عندما كانت تجرى محاكمة المرحوم مجدى فى بداية أيام الإنقاذ بسبب حيازته لبعض الدولارات فى خزينة منزلهم وتصايح بعضهم بضرورة تطبيق عقوبة الإعدام عليه لما أطلقوا شعار (هيبة الدولة) قلت لبعض صانعي القرار إن الهيبة تكون بالعدل وأن إعدام شخص لأنه يحوز دولار قرار خاطئ وإذا تم إعدامه فسيكون ذلك لعنة على الجنيه السوداني وسيصل سعره الى (مائة جنيه)!! وكان سعره الرسمي حينها اثنا عشر جنيها فى مقابل الدولار وفى السوق الحر ستة عشر جنيها (يطلق عليه عباقرة الاقتصاد السوق الأسود)!! الجدير بالذكر أن أحدهم –لا أتذكره - أطلق تصريحه الشهير قائلا: (لو انحنا ماجينا كان وصل الدولار الى عشرين جنيها)!! فى المؤتمر الاقتصادي بعد بضعة أشهر من قيام الإنقاذ انتقدت السياسات الاقتصادية آنذاك والتى كانت فى غاية التشدد وقلت إنها سياسة خاطئة والصحيح هو سياسة أكثر مرونة حتى يصبح السودان واحة اقتصادية لأهله والراغبين فى الاستثمار وأذكر أن صديقي محمود جحا قال فى المؤتمر يجب أن نحرر ورقتين هما ورقة الجنيه وورقة الصحافة ( أي أن يكون الجنيه عملة حرة والصحافة حرة أيضا) وطبعا استهجن بعضهم ذلك!! كان رأيي الذى أتمسك به حتى اليوم هو الحرية الاقتصادية لسياساتنا الاقتصادية والحرية السياسية لممارساتنا السياسة وحجتي فى ذلك أن هذا السودان بلد غني جدا وليس فقيرا ولكن للأسف ظلت جميع السياسات والقرارات الاقتصادية منذ الاستقلال خاصة فى فترتي التطبيق الاشتراكي وما يسمى الإسلامي (والإسلام بريء) تفترض فقره وتقوم على التشدد والتضييق والتحكم ولكن عندما اعتمدت سياسة التحرير الاقتصادي طبقت خطأ" من حيث عدم توفر العدالة والمساواة بين السودانيين كما حدث هدر كبير للموارد خاصة التى جاءت من تصدير البترول فلم توجه نحو القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة بل الصرف البذخي وقدر كبير من الفساد.. وظللت أقول دائما إن الموقع الجيواستراتيجي جعل منا أفضل دكان ناصية وأن المغتربين السودانيين ورجال الأعمال يمتلكون عشرات المليارات من العملات الحرة خارج الوطن وذلك لعدم توفر الثقة والخوف الذى دخلهم منذ إعدامات العملة والطريقة التى تم بها تبديل العملة كما أن السياسات والقرارات الاقتصادية المتناقضة التى اتسم بها صانع القرار جعلت الكثيرين يضعون أموالهم فى البنوك الخارجية أو تحت البلاطة ولعل أوضح مثال لذلك الآن أنك لا تستطيع وضع عملة أجنبية فى بنك سوداني لأنك لن تحصل على السعر الحقيقي له كما أن المغترب لا يحوّل من ماله إلا مايحتاجه فعلا وبسعر السوق. الآن يحاول صانع القرار الاقتصادي تضييق الفارق بين السعر الرسمي والحر بسياسة قديمة منذ عشرات السنين وهو كلما اتسعت الفجوة بين الاثنين تلجأ الحكومة بقرار إداري لخفض قيمة العملة السودانية، بدأ ذلك منذ العام 1979 حين كان سعر الدولار ثلاثة وثلاثين قرشا سودانيا فخفض وزير المالية آنذاك سعر العملة السودانية فجعل الدولار 79 قرشا ومن (ديك وعيك) حتى صار مؤخرا الدولار ستة آلاف جنيه)!! وإذا ظن صانع القرار الاقتصادي أنه بعد القرارا الأخير سيجعل السعر ينزل فيكون واهما اللهم إلا إذا حصل على احتياطي ثابت بملياري دولار أو ثلاثة فإلى وقت قريب اعتمد المواطن صاحب الدولار سياسة (ننتظر ونشوف) فسيعود الدولار الى الزيادة مثلما ظل منذ عشرات السنين. الحل للاقتصاد السوداني والسياسة النقدية بالذات ليس بالقرارات الإدارية ولا السياسات المتعسفة بل بزيادة الإنتاج وزيادة الصادر حتى يكون لنا احتياطيات كافية من العملات الحرة لمقابلة كل الاحتياجات.. الحل الصحيح هو جعل السودان (واحة اقتصادية وسياسية) فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة ولا يمكن جذب الاستثمارات إلا بتحسين المناخ وإحساس حقيقي بالاستقرار والحكم الرشيد أولا قبل القوانين والامتيازات فهذه موجودة فى بلاد الله الواسعة.