما أن المساحة الوجدانية "الجوانية" للفقيد كانت متسعة بداخل المرء، وربما يتسع حزن الشخص لفقد صديق أكثر من اتساعه لفقد قريب أو حبيب، والمقياس هنا لا يقبل القسمة على النفاق الاجتماعي. وعادة لا نزور المقابر إلا لإلحاق عزيز لدينا بمن سبقوه، ومن المؤسف أن هذه اللحظات لم تعد مجالا خصيبا للعظة والتأمل، بل إن البعض لا يتحرج في تشغيل موبايله بحثا عن مصالحه في الدنيا الفانية، وربما تشغلني أشياء أخرى في المقابر لكن هنالك بيتان من الشعر لا يفارقان وجداني في تلك الأثناء وهما:" بالله يا قبر هل زالت محاسنه أو قد تغير ذاك المنظر النضر .. يا قبر ما أنت بستان ولا فلك فكيف يجمع فيك البدر والزهر"!