قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    ريجي كامب وتهئية العوامل النفسية والمعنوية لمعركة الجاموس…    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموسيقى والتثقّف بجنوب كردفان وشمالها
نشر في السوداني يوم 25 - 05 - 2012


مقدمة نظرية:
التثقف أو التثاقف هو عملية التغير من خلال الاتصال الثقافي الكلي. أي الاتصال بين ثقافتين ويؤدي إلى زيادة أوجه التشابه بينهما في جل الميادين الثقافية. ويتضمن التثقف الظواهر التي تنشأ عندما يحدث اتصال مباشر مستمر بين جماعات من الأفراد تنتمي إلى ثقافات مختلفة، ويكون من نتيجة ذلك حدوث تغير في الأنماط الثقافية الأصلية عند إحدى الثقافتين أو كلتيهما. ومن النتائج المترتبة على عملية التثقف هذه ما يعرف بالتكيّف، وهو يعني تكيّف عنصر ثقافي مع عناصر ثقافية أخرى أو مع مركب ثقافي آخر، حيث يعمل على الربط بين العناصر الأصلية وتلك الوافدة. أي أن التكيّف يعمل كما يعمل السلم الموسيقي الملون (الكروماتيكي) معبرا للانتقال من سلم موسيقي إلى آخر، والربط بينهما. أو كما يعمل الطوب الرابط بين بناءٍ وآخر عند تشييد الغرف المتلاصقة.
ويمكن النظر للتثقّف على مستويين: على المستوى الجماعي، حيثُ يُحدِث التثقّف عادة تغيراً في الثقافة والعادات والمؤسسات المجتمعية، كما يؤثر على أنماط الطعام والملابس واللغة. أما على مستوى الأفراد، فإن الاختلافات التي تحدث لهم أثناء عملية التثقّف يمكن قياسها نفسياً وفيزيائياً. ويَصِف العلماء عملية التثقّف هذه بأنها العملية الثانية لتعلم الثقافة، بحسبان أن هناك عناصر ثقافية آتية من الخارج. ويصفون عملية التثقّف من البيئة التي تحيط بالفرد بأنها العملية الأولى لتعلم الثقافة، وذلك لارتباطها بالداخل.
وانطلاقاً من التعريف العام للتثقّف، يمكن القول إن التثقّف الموسيقي هو: عملية عبرها يمكن لموسيقى مجتمع معين، أو جزء منها، أن تتغير نتيجة لتأثير ثقافي خارجي. فقد اهتم بعض علماء موسيقى الشعوب، في هذا السياق، بالتثقّف الموسيقي الناتج عن أثر الموسيقى الغربية على المجتمعات الأخرى، بما في ذلك المجتمعات الأفريقية، كما اهتموا بالأثر الذي أحدثته كذلك الموسيقى الأفريقية على بعض المجتمعات الغربية وأمريكا اللاتينية.
ويعتمد التثقّف الموسيقي بدرجة كبيرة على الاختلاف أو التشابه بين الثقافتين المعنيتين. كما يعتمد على ما إذا كان التغيّر قد حدث عبر المكونات الموسيقية الأساسية أم عبر المكونات غير الأساسية. فالمكونات الأساسية للثقافة الموسيقية تتمثل في اللغة الموسيقية ذاتها والتي تشتمل على: التوافق، ومشروطية البناء اللحني، والنغمية، والإيقاع، والوزن. أما المكونات غير الأساسية فهي تلك التي تنتج عن السياق الموسيقي وتشتمل على: الأداء الآلي، والضبط الصوتي، والمزاج، والتضخم، والتدوين الموسيقي، والسلوك الاجتماعي أثناء العروض الموسيقية.
لقد نشأت حول عملية التثقّف هذه بعض الافتراضات القابلة للقياس، مثل الافتراض الذي قال به ألن مريم ومفاده أنه: عندما يكون هنالك مجموعتان من البشر في اتصال مستمر ولهما صفاتٌ مشتركةٌ في بعض العناصر الثقافية، فإن تبادل الأفكار بينهما يكون أقل منه في حال ما إذا كانت الصفات الثقافية لكل منهما مختلفةً بصورةٍ بينةٍ.
ويؤشر هذا الافتراض في مغزاه العميق، وهو افتراض يتفق وقانون الطبيعة الذي يقول إن الأقطاب المتضادة تنجذب إلى بعضها، إلا أن التنوع الثقافي يفيد المجموعات المختلفة التي تتشارك العيش في وطنٍ واحدٍ، كما هو الحال في السودان. وذلك لأن هذا التنوع يسمح بتبادل الأفكار وتلاقحها، ما يتيح للمجتمع فرصةً لتجديد هذه الأفكار ويساعده على النمو والتطور. وهذا عكس ما يعتقده البعض، والذين لا يرون في التنوع إلا تنافراً وصراعاً واختلافاً، ما جعلهم يتحدثون دائماً عن البوتقة والانصهار. فثق أنك حيثما صوبت بصرك، فإنك لن تعثر على بوتقة أو انصهار. فذلك يتناقض وطبيعة الوجود.
لقد فطن لأمر قيمة التنوع هذه الكثير من المثقفين السودانيين، أمثال محمد عمر بشير الذي ذكر أن الاعتراف بالتنوع الثقافي في القطر ليس من شأنه أن يتعارض بأية حال مع مبادئ تحقيق الوحدة أو بناء الأمة. وإن الاعتراف بالتنوع الثقافي لا يعني التجزء والانفصال. فالإلمام بالطبائع المميزة لتلك الثقافات هو شرطٌ أساسٌ لنجاح أي إصلاحٍ كان.
ولم يبعد كثيراً عن هذا المعنى كل من فرانسس دينق وعبد الله علي إبراهيم. فقد قال الأول إن الاعتراف بالبشر كما هم واحترام خصائصهم الثقافية كما هي، يجعلهم أكثر رغبةً في تبني النموذج الثقافي للمجموعات التي يتفاعلون معها على نحوٍ أكثر نجاعةً من أي مسلكٍ آخر. أي يكونون أكثر قابلية للتثقّف وعدم الانغلاق على الذات الثقافية.
وقال الثاني إن أهدى السبل إلى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الإقرار بقوامين (أو أكثر) للثقافة السودانية. قد تمتزج هذه القوامات وقد تتبادل التأثير مع احتفاظ كل منها باستقلال الدينامية من حيث المصادر والترميز والذوق. فالتثقّف خيارٌ غير قهري يتم بسلاسةٍ دون استعلاء أو مؤامرة، ويتم ذلك عبر التكيّف الثقافي. وقد تُفضي تلك العملية أحياناً إلى التبني الكامل لبعض العناصر الثقافية ودمجها طواعية ونهائياً في الكل الثقافي للمجتمعات التي تعيش طويلاً في وطن واحد.
التثقّف الموسيقي بين النوبة والحوازمة:
النوبة والحوازمة مجموعتان اثنيتان تقطنان الجزء الجنوبي من أقليم كردفان بغرب السودان الذي يُتاخم الحدود الشمالية الغربية لدولة جنوب السودان، وهي المنطقة التي عُرفت تاريخياً باسم جبال النُوبة، وتقع بين خطي طول 29 درجة و31.30 درجة شرقاً، وعرض 15 درجة و12 درجة شمالاً في مساحةٍ تبلغ حوالي ثلاثين ألف ميل مربع. ويتناثر في هذه المنطقة عددٌ كبيرٌ من سلاسل الجبال الصغيرة التي تتخللها بعض الأودية والسهول، كما تتمتع بمناخ السافنا الغنية، ما جعلها صالحةً للزراعة والرعي معاً.
والنُوبة هم مجموعاتٌ ذات أصولٍ أفريقية، استقرت في هذه المنطقة منذ القدم، ويمارسون الزراعة كنشاطٍ اقتصاديٍّ أساس، مع تربية بعض الأبقار. بينما يُعتبر الحوازمة جزءا من المجموعات العربية الوافدة التي دخلت السودان في أزمان لاحقة، أي في أو بعد القرن الخامس عشر، وعُرفت باسم البقارة. ويقول يوسف فضل حسن، في هذا السياق: إن العرب الذين دخلوا السودان قد احتلوا السهول الشمالية لكردفان، دار فور وودَّاي في الفترة من القرن الثامن إلى الرابع عشر. واضطر الوافدون بعد ذلك للرحيل جنوباً إلى مناطق غنيةٍ بالعشب ولكنها لا تناسب إبلهم وأغنامهم. ولهذا اتخذوا كما السكان المحليون، تدريجياً تربية الأبقار فصاروا يُعرفون في مجموعهم ب "البقارة".
إن البقارة لم يتخلوا عن تربية الإبل ويكيّفوا أنفسهم على نمط النشاط الاقتصادي المتمثل في تربية الأبقار والزراعة فحسب، ولكنهم ومع مرور الزمن تثاقفوا مع المجموعات المحلية عبر كثيرٍ من المكونات الثقافية، كما تصاهروا معهم، ما خلق دائرةً مشتركةً تمخض عنها طيف من المتشابهات الثقافية. فالذين استقروا في بعض القرى ومارسوا الزراعة، لم يستنكفوا عن ممارسة طقوس الأسبار وزيارة العرّاف التقليدي، المعروف محلياً باسم الكُجور، من أجل مباركة وحماية الحاصلات الزراعية، رغم ما يراه البعض من مفارقة مثل هذه الطقوس لصحيح الدين والمعتقد. وامتد التثاقف لبقية المكونات الثقافية الأخرى، كالأزياء والطعام والمسكن وبعض الحرف والمصنوعات اليدوية.
ولم تكن العروض الموسيقية وسياقاتها استثناءً، ذلك لأن للموسيقى في المجتمعات الأفريقية وظائف تتعدى الوقف عند عتبة الترفيه وتسجية أوقات الفراغ، لتدخل في صميم معتقدات الناس ونظرتهم إلى الوجود كله. تلك النظرة التي تَعتبر الإنسان ومحيطه، المادي والتجريدي، مرتبطين بإحكام ويؤثر كل منهما على الآخر. فللإنسان في هذه المجتمعات صلةٌ حميمةٌ بالطبيعة بشقيها الحي وغير الحي. ويجعل هذا الأمر للصوت الموسيقي في هذه الثقافة مفهوماً أوسع ويحتوي ليس فقط الأصوات ذات الدرجات المحددة والمنغمة، وإنما يشمل أيضاً أنواعاً كثيرةً من الأصوات التي لها درجات غير محددة وغير منغمة كذلك.
أتى البقارة إلى بيئة مختلفة عن البيئة التي نشأ فيها أجدادهم، إلى المجتمعات الأفريقية التي وصُفت بأنها أمة من الراقصين والموسيقيين والشعراء، حيث لكل مناسبةٍ عظيمةٍ احتفالٌ جماهيريٌ راقصٌ مصحوبٌ بالغناء والموسيقى. إنها مجتمعاتٌ تُقيم بالموسيقى الأفراح والأتراح، وتستخدمها في تنشئة الصبية، وتحمي بها حاصلاتها الزراعية التي توفر لها السقاية وهطول الأمطار عبر الطقوس والأسبار. وكذلك يتعالجون ويتصلون ببعضهم البعض عبر المسافات الطويلة بالموسيقى. فتأثر البقارة بكل ذلك وحدث التثقّف الموسيقي الذي كان بعضه أساسياً يمس صلب اللغة الموسيقية والبعض الآخر غير أساسي وله علاقة بالآلات الموسيقية والسياق الاجتماعي الخاص بسلوك الإنسان وتفاعلاته المجتمعية والفردية.
وتتمثل المكونات الأساسية في التثقف الموسيقي بين الحوازمة والنوبة في الإيقاع والوزن، حيث الإيقاعات المتقاطعة، وكذا الأوزان الثلاثية، التي أعطت هذه المنطقة صفتها الموسيقية المتفردة. فرقصة "الكرنق" لدى النوبة ورقصة "المردوم" لدى الحوازمة، وهما الرقصتان الأشهر في المنطقة وتمارسان بشكلٍ واسعٍ، لا تتشابهان في البناء الايقاعي الثلاثي فحسب، وإنما شكلتا نمطين من حركات الجسم المتشابهة، ما جعلهما لا تبتعدان عن بعضيهما في الصورة العامة إلا في التفاصيل الدقيقة. ولكنهما تتفقان في الهيكلية البنيوية ودلالات المعاني، ورمزية الفتوة والجمال.
وانبثقت من هذا المكون الأساس عدة مكونات أخرى غير أساسية تمثلت، أولاً، في استخدام الطبول والأزياء المصاحبة في العروض الموسيقية الجماعية التي وظفت فيها أساليب اشتهرت بها الموسيقى الأفريقية، مثل الارتجال والعامل المكثف، وهي أساليب يستخدمها المؤدي الرئيس وتقود بدورها إلى تعميق الشعور الذي تثيره الموسيقى، وهي مصدر جوهري للطاقة والقوة التي يحتاجها هذا المؤدي ليقوم بدوره، عن طريق تفعيل المشاركين في الأداء من ضاربي الطبول والمغنين، في أي لحظة يهبط فيها أداؤهم.
نوبة بقارة
فيتحكم ضارب الطبل الأساس في العرض الموسيقي الذي يُعرف في غرب السودان ب "نقارة البقارة" على سبيل المثال، في القرع عليه عن طريق التركيز على أطرافه فقط (تِك) عندما يكون بقية القارعين على الطبول المساعدة في قمة عطائهم. فيأخذ بذلك قسطاً من الراحة ويُحدث تلويناً في الإيقاع عن طريق تقاطع ما يصدر عن طبله مع ما يصدر عن الطبول الأخرى المساعدة. ولكنه يلجأ إلى إظهار قوة النبر وأحياناً في غير موقعه بالتركيز على قرع الطبل عند منتصفه (دُم) بغرض تفعيل الآخرين عند هبوط الأداء. فإن لم يفعلوا ذلك استبدلهم المشرفون على الحلقة.
وتُستخدم هذه الأساليب الفنية الأفريقية ليس فقط بغرض التنويع وإظهار البراعة الفنية الفائقة وإظهار القدرة على التعبير والإبداع والبعد عن الملل فحسب، ولكن وفي ذات الوقت بغرض الخروج بالمشاركين من سياق الأداء الحاضر إلى التعبير الشامل والنظرة العامة للوجود كله. وفي ذلك تقول روث استون:
حسب معتقدات شعوب الكبيلي بليبيريا فإن الأصوات يمكنها أن تتقمص قدرات سحرية أو قدرات فوق طاقة البشر. فترد لديهم في الأنشودة الخرافية قصة يتيم له مواهب خاصة تتمثل في قتل الحيوانات عن طريق غناء أغنية سحرية. لهذا يتضمن التشريع العقدي لهذه الأنشودة إعادة شرح غناء ذلك الصوت الذي
يقتل حيوانات مختلفة.
وتمثلت المكونات غير الأساسية، ثانياً، في استخدام الليرة (الطمبور) آلة موسيقية وترية تصاحب الأداء الموسيقي المتفرد. فمعلوم أن للبقارة عموماً آلةً وتريةً أخرى هي آلة الرباب (أمُ كِيكي) توجد أيضاً في جل الأقطار العربية الأخرى، وهي آلةٌ قوسيةٌ ذات وتر واحد تصاحب المغنيّن الجوالة (الهدايّن). ولكن هنالك اختلافٌ في الضبط الصوتي لهذه الليرة، ترتب عليه اختلافٌ في مشروطية البناء اللحني، ما أوجد بالمنطقة نوعين من المنظومات النغمية الخماسية: الخالية من نصف البعد لدى النوبة، وتلك التي تحتوي على نصف البعد الصوتي لدى الحوازمة (البقارة).
ولعل السلوك الاجتماعي أثناء العروض الموسيقية واحد من أبرز المكونات غير الرئيسة التي تعكس قوة التثاقف بين المجموعتين وتُحدث تأثيراً كبيراً على سلوك الفرد في المجتمع وعلاقته بالآخر. فمعلوم أن للمرأة في المجتمعات الافريقية دوراً مهماً في النشاط الاقتصادي والموسيقي معاً. ويرى ألن لوماكس، في هذا السياق، أن هنالك علاقةً قويةً بين اشتراك المرأة بفعاليةٍ في العروض الموسيقية وبين اشتراكها بفعاليةٍ في عملية الإنتاج الاقتصادي. ولهذا وضع افتراضاً مفاده أن وجود خطين لحنيين متوازيين في الغناء، يمثل أحدهما دور المرأة في المجتمع، حتى وإن كان المؤدون رجالاً.
لقد تتبعت المرأة في مجتمع الحوازمة خُطى رصيفتها من النوبة، ليس فقط في مشاركتها بكثافة في النشاط الاقتصادي للأسرة فحسب، بل شمل ذلك أيضاً مشاركتها بكثافة في العروض الموسيقية التي يمثل الرقص المشترك فيها أهم خصائص التثقّف الاجتماعي بين المجموعتين. فالثقافة العربية الإسلامية لا تقر مثل هذا الاختلاط. ولكن التثقّف بين المجموعات الوافدة وتلك المستقرة نتج عنه سلوكٌ جديدٌ في علاقة الرجل بالمرأة، يقفز فوق حاجز الخوف والتوجس من الجنس الآخر، ويمهد لما هو أبعد من مجرد عرضٍ موسيقيٍ، حيث التصاهر ومولد إثنيةٍ جديدةٍ من الحوازمة الرواوقة (حوازمة أولاد نوبة). ولهذه الأسباب لم يحدثنا التاريخ قط عن حربٍ نشبت بين الحوازمة والنوبة، رغم أن الحوازمة رعاة والنوبة مزارعون، ولكنه حدثنا عن حرب العُقال بين أبناء العمومة، الحمر والكبابيش، وكذا الحروب بين المسيرية والرزيقات، وغيرهم من المجموعات ذات الأصل الواحد والنشاط الاقتصادي المشترك المتمثل في الرعي. فقد سادت فتراتٍ طويلةٍ وجهة نظرٍ تحتاج إلى إعادة التفكير فيها، حيث تبسط أسباب الصراعات التي تنشب كثيراً في عدة مناطق من السودان وتُختزل في سببٍ واحدٍ هو اختلاف النشاط الاقتصادي بين الرحل الذين يمارسون الرعي وأولئك المستقرين في القرى والذين يحترفون الزراعة!
التثقّف الموسيقي بين قاطني مدينة الأُبيض وريفها
الأبيض مدينةٌ نشأت وازدهرت منذ القرن الخامس الميلادي، وهي عاصمة ولاية شمال كردفان بغرب السودان وتُعتبر من كبريات المدن بالسودان من حيث عدد السكان والنشاط الاقتصادي والثقل الإداري والثقافي والتاريخي والسياسي. ولقد تأثر النشاط الموسيقي لقاطني الأبيض، وهم قومٌ توافدوا من مختلف بقاع السودان، شأنهم شأن بقية قاطني المدن السودانية الأخرى، بنمط الثقافة الموسيقية المداينية التي تبلورت بصورة أساس في عاصمة البلاد الوطنية، مدينة أم درمان، وكانت تبث بعض أغانيها الإذاعة السودانية. وارتبطت هذه الثقافة الموسيقية المداينية تاريخياً بغناء ورقص بائعات الهوى المصحوب بالضرب على طبل الدُهلة أو الدلوكة، وهو طبلٌ مخنصرٌ ومجلدٌ من الفتحة الأكبر. وقد لعبت هذه الآلة الإيقاعية والغناء المصاحب لها فيما بعد دوراً رئيساً في توحيد المزاج الموسيقي لقطاعات واسعة من السودانيين، رغم اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم.
وتوجد حول مدينة الأبيض أعدادٌ كبيرةٌ من القرى والدساكر تقطنها إثنيات متعددة. غير أن البديرية يمثلون الإثنية الأكثر ارتباطاً بتلك المدينة. ويتصف الغناء والرقص المصاحب لدى البديرية بالجماعية ويشارك فيها الرجال والنساء من مختلف الأعمار، حيث لكلٍ دوره في العرض الموسيقي. فبينما تؤدي النسوة الغناء محدود النص بمصاحبة الصفقة بالأيدي والرقص بالرقبة، يغني أحد الرجال بعض النصوص المطولة، لتعقبه بقية جموع الرجال بكرير الصدر والحلق، ويُطلق على هذا النمط من الغناء في بعض مناطق السودان الأخرى اسم "الحُمبي".
وتقول بعض المصادر إن نمط الغناء الريفي المصحوب بكرير الصدر هذا الذي يؤديه الرجال، قد انتقل إلى الحواضر، وتكيّف ليكون فيما بعد، حسب رأي بعض الكتاب، نواةً لغناء المحترفين وأسهم في تكوين الأغاني الفنية الحالية التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة. فإن كان هذا يمثل اتجاه التثقّف الريفي الحضري، فإن انتقال آلة الدلوكة من مدينة الأبيض إلى بعض أريافها التي يقطنها البديرية يمثل الاتجاه المعاكس لعملية التثقف: الحضري الريفي.
ومعلومٌ أن عملية قبول المجتمع للوافد الثقافي الموسيقي يصعب اكتمالها إلا عبر التكيّف ليتسق هذا العنصر الثقافي مع نمط الأداء الموسيقي الذي يخبره ذلك المجتمع. فقد استطاع الموسيقيون الريفيون في قرى البديرية أن يوظفوا الدلوكة لتقوم بدور الصفقة بالأيدي، حيث يتفرغ الكل للمشاركة في الغناء والرقص، مع إلغاءٍ تامٍ للفرجة. فتكوّن بذلك نمط من العرض الموسيقي الجديد، أطلق عليه مجتمع البديرية اسم "الربّة". و"الرَبُوب هو المختلط الممزوج"، كما يقول عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية في السودان.
أراد مجتمع البديرية المرتبط بمدينة الأبيض أن يواكب أكثر عناصر الثقافة تأثيراً على المزاج العام، ونعني بها الموسيقى المتمثلة في الأنموذج المدايني الغنائي الراقص. ففعل ذلك على نمط ثقافته الموسيقية المتمثلة في الإيقاع والوزن والمنظومة النغمية. غير أنه كيّف فعله ذلك بالتوظيف الآلي الوافد وداينميكية حركة الجسم، التي أدخلت على الثقافة أنماطاً من الرقص لم يكن يعهدها من قبل. وإطلاق اسم الربّة على مثل هذا الرقص يحمي المجتمع من ملاحظات سالبة قد يبديها من هم على درايةٍ بأشكال من الرقص المشابه الذي له قواعد وأسس ومسميات دالة عليه. إنهم أرادوا أن يقولوا بهذه الرقصة، لمن هم في المدينة: لقد خلطنا ما لدينا بالوافد إلينا منكم، فأخذنا منه عناصره الجمالية، وخرجنا بما يقربنا منكم ولكنه يخصنا. وهكذا تعمل آليتا التكيّف والتثقّف في المجتمعات البشرية على اختلاف مكوناتها الثقافية.
الخاتمة:
إن التعدد العرقي وما يتبعه من تنوع ثقافي آية من آيات خلق الله، "يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقناكُم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا" (الحجرات الآية 13)، تستوجب الإفادة منها ليتعرف الناس على بعضهم البعض، وفي ذلك رحمة للعالمين. والسبيل إلى ذلك يكون عبر آلية الثقافة الشعبية، تكيّفاً وتثقّفاً، خاصة عبر اشتراك الناس طواعية في العروض الموسيقية التي تُؤدى في المناسبات الاجتماعية المختلفة، وما يصحبها من سياقات ثقافية أخرى. فليحسن القائمون على أمر الثقافة إدارتها، إذ إن الطريق إلى الاستقرار والتجانس بين الجماعات ذات الثقافات المتباينة التي تتشاطر السكن في وطنٍ واحدٍ يمر لا محالة عبر الحوار الثقافي الذي يُقرِّب الناس لبعضهم وجدانياً، ويكسِر الحواجز النفسية التي تقف حائلاً دون تفاعلهم إيجاباً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.