كيف استطاع الشيخ العبيد ود بدر التمويه على استخبارات غردون؟ إبراهيم الفكي خالد لقد أتحفتنا صحيفة السوداني الأسبوعي الغراء في عددها الصادر بتاريخ 10 فبراير 2012م بمقال قيم لحقبة تاريخية مهمة بعنوان (الشيخ العبيد ود بدر في مذكرات غردون باشا) للأستاذ نزار عبد العدل الإمام فجزاه الله خيرا عن ذاك العرض القيم. ومن خلال عرض مذكرات غردون الشبيه بدفتر الأحوال اليومية يلاحظ القارئ مدى الاهتمام والانزعاج من غردون بقوات الشيخ العبيد ود بدر وتتبعه اليومي ورصده لتلك القوات, إلا أن الملاحظة الجديرة بالاهتمام أن غردون باشا كان ينتظر حدوث خلاف يقع بين قوات الشيخ العبيد ود بدر و قوات المهدي, وهو يفصل تماما بين القوتين ولا يعتبر أن الجهة التي تحاربه واحدة , والخلاف هو الأمنية التي ينتظرها العدو دائما في حالة الحصار أو الانهيار, ولو حدث ذلك لكانت ثغرة انتظرها غردون طويلا دون جدوى. ففي مذكراته يشير إلى خلاف بين قوات ود دقون وقوات الشيخ العبيد في جهة الحلفاية ويقول بصريح العبارة (اللأمر الذي إن حدث يكون ثغرة عظيمة بالنسبة لنا) ( يقصد في دفاعه) ثم يقرر: (نحن نعلم أن الشيخ العبيد ليس على وفاق مع أبو قرجة) راجع مذكرات غردون للأيام 8 – 11 اكتوبر 1884 م . ثم يروي غردون فرية أكبر من هذا وأمنية داعبت خياله في تلك الأيام العصيبة عليه وهي وجود خلاف بين المهدي والشيخ العبيد, حيث أورد أن المهدي طلب من الشيخ العبيد الحضور إلى الأبيض وتقديم نفسه لخدمة الرب أحد الدراويش, والشيخ العبيد لم يرق له الأمر لأنه شديد العزة (هذا الوصف الذي أعلم فظاعته إلا أنني لم أخلعه عليه أنا) ثم يذهب إلى ابعد من ذلك ويقول ان المهدي طلب من الشيخ العبيد التنازل عن ممتلكاته! (راجع مذكرات غردون بتاريخ 17 اكتوبر و 6 نوفمبر 1884) . ومن المعلوم ان الشيخ العبيد ارسل ابنه الفكي ابراهيم الى المهدي بالابيض بعد موقعة ام ضبان لاخذ بيعة الجهاد عليه. ويبدو ان مخابرات غردون إما أنها ضعيفة إلى الحد الذي تأتي فيه بأنباء كاذبة ومضللة وملفقة احيانا, أو أنها كانت تتودد الى غردون بإيصال اخبار تدخل السرور على قلبه لكسب رضاه, وإلا فقد أورد في مذكراته بتاريخ 30 \10 \1884 (ذكروا له أن الشيخ العبيد بصحبة المهدي وأبو قرجة في الجريف)! الأمر الذي لم يحصل مطلقا لأن المهدي والشيخ العبيد لم يلتقيا في حياتهما ابدا, والغريب ان غردون قد اورد نفيا لهذا اللقاء في مذكراته بعد عدة صفحات! والسؤال الذي يطرح نفسه من أين أتت هذه الافتراضية الخلافية المتوقعة بين الشيخ العبيد والمهدي عند غردون فكتب في مذكراته ما كتب؟ وللإجابة عن ذلك نورد الاحتمال القوي وهو مقدرة الشيخ العبيد في تمويه وتضليل غردون واستخباراته بأنه غير معني بدعوة المهدية تقية لاتباعه ومريديه وكسبا للوقت للإعداد وانتظار ساعة الصفر للانقضاض على العدو ونورد هنا أمثلة لذلك: 1- من المعلوم عن الشيخ العبيد انه كان حكيما بعيد النظر يستعمل الكلمة المرجوزة لإيصال رسالته الإرشادية, كما يستعمل الكلمة الدبلوماسية بحسابات دقيقة جدا. فهو على مقربة من القوة العسكرية المستعمرة في الخرطوم (حوالي 45 كلم تقريبا من الخرطوم) ويمتلك جيشا تحت الإعداد وقوة ينتظر بها ساعة الصفر لإعلان الجهاد, فلذلك لم يجاهر بتأييد المهدي في بادئ الأمر, وحينما سئل عن رأيه في المهدي والمهدية أجاب بإجابته الشهيرة المحنكة: (كان مهدي جد لينا وإن ما مهدي شن لينا) فرصدها غردون خلافا دينيا بين الرجلين. 2- كان الشيخ العبيد مستقلا برأيه فالعلماء كانوا يلقبونه بحكيم الحكماء في زمانه, لذلك كان يبني تقديراته بناء على ما يقرؤه على خريطة الواقع دون اندفاع أو تهور, ولذلك حينما أرسل المهدي خطاباته إلى رجال الطرق الصوفية وحث الشيخ العبيد على التحرك ومهاجمة قوات الحكومة علق الشيخ العبيد بقوله: (الوزير يسير والعريس في قدير؟ البرش ما بيطوهو من نصو) ! ومن المؤكد أن مخابرات غردون قد رصدت الرد فاعتبره الأخير خلافاً بين الرجلين. 3- حينما جاء الخبر إلى الشيخ العبيد بقتل الشريف أحمد ود طه شهيداً بعد قيامه على قوات المستعمر استجابة لخطاب المهدي علق الشيخ العبيد على ذلك بقوله: (الله ... الشريف صلى قبل الوقت)! فرصدها غردون خلافا بين الرجلين. وحينما اكتملت عناصر الثورة واستجمع الشيخ العبيد كل قوته العسكرية من الأعراب كشف القناع وأظهر كل قناعاته دفعة واحدة حيث وجه رسالة قوية جداً إلى العلماء بالخرطوم يقول فيها إنه كان متصبرا إلى الآن انتظاراً لتسليم الخرطوم للمهدي سلما حقنا وحفظاً لدماء المسلمين وأموالهم ولكن قوبل طلبه بالرفض من القاهرة بتاريخ 27\1\1884م فأرسل غردون يطلب من ناظر العيلفون عبد القادر محمد عبد الرحمن إحضار الشيخ العبيد ود بدر فرد عليه الشيخ معلنا الجهاد بقوله: (أنا عاصي لكلامك وكلام غردون. ومن اليوم لويت الليد لمن يجي العيد وبعد العيد يبقى حكم السيد). ثم اندفع الشيخ العبيد يقاتل غردون في الحلفايا وانتصر عليه بتاريخ 13 مارس 1884م ثم يردفه بنصر آخر بمعركة قصر راسخ بتاريخ 16 مارس 1884م ثم ينتصر عليه الانتصار الأكبر في معركة أم ضبان (شيكان الصغرى) ويقتل منهم 1770 جندياً ويقتل قائدهم "محمد علي باشا الصغي " بتاريخ 4\9\1884م . ثم يفاجئ الشيخ العبيد غردون بحصاره المفاجئ للخرطوم قبل وصول قوات المهدي إليها. فمن الشمال والشرق يحاصره الفكي إبراهيم ابن الشيخ العبيد ومن الجنوب يدخل الشيخ العباس ود بدر على رأس قبيلة المسلمية بالمكان الذي يعرف حاليا في الخرطوم ب (كبري المسلمية - جنوب مستشفى الخرطوم الحالي) ومعه النور الجريفاوي ثم ينضمان تحت قيادة أبو قرجة عند حضوره لحصار الخرطوم, ومن الغرب كان الشيخ دفع الله ود حامد –الغرقان- من تلاميذ الشيخ العبيد. ثم أصبح تحت قيادة الأمير عبد الرحمن النجومي عند قدومه ثم انهارت الخرطوم وفتحت على مصراعيها لثوار الثورة المهدية وقتل غردون. إذن لا يوجد خلاف بين المهدي والشيخ العبيد بل إخاء وجهاد في سبيل الله لم يستطع غردون ومخابراته أن يقدروه حق قدره, ونجحت خطة الشيخ العبيد في التورية والتمويه حتى وصل إلى هدفه المنشود وهو دحر المستعمر وتخليص الأمة من الظلم والاستبداد والكفر الصراح . إن الدور الكبير الذي لعبه الشيخ العبيد ود بدر سيحفظه التاريخ وستعرفه الأيام فإن التاريخ لا يموت والعمل الذي قصد به وجه الله سيكون محفوظاً على الدوام بإذن الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين