أقول دائماً وأؤمن بنظرية ثابتة عن الاقتصاد السوداني وهي أن السودان بلد غني جداً وليس بلداً فقيراً.. وأن المشكلة ليست في قلة ثرواته و ضعف موارده المالية ولكن المشكلة هي في إدارة اقتصاده وإدارة دولته فالاقتصاد والسياسة هما وجهان لعملة واحدة وهذا عين ما أطلق عليه المفكرون الاقتصاد السياسي لأن الاقتصاد في جوهره هو علم البدائل سواء على مستوى الفرد والأسرة أو على مستوى الدولة سيما عندما تكون الموارد المتاحة محدودة وهنا تكون القرارات الاقتصادية في تلك المستويات تحددها نظرة الفرد أو الدولة وفلسفتهما في الحياة ورؤيتهما للقضايا فأي قرار له تبعاته المالية بطبيعة الحال.. هذا ما درسناه في علوم الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية ويعلمه الكافة بل أذهب أكثر من ذلك وأقول بكل ثقة من خلال تجاربي في الحياة أن مستوى ثقافة الفرد والمجتمعات ودرجة ومستوى الثقافة والسلوك النفسي والاجتماعي التي يتمتع بها صانع القرار تؤثر تأثيراً بالغاً في عملية الاختيار في صناعة القرار الاقتصادي فالمنظومة الفكرية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية لأي مجتمع لها تأثيرها البالغ للدولة وحيثما تكونوا يولى عليكم... أعتقد أن هذه المقدمة ضرورية لمناقشة أوضاعنا الاقتصادية عامة وأخيراً القرارات النقدية – ولا أقول الاقتصادية الأخيرة التي سارع بنك السودان بإعلانها الخميس الماضي- فقد وقع صناع القرار في خطأ فادح يرقى لدرجة المساءلة السياسية والأخلاقية بل القانونية إذ كيف يتسنى إعلان سياسة نقدية بتخفيض هائل بنسبة 80% للجنيه دون أن يضع صناع القرار سياسة كلية تشمل السياسة المالية وسائر السياسات الاقتصادية من زراعية وصناعية وتجارية واستثمارية وغيرها حتى يأتي القرار الاقتصادي بل السياسة الاقتصادية مفيدة ومنتجة فمن نافلة القول أنه من المستحيل لطائرة أن تطير بجناح واحد، فما حدث من بنك السودان هو محاولة غريبة وساذجة وفاشلة للطيران بجناح واحد!!! لو يتذكر الناس أن صناع القرار الاقتصادي منذ عام 1979 قاموا بأول تخفيض للجنيه السوداني (كان الجنيه السوداني منذ الاستقلال ثلاثة دولارات ونيف فصار الدولار حينها تسعة وسبعين قرشا سودانياً) ثم استمر التخفيض منذ ذلك الحين حتى اليوم وكان الفرق بين السعر الرسمي وسعر السوق قرشين فقط عام 1979 وانتهى إلى ثلاثة آلاف جنيه قبيل القرار الأخير!! وكان صناع القرار يحاولوا اقناعنا في كل تخفيض أن ذلك سيدعم الصادر والإنتاج و من ثم يردم الهوة بين السعر الرسمي وسعر السوق ولكن كان يحدث العكس دائماً رغم سياسة التخويف والإرهاب المستمر الذي وصل حد الإعدام ظلماً لمن يحوز الدولار. في تقديري أن الاقتصاد السوداني حتى عام 1969 كان أكثر معافاة مما حدث بعده فسعر السكر والبترول وكل السلع الأساسية لم تكن مدعومة و سعر العملة كان مستقراً وكان مشروع الجزيرة هو العمود الفقري للاقتصاد السوداني ولم يكن هنا تدفق من أموال المغتربين وكان زيادة قرش واحد للسكر كفيل بتغطية الموازنة العامة لدرجة أننا كنا كطلاب جامعيين يعطينا وزير المالية المرحوم الشريف الهندي دعماً مالياً في الإجازة السنوية.كما كنا نتعلم ونتعالج مجاناً، ولكن بعد السياسات والقرارات الاشتراكية الثورية في نظام مايو كانت كالثور في مستودع الخزف وحدث نفس الشيء فيما أطلق عليه زوراً الاقتصاد الإسلامي.. أقول بالصوت العالي إنه من المستحيل أن يستمر اقتصادنا كما هو الآن أو يتحسن طالما يعتمد على التسول والاقتصاد الريعي واقتصاد الحرب ينفق معظم موارده على حكومة متضخمة أو السياسات الانكماشية لبلد يزخر بالثروات بل حوالي عشرات المليارات من الدولارات خارج الوطن.. الحل الممكن هو إعادة النظر في تفكيرنا وإحداث إصلاح اقتصادي وهذا لايمكن أن ينجح إلا من خلال عملية إصلاح سياسي شامل وإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة إيجابية وبناءة يشترك فيها الجميع دون فرز وتهميش.. كفاية ما يحدث..