** مشهد غريب، وما أكثر الغرائب في بلادنا، ولكن فلنتأمل بعض النماذج ..الكادر العامل بمستشفى الخرطوم يعطل بعض ساعات عمل البارحة وينفذ وقفة احتجاجية، هكذا الحدث.. ليس في الأمر غرابة في حال أن يكون تردي بيئة العمل بالمستشفى سبباً لتلك الوقفة أو ضعف الراتب أو عدم صرفه، ولكن ما لهذا ولا ذاك احتجوا..لقد اشتبهت وزارة الصحة الولائية في سلامة بعض عقودات المستشفى اشتباهاً يحتمل حدوث بعض التجاوزات، فشكلت لجنة لتتقصى الحقائق، ولأن قانون الخدمة العامة يلزم كل عامل بالتوقف عن العمل لحين اكتمال التحقيق معه في أية قضية، أصدرت الوزارة قراراً بإيقاف مدير عام المستشفى لحين اكتمال التحري والتحقيق حول سلامة تلك العقودات..شيء طبيعي، إذ إيقاف العامل عن العمل لحين انتهاء التحقيق ليس بدعة ، بل يحدث منذ العهد التركي، ولكنه لم يعد طبيعياً في هذا العهد الغريب، ولذلك وقف الكادر العامل بمستشفى الخرطوم احتجاجاً على إيقاف مديرهم ..والأدهى والأمر أن الكادر لم يكتف بالوقفة الاحتجاجية، بل هدد- ولايزال - برفع مذكرة لرئاسة الجمهورية بإعادة مديرهم..نعم مذكرة لرئاسة الجمهورية مباشرة، وليس لوزير الصحة الولائي ولا لوالي الخرطوم.. أمر التحقيق في الملفات ذات الصلة بمرفقهم لا يهم العاملين ، فالمهم إعادة مديرهم، ولو بقرار رئاسي..المزعج في الأمر هو أن للعاملين بالمستشفى إحساساً بأن رئاسة الجمهورية أصبحت ملاذاً مناصراً لكل من يتم إيفاقه بغرض التحقيق في قضية فساد، ولو لم يشر إليهم إحساسهم بذلك لما هددوا برفع مذكرتهم إليها..مثل هذا الحدث - بقوة العين دي – لا يحدث إلا في بلادنا ..!! ** وهذا مشهد آخر، غريب أيضاً..قبل أسبوع، دخل المراجع العام قبة البرلمان وقال للنواب بالنص: (كشفنا تجاوزات مالية بهيئة الأوقاف، بعضها تبديد للمال العام بلا جدوى والبعض الآخر اختلاسات)..قالها هكذا وخرج من القاعة تاركاً أمر التحري والتحقيق والمحاسبة للسلطات العدلية.. قطع شك لهيئة الأوقاف تلك مدير عام، وقطع شك تلك الهيئة تابعة لوزارة بها وزير، وأي تحقيق يجب أن يطال ذاك المدير وهذا الوزير.. ولكن فلنتأمل ما يحدث.. وزير الإرشاد الذي تتبع له تلك الهيئة: (مدير الأوقاف المقال الطيب مختار استلم مليار جنيه من وزارة المالية على مدى عامين لإعادة بناء بناية وقفية، ولم ينفذ المشروع، وينبغي أن يُسأل عن هذا المبلغ..وهذا المدير كسر وقفاً بميدان أبوجنزير كان يدر دخلاً يفوق المليار جنيه..وهذا المدير تعاقد مع الوزير السابق عقداً يحصل بموجبه على أربعين مليون جنيهاً)، هكذا حديث الوزير.. فيرد المدير : (هذا الوزير أعد محرقة للأوقاف، وذلك بإلغاء شخصيتها الاعتبارية واستقلاليتها واختزال كل الأنشطة في شخصه وتوجيهاته وقراراته الكارثية.. وهذا الوزير شهر بالأوقاف واعتدى عليها وعطل مشاريعها)، هكذا حديث المدير .. ليس في حديثهما غرابة في حال أن يتحدث بهما الوزير والمدير في سوح النيابة أو قاعة محكمة..نعم شيء طبيعي أن يتم توجيه تهمة الفساد للوزير أو للمدير وأن تفصل في التهمة النيابات والمحاكم وتوثق في محاضرها مثل تلك الإفادات ..ولكن حديثهما غير مقتبس من محضر نيابة ولا من محضر محكمة، بل من صحف البارحة..نعم هذا ما يحدث..المراجع العام يكشف التجاوزات ويعرضها لنواب البرلمان، فتتبارى أطراف التجاوزات في المرافعة الإعلامية.. مرافعة إعلامية حول ملفات فساد تحت سمع وبصر السلطات النيابية والعدلية المناط بها احتضان تلك المرافعة ثم الفصل فيها بأحكام تدين أو تبرئ..مثل هذا الحدث - بقوة العين دي - لايحدث إلا في بلادنا..أقترح لرؤساء تحرير الصحف رفع مذكرة لرئاسة الجمهورية بتحويل هذه المرافعة الإعلامية الى مرافعة قضائية، ( إن لم يكن للمحاسبة، فمنعاً للإزعاج).. أي ليفسد المفسد - اعتباراً من يوم رفع المذكرة - بصمت ..!!