ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموسيقى والتثقّف بجنوب كردفان وشمالها
نشر في السوداني يوم 25 - 05 - 2012


مقدمة نظرية:
التثقف أو التثاقف هو عملية التغير من خلال الاتصال الثقافي الكلي. أي الاتصال بين ثقافتين ويؤدي إلى زيادة أوجه التشابه بينهما في جل الميادين الثقافية. ويتضمن التثقف الظواهر التي تنشأ عندما يحدث اتصال مباشر مستمر بين جماعات من الأفراد تنتمي إلى ثقافات مختلفة، ويكون من نتيجة ذلك حدوث تغير في الأنماط الثقافية الأصلية عند إحدى الثقافتين أو كلتيهما. ومن النتائج المترتبة على عملية التثقف هذه ما يعرف بالتكيّف، وهو يعني تكيّف عنصر ثقافي مع عناصر ثقافية أخرى أو مع مركب ثقافي آخر، حيث يعمل على الربط بين العناصر الأصلية وتلك الوافدة. أي أن التكيّف يعمل كما يعمل السلم الموسيقي الملون (الكروماتيكي) معبرا للانتقال من سلم موسيقي إلى آخر، والربط بينهما. أو كما يعمل الطوب الرابط بين بناءٍ وآخر عند تشييد الغرف المتلاصقة.
ويمكن النظر للتثقّف على مستويين: على المستوى الجماعي، حيثُ يُحدِث التثقّف عادة تغيراً في الثقافة والعادات والمؤسسات المجتمعية، كما يؤثر على أنماط الطعام والملابس واللغة. أما على مستوى الأفراد، فإن الاختلافات التي تحدث لهم أثناء عملية التثقّف يمكن قياسها نفسياً وفيزيائياً. ويَصِف العلماء عملية التثقّف هذه بأنها العملية الثانية لتعلم الثقافة، بحسبان أن هناك عناصر ثقافية آتية من الخارج. ويصفون عملية التثقّف من البيئة التي تحيط بالفرد بأنها العملية الأولى لتعلم الثقافة، وذلك لارتباطها بالداخل.
وانطلاقاً من التعريف العام للتثقّف، يمكن القول إن التثقّف الموسيقي هو: عملية عبرها يمكن لموسيقى مجتمع معين، أو جزء منها، أن تتغير نتيجة لتأثير ثقافي خارجي. فقد اهتم بعض علماء موسيقى الشعوب، في هذا السياق، بالتثقّف الموسيقي الناتج عن أثر الموسيقى الغربية على المجتمعات الأخرى، بما في ذلك المجتمعات الأفريقية، كما اهتموا بالأثر الذي أحدثته كذلك الموسيقى الأفريقية على بعض المجتمعات الغربية وأمريكا اللاتينية.
ويعتمد التثقّف الموسيقي بدرجة كبيرة على الاختلاف أو التشابه بين الثقافتين المعنيتين. كما يعتمد على ما إذا كان التغيّر قد حدث عبر المكونات الموسيقية الأساسية أم عبر المكونات غير الأساسية. فالمكونات الأساسية للثقافة الموسيقية تتمثل في اللغة الموسيقية ذاتها والتي تشتمل على: التوافق، ومشروطية البناء اللحني، والنغمية، والإيقاع، والوزن. أما المكونات غير الأساسية فهي تلك التي تنتج عن السياق الموسيقي وتشتمل على: الأداء الآلي، والضبط الصوتي، والمزاج، والتضخم، والتدوين الموسيقي، والسلوك الاجتماعي أثناء العروض الموسيقية.
لقد نشأت حول عملية التثقّف هذه بعض الافتراضات القابلة للقياس، مثل الافتراض الذي قال به ألن مريم ومفاده أنه: عندما يكون هنالك مجموعتان من البشر في اتصال مستمر ولهما صفاتٌ مشتركةٌ في بعض العناصر الثقافية، فإن تبادل الأفكار بينهما يكون أقل منه في حال ما إذا كانت الصفات الثقافية لكل منهما مختلفةً بصورةٍ بينةٍ.
ويؤشر هذا الافتراض في مغزاه العميق، وهو افتراض يتفق وقانون الطبيعة الذي يقول إن الأقطاب المتضادة تنجذب إلى بعضها، إلا أن التنوع الثقافي يفيد المجموعات المختلفة التي تتشارك العيش في وطنٍ واحدٍ، كما هو الحال في السودان. وذلك لأن هذا التنوع يسمح بتبادل الأفكار وتلاقحها، ما يتيح للمجتمع فرصةً لتجديد هذه الأفكار ويساعده على النمو والتطور. وهذا عكس ما يعتقده البعض، والذين لا يرون في التنوع إلا تنافراً وصراعاً واختلافاً، ما جعلهم يتحدثون دائماً عن البوتقة والانصهار. فثق أنك حيثما صوبت بصرك، فإنك لن تعثر على بوتقة أو انصهار. فذلك يتناقض وطبيعة الوجود.
لقد فطن لأمر قيمة التنوع هذه الكثير من المثقفين السودانيين، أمثال محمد عمر بشير الذي ذكر أن الاعتراف بالتنوع الثقافي في القطر ليس من شأنه أن يتعارض بأية حال مع مبادئ تحقيق الوحدة أو بناء الأمة. وإن الاعتراف بالتنوع الثقافي لا يعني التجزء والانفصال. فالإلمام بالطبائع المميزة لتلك الثقافات هو شرطٌ أساسٌ لنجاح أي إصلاحٍ كان.
ولم يبعد كثيراً عن هذا المعنى كل من فرانسس دينق وعبد الله علي إبراهيم. فقد قال الأول إن الاعتراف بالبشر كما هم واحترام خصائصهم الثقافية كما هي، يجعلهم أكثر رغبةً في تبني النموذج الثقافي للمجموعات التي يتفاعلون معها على نحوٍ أكثر نجاعةً من أي مسلكٍ آخر. أي يكونون أكثر قابلية للتثقّف وعدم الانغلاق على الذات الثقافية.
وقال الثاني إن أهدى السبل إلى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الإقرار بقوامين (أو أكثر) للثقافة السودانية. قد تمتزج هذه القوامات وقد تتبادل التأثير مع احتفاظ كل منها باستقلال الدينامية من حيث المصادر والترميز والذوق. فالتثقّف خيارٌ غير قهري يتم بسلاسةٍ دون استعلاء أو مؤامرة، ويتم ذلك عبر التكيّف الثقافي. وقد تُفضي تلك العملية أحياناً إلى التبني الكامل لبعض العناصر الثقافية ودمجها طواعية ونهائياً في الكل الثقافي للمجتمعات التي تعيش طويلاً في وطن واحد.
التثقّف الموسيقي بين النوبة والحوازمة:
النوبة والحوازمة مجموعتان اثنيتان تقطنان الجزء الجنوبي من أقليم كردفان بغرب السودان الذي يُتاخم الحدود الشمالية الغربية لدولة جنوب السودان، وهي المنطقة التي عُرفت تاريخياً باسم جبال النُوبة، وتقع بين خطي طول 29 درجة و31.30 درجة شرقاً، وعرض 15 درجة و12 درجة شمالاً في مساحةٍ تبلغ حوالي ثلاثين ألف ميل مربع. ويتناثر في هذه المنطقة عددٌ كبيرٌ من سلاسل الجبال الصغيرة التي تتخللها بعض الأودية والسهول، كما تتمتع بمناخ السافنا الغنية، ما جعلها صالحةً للزراعة والرعي معاً.
والنُوبة هم مجموعاتٌ ذات أصولٍ أفريقية، استقرت في هذه المنطقة منذ القدم، ويمارسون الزراعة كنشاطٍ اقتصاديٍّ أساس، مع تربية بعض الأبقار. بينما يُعتبر الحوازمة جزءا من المجموعات العربية الوافدة التي دخلت السودان في أزمان لاحقة، أي في أو بعد القرن الخامس عشر، وعُرفت باسم البقارة. ويقول يوسف فضل حسن، في هذا السياق: إن العرب الذين دخلوا السودان قد احتلوا السهول الشمالية لكردفان، دار فور وودَّاي في الفترة من القرن الثامن إلى الرابع عشر. واضطر الوافدون بعد ذلك للرحيل جنوباً إلى مناطق غنيةٍ بالعشب ولكنها لا تناسب إبلهم وأغنامهم. ولهذا اتخذوا كما السكان المحليون، تدريجياً تربية الأبقار فصاروا يُعرفون في مجموعهم ب "البقارة".
إن البقارة لم يتخلوا عن تربية الإبل ويكيّفوا أنفسهم على نمط النشاط الاقتصادي المتمثل في تربية الأبقار والزراعة فحسب، ولكنهم ومع مرور الزمن تثاقفوا مع المجموعات المحلية عبر كثيرٍ من المكونات الثقافية، كما تصاهروا معهم، ما خلق دائرةً مشتركةً تمخض عنها طيف من المتشابهات الثقافية. فالذين استقروا في بعض القرى ومارسوا الزراعة، لم يستنكفوا عن ممارسة طقوس الأسبار وزيارة العرّاف التقليدي، المعروف محلياً باسم الكُجور، من أجل مباركة وحماية الحاصلات الزراعية، رغم ما يراه البعض من مفارقة مثل هذه الطقوس لصحيح الدين والمعتقد. وامتد التثاقف لبقية المكونات الثقافية الأخرى، كالأزياء والطعام والمسكن وبعض الحرف والمصنوعات اليدوية.
ولم تكن العروض الموسيقية وسياقاتها استثناءً، ذلك لأن للموسيقى في المجتمعات الأفريقية وظائف تتعدى الوقف عند عتبة الترفيه وتسجية أوقات الفراغ، لتدخل في صميم معتقدات الناس ونظرتهم إلى الوجود كله. تلك النظرة التي تَعتبر الإنسان ومحيطه، المادي والتجريدي، مرتبطين بإحكام ويؤثر كل منهما على الآخر. فللإنسان في هذه المجتمعات صلةٌ حميمةٌ بالطبيعة بشقيها الحي وغير الحي. ويجعل هذا الأمر للصوت الموسيقي في هذه الثقافة مفهوماً أوسع ويحتوي ليس فقط الأصوات ذات الدرجات المحددة والمنغمة، وإنما يشمل أيضاً أنواعاً كثيرةً من الأصوات التي لها درجات غير محددة وغير منغمة كذلك.
أتى البقارة إلى بيئة مختلفة عن البيئة التي نشأ فيها أجدادهم، إلى المجتمعات الأفريقية التي وصُفت بأنها أمة من الراقصين والموسيقيين والشعراء، حيث لكل مناسبةٍ عظيمةٍ احتفالٌ جماهيريٌ راقصٌ مصحوبٌ بالغناء والموسيقى. إنها مجتمعاتٌ تُقيم بالموسيقى الأفراح والأتراح، وتستخدمها في تنشئة الصبية، وتحمي بها حاصلاتها الزراعية التي توفر لها السقاية وهطول الأمطار عبر الطقوس والأسبار. وكذلك يتعالجون ويتصلون ببعضهم البعض عبر المسافات الطويلة بالموسيقى. فتأثر البقارة بكل ذلك وحدث التثقّف الموسيقي الذي كان بعضه أساسياً يمس صلب اللغة الموسيقية والبعض الآخر غير أساسي وله علاقة بالآلات الموسيقية والسياق الاجتماعي الخاص بسلوك الإنسان وتفاعلاته المجتمعية والفردية.
وتتمثل المكونات الأساسية في التثقف الموسيقي بين الحوازمة والنوبة في الإيقاع والوزن، حيث الإيقاعات المتقاطعة، وكذا الأوزان الثلاثية، التي أعطت هذه المنطقة صفتها الموسيقية المتفردة. فرقصة "الكرنق" لدى النوبة ورقصة "المردوم" لدى الحوازمة، وهما الرقصتان الأشهر في المنطقة وتمارسان بشكلٍ واسعٍ، لا تتشابهان في البناء الايقاعي الثلاثي فحسب، وإنما شكلتا نمطين من حركات الجسم المتشابهة، ما جعلهما لا تبتعدان عن بعضيهما في الصورة العامة إلا في التفاصيل الدقيقة. ولكنهما تتفقان في الهيكلية البنيوية ودلالات المعاني، ورمزية الفتوة والجمال.
وانبثقت من هذا المكون الأساس عدة مكونات أخرى غير أساسية تمثلت، أولاً، في استخدام الطبول والأزياء المصاحبة في العروض الموسيقية الجماعية التي وظفت فيها أساليب اشتهرت بها الموسيقى الأفريقية، مثل الارتجال والعامل المكثف، وهي أساليب يستخدمها المؤدي الرئيس وتقود بدورها إلى تعميق الشعور الذي تثيره الموسيقى، وهي مصدر جوهري للطاقة والقوة التي يحتاجها هذا المؤدي ليقوم بدوره، عن طريق تفعيل المشاركين في الأداء من ضاربي الطبول والمغنين، في أي لحظة يهبط فيها أداؤهم.
نوبة بقارة
فيتحكم ضارب الطبل الأساس في العرض الموسيقي الذي يُعرف في غرب السودان ب "نقارة البقارة" على سبيل المثال، في القرع عليه عن طريق التركيز على أطرافه فقط (تِك) عندما يكون بقية القارعين على الطبول المساعدة في قمة عطائهم. فيأخذ بذلك قسطاً من الراحة ويُحدث تلويناً في الإيقاع عن طريق تقاطع ما يصدر عن طبله مع ما يصدر عن الطبول الأخرى المساعدة. ولكنه يلجأ إلى إظهار قوة النبر وأحياناً في غير موقعه بالتركيز على قرع الطبل عند منتصفه (دُم) بغرض تفعيل الآخرين عند هبوط الأداء. فإن لم يفعلوا ذلك استبدلهم المشرفون على الحلقة.
وتُستخدم هذه الأساليب الفنية الأفريقية ليس فقط بغرض التنويع وإظهار البراعة الفنية الفائقة وإظهار القدرة على التعبير والإبداع والبعد عن الملل فحسب، ولكن وفي ذات الوقت بغرض الخروج بالمشاركين من سياق الأداء الحاضر إلى التعبير الشامل والنظرة العامة للوجود كله. وفي ذلك تقول روث استون:
حسب معتقدات شعوب الكبيلي بليبيريا فإن الأصوات يمكنها أن تتقمص قدرات سحرية أو قدرات فوق طاقة البشر. فترد لديهم في الأنشودة الخرافية قصة يتيم له مواهب خاصة تتمثل في قتل الحيوانات عن طريق غناء أغنية سحرية. لهذا يتضمن التشريع العقدي لهذه الأنشودة إعادة شرح غناء ذلك الصوت الذي
يقتل حيوانات مختلفة.
وتمثلت المكونات غير الأساسية، ثانياً، في استخدام الليرة (الطمبور) آلة موسيقية وترية تصاحب الأداء الموسيقي المتفرد. فمعلوم أن للبقارة عموماً آلةً وتريةً أخرى هي آلة الرباب (أمُ كِيكي) توجد أيضاً في جل الأقطار العربية الأخرى، وهي آلةٌ قوسيةٌ ذات وتر واحد تصاحب المغنيّن الجوالة (الهدايّن). ولكن هنالك اختلافٌ في الضبط الصوتي لهذه الليرة، ترتب عليه اختلافٌ في مشروطية البناء اللحني، ما أوجد بالمنطقة نوعين من المنظومات النغمية الخماسية: الخالية من نصف البعد لدى النوبة، وتلك التي تحتوي على نصف البعد الصوتي لدى الحوازمة (البقارة).
ولعل السلوك الاجتماعي أثناء العروض الموسيقية واحد من أبرز المكونات غير الرئيسة التي تعكس قوة التثاقف بين المجموعتين وتُحدث تأثيراً كبيراً على سلوك الفرد في المجتمع وعلاقته بالآخر. فمعلوم أن للمرأة في المجتمعات الافريقية دوراً مهماً في النشاط الاقتصادي والموسيقي معاً. ويرى ألن لوماكس، في هذا السياق، أن هنالك علاقةً قويةً بين اشتراك المرأة بفعاليةٍ في العروض الموسيقية وبين اشتراكها بفعاليةٍ في عملية الإنتاج الاقتصادي. ولهذا وضع افتراضاً مفاده أن وجود خطين لحنيين متوازيين في الغناء، يمثل أحدهما دور المرأة في المجتمع، حتى وإن كان المؤدون رجالاً.
لقد تتبعت المرأة في مجتمع الحوازمة خُطى رصيفتها من النوبة، ليس فقط في مشاركتها بكثافة في النشاط الاقتصادي للأسرة فحسب، بل شمل ذلك أيضاً مشاركتها بكثافة في العروض الموسيقية التي يمثل الرقص المشترك فيها أهم خصائص التثقّف الاجتماعي بين المجموعتين. فالثقافة العربية الإسلامية لا تقر مثل هذا الاختلاط. ولكن التثقّف بين المجموعات الوافدة وتلك المستقرة نتج عنه سلوكٌ جديدٌ في علاقة الرجل بالمرأة، يقفز فوق حاجز الخوف والتوجس من الجنس الآخر، ويمهد لما هو أبعد من مجرد عرضٍ موسيقيٍ، حيث التصاهر ومولد إثنيةٍ جديدةٍ من الحوازمة الرواوقة (حوازمة أولاد نوبة). ولهذه الأسباب لم يحدثنا التاريخ قط عن حربٍ نشبت بين الحوازمة والنوبة، رغم أن الحوازمة رعاة والنوبة مزارعون، ولكنه حدثنا عن حرب العُقال بين أبناء العمومة، الحمر والكبابيش، وكذا الحروب بين المسيرية والرزيقات، وغيرهم من المجموعات ذات الأصل الواحد والنشاط الاقتصادي المشترك المتمثل في الرعي. فقد سادت فتراتٍ طويلةٍ وجهة نظرٍ تحتاج إلى إعادة التفكير فيها، حيث تبسط أسباب الصراعات التي تنشب كثيراً في عدة مناطق من السودان وتُختزل في سببٍ واحدٍ هو اختلاف النشاط الاقتصادي بين الرحل الذين يمارسون الرعي وأولئك المستقرين في القرى والذين يحترفون الزراعة!
التثقّف الموسيقي بين قاطني مدينة الأُبيض وريفها
الأبيض مدينةٌ نشأت وازدهرت منذ القرن الخامس الميلادي، وهي عاصمة ولاية شمال كردفان بغرب السودان وتُعتبر من كبريات المدن بالسودان من حيث عدد السكان والنشاط الاقتصادي والثقل الإداري والثقافي والتاريخي والسياسي. ولقد تأثر النشاط الموسيقي لقاطني الأبيض، وهم قومٌ توافدوا من مختلف بقاع السودان، شأنهم شأن بقية قاطني المدن السودانية الأخرى، بنمط الثقافة الموسيقية المداينية التي تبلورت بصورة أساس في عاصمة البلاد الوطنية، مدينة أم درمان، وكانت تبث بعض أغانيها الإذاعة السودانية. وارتبطت هذه الثقافة الموسيقية المداينية تاريخياً بغناء ورقص بائعات الهوى المصحوب بالضرب على طبل الدُهلة أو الدلوكة، وهو طبلٌ مخنصرٌ ومجلدٌ من الفتحة الأكبر. وقد لعبت هذه الآلة الإيقاعية والغناء المصاحب لها فيما بعد دوراً رئيساً في توحيد المزاج الموسيقي لقطاعات واسعة من السودانيين، رغم اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم.
وتوجد حول مدينة الأبيض أعدادٌ كبيرةٌ من القرى والدساكر تقطنها إثنيات متعددة. غير أن البديرية يمثلون الإثنية الأكثر ارتباطاً بتلك المدينة. ويتصف الغناء والرقص المصاحب لدى البديرية بالجماعية ويشارك فيها الرجال والنساء من مختلف الأعمار، حيث لكلٍ دوره في العرض الموسيقي. فبينما تؤدي النسوة الغناء محدود النص بمصاحبة الصفقة بالأيدي والرقص بالرقبة، يغني أحد الرجال بعض النصوص المطولة، لتعقبه بقية جموع الرجال بكرير الصدر والحلق، ويُطلق على هذا النمط من الغناء في بعض مناطق السودان الأخرى اسم "الحُمبي".
وتقول بعض المصادر إن نمط الغناء الريفي المصحوب بكرير الصدر هذا الذي يؤديه الرجال، قد انتقل إلى الحواضر، وتكيّف ليكون فيما بعد، حسب رأي بعض الكتاب، نواةً لغناء المحترفين وأسهم في تكوين الأغاني الفنية الحالية التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة. فإن كان هذا يمثل اتجاه التثقّف الريفي الحضري، فإن انتقال آلة الدلوكة من مدينة الأبيض إلى بعض أريافها التي يقطنها البديرية يمثل الاتجاه المعاكس لعملية التثقف: الحضري الريفي.
ومعلومٌ أن عملية قبول المجتمع للوافد الثقافي الموسيقي يصعب اكتمالها إلا عبر التكيّف ليتسق هذا العنصر الثقافي مع نمط الأداء الموسيقي الذي يخبره ذلك المجتمع. فقد استطاع الموسيقيون الريفيون في قرى البديرية أن يوظفوا الدلوكة لتقوم بدور الصفقة بالأيدي، حيث يتفرغ الكل للمشاركة في الغناء والرقص، مع إلغاءٍ تامٍ للفرجة. فتكوّن بذلك نمط من العرض الموسيقي الجديد، أطلق عليه مجتمع البديرية اسم "الربّة". و"الرَبُوب هو المختلط الممزوج"، كما يقول عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية في السودان.
أراد مجتمع البديرية المرتبط بمدينة الأبيض أن يواكب أكثر عناصر الثقافة تأثيراً على المزاج العام، ونعني بها الموسيقى المتمثلة في الأنموذج المدايني الغنائي الراقص. ففعل ذلك على نمط ثقافته الموسيقية المتمثلة في الإيقاع والوزن والمنظومة النغمية. غير أنه كيّف فعله ذلك بالتوظيف الآلي الوافد وداينميكية حركة الجسم، التي أدخلت على الثقافة أنماطاً من الرقص لم يكن يعهدها من قبل. وإطلاق اسم الربّة على مثل هذا الرقص يحمي المجتمع من ملاحظات سالبة قد يبديها من هم على درايةٍ بأشكال من الرقص المشابه الذي له قواعد وأسس ومسميات دالة عليه. إنهم أرادوا أن يقولوا بهذه الرقصة، لمن هم في المدينة: لقد خلطنا ما لدينا بالوافد إلينا منكم، فأخذنا منه عناصره الجمالية، وخرجنا بما يقربنا منكم ولكنه يخصنا. وهكذا تعمل آليتا التكيّف والتثقّف في المجتمعات البشرية على اختلاف مكوناتها الثقافية.
الخاتمة:
إن التعدد العرقي وما يتبعه من تنوع ثقافي آية من آيات خلق الله، "يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقناكُم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا" (الحجرات الآية 13)، تستوجب الإفادة منها ليتعرف الناس على بعضهم البعض، وفي ذلك رحمة للعالمين. والسبيل إلى ذلك يكون عبر آلية الثقافة الشعبية، تكيّفاً وتثقّفاً، خاصة عبر اشتراك الناس طواعية في العروض الموسيقية التي تُؤدى في المناسبات الاجتماعية المختلفة، وما يصحبها من سياقات ثقافية أخرى. فليحسن القائمون على أمر الثقافة إدارتها، إذ إن الطريق إلى الاستقرار والتجانس بين الجماعات ذات الثقافات المتباينة التي تتشاطر السكن في وطنٍ واحدٍ يمر لا محالة عبر الحوار الثقافي الذي يُقرِّب الناس لبعضهم وجدانياً، ويكسِر الحواجز النفسية التي تقف حائلاً دون تفاعلهم إيجاباً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.