السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضعف الإدارة الأهلية أظهر عجز مؤسسات الدولة البديلة في القيام بالمهام المتعددة
الإدارات الأهلية وأنظمة الحكم وظلال الحرب بجنوب كردفان (2/2)
نشر في الصحافة يوم 30 - 04 - 2012

الإدارة الأهلية كتعبير شائع في الدراسات السودانية يكتنفه بعض الغموض والالتباس وهو تعبير حديث نسبياً جاء في فترة الحكم البريطاني للسودان فتم تداوله في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي. جاء غموض التعبير والتباسه من شيوع تعابير مشابهه مثل الحكم غير المباشر والإدارة المحلية أو الادارة القبلية والحكم الأهلي وغيرها من التعابير على أن الالتباس أيضاً جاء من تعدد وإختلاف الأنماط الكثيرة التي يطلق عليها الإدارة الأهلية فنظام الحكم في مجتمع قبائل الفور بجبل مره يختلف كثيراً عن نظام الحكم في مجتمع الكبابيش أو النوبة هيبان. أما رحل البقارة فنظام حكمهم الأهلي مختلف جداً عن ذلك الذي يعرف بين القبائل المستقره التي الفت الزراعه ومع ذلك كل هذه الأنماط يطلق عليها مصطلح الإدارة الأهلية ولهذا الأمر رأيت أن تجئ هذه المقالات تحت عنوان الإدارات الأهلية.
شئ آخر ينبغي أيضاً الأنتباه إليه وهو أن هذا النمط من الحكم الأهلي الذي يرتكز على قاعدة المجتمع القبائلية وجد شرعية ورواجاً في المجتمع السوداني حتى أنه أكتسب الجدوى والفعاليه في الإنجاز جعلت من بعض رموزه أمثلة تحتذي في مضاء الحكم وحسمه, و كثيراً ما وردت اسماؤهم في مجال الإعتبار مثل إبراهيم موسى مادبو والسلطان عبد الرحمن بحر الدين والمقدوم آدم رجال بدارفور وبابو نمر وعلى التوم وزاكي الدين بكردفان وعوض الكريم أبوسن وادم هباني وودنواي في وسط السودان وود زايد والشيخ محمد الصديق طلحه ويوسف العجب بالشرق وسرور رملي والعمدة أبو حجل وغيرهم في الشمال مما تواترت على السنة السودانيين رويات واسعه التداول عن قدراتهم العالية في الحكم والاستعمال الحصيف للسلطة حتى توافرات لمجتمعاتهم المحلية سبل العدالة والاستقرار والتعايش السلمي بين المجتمعات القبلية الراحلة والمستقرة. بالرغم من كل ذلك الزخم الشعبي الزاخر بالاعتراف والامتنان والتقدير لجدوى وفعالية الإدارات الأهلية إلا أنها أيضاً لاقت من العداء والنكران كماً هائلاً خاصة من قبل بعض شرائح المجتمع المدينية الامر الذي أدى بدوره إلى أنقسام المجتمع السوداني السياسي إلى مؤيد لها ومناوئ حتى أضحت مؤسسه الحكم الأهلي هذه عظمة صراع بين القوى السياسية السودانية وحتى تم البطش بها في بعض فترات الحكم فكادت أن تذهب فعاليتها ويخبوا فيها بريق السلطة رغم جهود الإبقاء على ذلك في فترات سياسية أخرى الأمر الذي يدعو إلى الوقوف عنده ملياً في إطار تجربة جنوب كردفان.
تجربة الحكم الثنائي، الإنجليزي المصري والإدارات الأهلية بجبال النوبة:-
أيا كانت الدواعي والدوافع أهي مبدأ سياسية فرق تسد أم تمشياً مع شعارات الحكم غير المباشر فقد نفذت الإدارة البريطانية في السودان سياسة منهجية خاصة بمديرية جبال النوبة التي كانت وحده إدارية قائمة بذاتها ضمن مديريات شمال السودان ولم تضم إلى كردفان حتى عام 1928م . كان مهندس هذه السياسة السير أنقس جيلان نائب مدير مديرية جبال النوبة سنة 1928م -1932م ومدير مديرية كردفان والسكرتير الإداري لاحقاً. هذه السياسة في عمومياتها وأهدافها لا تختلف عن سياسة المراكز (المقفولة) التي طبقت في جنوب السودان وفي مناطق الأنقسنا بالنيل الأزرق وهي « خلق مستعمرات متعددة الأثنيات من أجل الحفاظ على الهويات الأثنية العرقية والدينية واللغوية والثقافية بغرض الحفاظ على تنوعها وأصالتها المحلية وعزلها عن التأثيرات المحيطة بها ( كمال عثمان صالح في سيد حامد ضرير 1989م). وهذه السياسة بدورها تؤدي إلى تركيز الهوية المحلية والحفاظ عليها شبه (نقيه) عن المؤثرات الخارجية.
هذه السياسة واجهت صعوبات عملية في التطبيق. فالصعوبة الأولى التي واجهت تنفيذ هذه السياسة هي تعدد مجموعات النوبة وأختلافاتها من جبل لآخر وكيف يمكن تنزيل عملية التنظيم عليها بما يحفظ لها هويتها وكينونتها المستقلة؟ أما الصعوبة العملية الثانية فهي كيف يتم عزل النوبة عن ثقافة ودين العرب الذين أصبحوا يختلطون بهم في الحياة اليومية بحكم القرب المكاني والاحتكاك الاقتصادي خاصة بعد إدخال زراعة القطن ومعظم العمليات الإنتاجية من زراعة ورعي وانتاج وعمالة وتسويق؟ كانت العناصر العربية الاسلامية تتكون من عرب البقارة والتجار الجلابة الذين توافدوا إلى جبال النوبة في هجرات متلاحقة عبر حقب تاريخية مختلفة.
حاول السير جيلان ومعاونوه التغلب على هذه العقبات العملية وقد حالفهم التوفيق في بعضها وخالفهم في أخرى. فالبنسبة لمجموعات النوبة التي تتمتع بحجم كبير نسبياً ويوجد فيها وحدة في الثقافة واللغة والدين فقد أنشأت لها مجالس محاكم يجلس على رأسها أحد المكوك وهذا نمط عادي في تنظيم الإدارات الاهلية وقد شملت هذه كل من النوبة تقلي والكواليب وكادقلي والميري. أما تلك المجموعات الصغيرة التي تفرق بينها اللغة والدين والتاريخ المحلي فقد كانت «الكونفدرالية» هي الحل إذ يتم تجميعها تحت رئاسة أحد المكوك شريطة أن يحوز على رضا وموافقة المجموعات المختلفة الأمر الذي يكلف جهداً كبيراً فيه كثير من المساومات وبعضها بحكم حجمه قد فاز بمك مستقل مثل النوبة نيمانج وكاتلا والمورو والنوبة مساكين. أما تلك المجموعات الصغيرة كالليري وأم حيطان والحصره فقد جرى تنظيمهم في إدارات كل وفق الظروف المحيطة به فبعضهم ترك تحت الإدارات العربية وأخرى أدمجت في إدارات بعض النوبة الذين يمتون إليهم بصلة (كمال عثمان صالح ? المصدر السابق).
على أن المشكلة الأكثر تعقيداً في تنفيذ سياسة السير انقس جيلان التي أضحت سياسة الإدارة البريطانية المعتمده بجبال النوبة هو كيف أن تنزل على أرض الواقع وتحقق عزلة النوبة من تاثير العرب المسلمين الديني الثقافي واللغوي والأثني؟ لمواجهة هذا الأمر أتخذ السير جيلان وأعوانه عدة إجراءات منها أولاً أن النوبة الذين ظلوا في مناطق ذات الكثافة القبلية العربية بعيدين عن أصلهم فهؤلاء يترك شأنهم لإدارات القبائل العربية مثل النوبة حجيرات في حدود المسيرية والحمر. ثانياً أما النوبة الذين أحاطت بهم العناصر العربية مثل النوبة الجنوك والداجو وتلشي وكاشا وشفر وكتالا وتنا بدار حمر فهؤلاء تمت تبعيتهم لإدارة المسيرية لكن بشرط إلا يتدخل ناظر المسيرية في قضاياهم الداخلية التي تخصهم كنوبة ولكن يسمح له بالتدخل فقط في حالة الخلاف بين مجموعاتهم المختلفة. ثالثاً: في حالة النوبة وسط محيط قبيلة الحوازمه بمركز كادوقلي فقد أجريت لها بعض المعالجات الإدارية الممكنة التي شملت كل من النوبة كيقا ومورو والكواليب أما أولئك الذين وسط الحوازمة الرواوقه فقد ترك أمرهم داخل إدارات العرب وكذلك النوبة بالجبال الشرقية الذين تركوا في إدارة أولاد حميد. وبالرغم من كل هذه الإجراءات الإدارية الكثيفة والمعقدة كان تأثير الثقافة العربية متزايداً بإضطراد خاصة بعد التنمية الاقتصادية كإدخال زراعة القطن وتوزيع الأراضي الزراعية وإنفتاح المنطقة للهجرات الخارجية منها للعمل في مدن المنطقة والمدن الشمالية وإنخراط أعداد كبيرة من أبناء النوبة في العمل العسكري الذي شغفوا به في كردفان وفي حاميات الجند بشمال السودان مثل شندي وغيرها. من جانب آخر فقد أثرت هذه السياسه في تركيز هوية النوبة والوعي بذاتهم ككيان له خصائص متفردة وسط محيط اسلامي عروبي وسياسة منهجية في اسلمتهم (لمن كان وثنياً) وتعريبهم خاصة في بعض الأنظمة الوطنية القسرية مثل نظامي الفريق أبراهيم عبود (1958-1965م) ونظام الأنقاذ الوطني (1989-2011م) الأمر الذي زاد من تمسكهم بهويتهم الأفريقية المحلية في مواجهة المد العروبي (محمد عثمان صالج ? المصدر السابق).
مهما يكن من أمر فإن سياسة الإدارات الأهلية بجبال النوبة التي وضعها السير جيلان رغم التطرف والعنت الذي صاحبها استمرت خلال ثلاثه عقود من الزمان أصبحت في نهايتها نظاماً إدارياً أهلياً ذو فعالية في حفظ الأمن والنظام وتجميع الضرائب وحلحلة القضايا الصغيرة ذات الطابع المحلي وهي في ذلك لا تختلف كثيراً عن الإدارات الأهلية الأخرى التي أنشات بمنطقة جنوب كردفان كإدارات البقارة الأخرى الحوازمة واولاد حميد والمسيرية وغيرهم. في نهاية الأمر أدت السياسة البريطانية بجبال النوبة إلى تخليق واقع ملموس يتكون من عدد من الإتحادات الكنفودراليه العرقيه كوحدات إدارية تتكون من 1- إتحاد النوبة تقلي 2- اتحاد النوبة داجو ويضم الكاشا والشقر وأبوجنوك 3- إتحاد الكواليب الفرعي 4- إتحاد النيمالج 5- إتحاد النوبة كيقان 6- إتحاد النوبة مورو.
جاء قرار 1970 بحل الإدارات الأهلية فشمل ذلك جبال النوبة خاصة على مستوى المكوك وقد ترك ذلك فراغاً إدارياً واسعاً كادت بسببه أن تعم الفوضى في مجتمع الجبال والمجتمعات المجاورة. صحيح حاول نظام مايو 1969م ملء ذلك الفراغ بإنشاء المحاكم الشعبية ومجالس تطوير القرى والمجالس المحلية الشعبية إلا أن كل هذه التنظيمات فشلت في ملء ذلك الفراغ. هذا بجانب عد م الأستقرار الذي خلفته الحرب الأهلية بإنضمام جزء من مجموعات جبال النوبة (يوسف كوة ومجموعته) إلى الكفاح المسلح ضمن مجموعات الحركة الشعبية لجنوب السودان (سابقا) بقيادة جون قرنق(إسماعيل علي الفحيل1980م).
بعد مضي عقد ونصف من الزمان أدركت حكومة مايو ممثلة في اللواء الفاتح بشاره حاكم إقليم كردفان، أن قرار تصفية الإدارات الأهلية كان قراراً غير مدروس لأنه لم يوفق في طرح البدائل المناسبة لمؤسسات الإدارات الأهلية وتجاوزاً لإخفاقات ذلك القرار وصى اللواء بشاره في إستيحاء بإعادة مؤسسات الإدارة الأهلية تحت مسمى «الإدارة الذاتية المحلية في ظل الحكم اللامركزي» وبصلاحيات قضائيه للنظار الذين أطلق عليهم لقب «المعاونين الإداريين» في مديرية كردفان عام 1984م ليقوموا بضبط الأمن.والاستقرار القبلي إلا أن التجربة كانت تجربة بؤس ولم تحقق النجاح المرجو(أحمد إبراهيم أبوشوك).
ألا يحق للمرء هنا أن يتساءل عن دور التنظيم الأهلي الإداري والسياسات المتضاربة حوله ضمن عوامل أخرى في الحروب الأهلية في السودان خاصة وإن حالة إعادة هيكلة الإدارة الأهلية بسلطنة المساليت عام 1995م التي فجرت الصراع بغرب دارفور تكاد أن تكون مثلاً صارخاً على الإجابه بنعم. وما يدور بجبال النوبة من حروب قديمة ومتجددة تتمركز حول الإعتراف بخصوصية الهوية الذاتية ليس ببعيد من كل ذلك؟
إدارة الحوازمة بجنوب كردفان:-
هنالك عاملان أديا إلى تقسيم عرب الحوازمة البقارة إلى مجموعات متباينة ومتباعدة في حلها وترحالها أولهما جغرافي وهو تتبع مساقط المياه وتوفر الكلأ لمجموعات بدوية متنقلة وثانيهما تاريخي وهو احداث الثورة المهدية بكردفان وبجبال النوبة التي إنخرط فيها الحوازمة كغيرهم من قبائل البقارة بكردفان ودارفور. أدى إشتراكهم هذا في حروب المهدية إلى إنقسامهم في عدة جهات وأضعف كيانهم القبلي الموحد. لهذين العاملين صارت قبيلة الحوازمة أكثر القبائل تداخلاً مع النوبة وتعايشاً وإختلاطاً معهم في مناطق متعددة ومتفرقة من جبال النوبة مما جعل ترابط العنصرين (العربي الحازمي والنوباوي) ترابطاُ كبيراً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية خاصة عن طريق التزاوج والمصاهرة والاحلاف القبلية المحلية التي توفر إمكانية العيش للعنصرين معاً في السلم والحرب.
لخاصية هذا الاختلاط الوثيق بين الحوازمة والنوبة بالغ الأثر في التنظيم الإداري الأهلي خاصة على ضوء سياسة جبال النوبة التي أسس السير جيلان لها والتي أشرنا إلى بعض تفاصيلها في إدارات مجموعات النوبة. إذا نظرنا إلى المعيار الأساسي الذي إتخذته هذه الاداره في اهدافها الكلية أو النهائية هي تحقيق النقاء العرقي والاحتفاظ وتنمية الهوية المحلية لعنصر النوبة الأفريقي المسيحي أو الوثني في مواجهة العنصر العربي الاسلامي. ولهذا الأمر كان تواجد قبيلة الحوازمة الكثيف والمنتشر يشكل مازقاً حقيقياً لتنفيذ سياسة جبال النوبة وفق هوى ورؤية الإدارة البريطانية.
تتكون قبيلة الحوازمة من ثلاثة فروع رئيسية هم عبد العال والرواوقة والحلفه. ويندرج تحت كل من هؤلاء عدة عشائر وبطون قبيلة. كان لا بد للادارة البريطانية من إيجاد وعاء تستطيع من خلاله بناء تنظيم إداري لهذه القبيلة يخضعها كغيرها من قبائل كردفان للسيطرة ومقتضيات العرف والقانون من جانب ومن جانب آخر تحافظ على ثقافتها العربية بعيداً عن ثقافة النوبة وهويتهم وعلى ضوء هذه المعايير غير الواقعية ثم تنظيم قبيلة الحوازمة إدارياً.
أقترح مدير مديرية كردفان التي دمجت فيها جبال النوبة 1928م أن يتم دمج فروع قبيلة الحوازمة في إدارة واحدة وعليه كتب إليه معتمد الجبال الغربية قائلاً «يبدو أن الخطوة الأولى التي يجب أن تتخذ في سبيل تحقيق هدفنا بتجميع أقسام الحوازمة المشتته هي أن يرتب كل قسم بيته من الداخل أولاً والخطوة الثانية هي خلق نوع من العلاقة المتبادلة بين رؤساء هذه الاقسام والخطوة الثالثة هي تعيين ناظر عموم (حامد البشير إبراهيم 2002م). تم تنفيذ هذه المقترحات كما جاءت. ففي عام 1940 تم دمج فرعي الحوازمة عبد العال والرواوقه تحت إدارة واحدة بإسم نظارة العموم على رأسها الناظر محمد حماد أسوسه من فرع عبد العال علي أن يكون له نائب للنظاره من فرع الرواوقة هو سومي تاور. في الفتره التي سبقت إنشاء هذه الإداره تم تحديد وإعادة توطين الحوازمة في مناطق قبلية محددة وهكذا بمثل هذه الاجراءات مثل كتحديد الديار وإنشاء تكتل قبلي إداري واحد استطاعت الإدارة البريطانية في كردفان من خلق كيانيين متقابلين أحدهما نوبي أفريقي مسيحي أو وثني والثاني عربي مسلم.
مع كل هذه الحواجز الإدارية المصطنعه كانت إرادة الحياة في الإختلاط والتعايش السلمي وتبادل المنافع هي الأقوى مما أدى إلى تجاوز تلك الحدود الإدارية والعرقيه وتكوين تحالفات بين عناصر النوبة وعرب الحوازمة شملت مجالات الحياة في السلم والحرب كالديه المشتركة والاحلاف العسكرية وقد أورد حامد البشير المؤسسات الأهلية التي جعلت التعايش السلمي بين النوبة والعرب الحوازمة ممكناً في الآتي:-
1. القرب الجغرافي والإحتكاكات والتمازج بين العرب والنوبة.
2. التبادل اللغوي بين النوبة والعرب إذ أصبحت اللغه العربيه هي لغة التخاطب في الأسواق في أغلب الأحيان.
3. طرق هجرة العرب الرعوية (المراحيل) وما ترتب عليها من اثر في العلاقات والتحالفات العرقية البينيه.
4. الزواج المتواتر بين النوبة والعرب وما تؤدي إليه المصاهرة من علاقات إجتماعية وعرقية مترابطة.
5. التوافق على نظام عرفي للديات في حالات القتل أو الأذى بين الطرفين وما تخلقه مثل هذه المؤسسة العرفيه من إمكانية التسامح والتعايش السلمي بين المجموعات العرقيه والقبلية المختلفة (حامد البشير ? المصدر السابق).
ضمن نماذج التنظيم الإداري الأهلي لقبيلة الحوازمة فان الرواوقه هم الأكثر إختلاطاً وتعايشاً مع النوبة كادوقلي وعليه فقد كانت إدارتهم بالرغم من أنها تشكل جزءاً من إدارة القبيلة ككل إلا أنها أحتفظت بشكل مستقل تحت أسم الإدارة الأهلية لفرع الحوازمة الرواوقه وشملت أولاد نوبة ، الدلميه ، دار جامع ، الشوابنه والفلاته.
الإدارات الأهلية بين اللاصلاح والافساد:-
في الأعوام 84-1985م بدأ نظام حكم مايو 1969م الذي بطش بالإدارة الاهلية وأزالها يتخبط ويلفظ أنفاسه الآخيره فقامت إنتفاضة أبريل 1985 وأتت بحكم ديمقراطي جديد ليواجه الفراغ الإداري الذي خلفته الإدارات الأهلية بعد حلها في نجوع المجتمع الريفي السوداني في كردفان ودارفور وغيرهما من أقاليم السودان. كان نتيجة ذلك أن أنفلت زمام الحكم وكادت الصراعات القبلية أن تذهب بالدولة السودانية من أطرافها خاصة بعد أن تمددت الحرب الأهلية لجنوب السودان لأطراف كردفان. انفلت زمام الأمن كلياً بدارفور وكردفان أوكاد. لمواجهة هذا الموقف شكل مجلس الوزراء السوداني في قراره (201) لسنة 1986م لجنة وزارية كلفت بوضع تصور جديد للإدارة الأهلية.
بتاريخ 7/5/1987م وافق مجلس الوزراء في جلسة رقم (76) على توصيات اللجنة بإعادة إنشاء الإدارة الأهلية وفق تصور جديد يقوم على تقسيم مناطق السودان التي تعاد فيها الإدارة الجديدة على النحو التالي:-
1- مناطق الرحل وشبه الرحل والمناطق الحدودية تعطي فيها الإدارات الأهلية سلطات شاملة (إدارية وقضائية وأمنية).
2- المناطق الريفية المستقرة تكون فيها سلطات الإدارة الأهلية إدارية وأمنية وشبه قضائية.
3- مناطق المدن والبلديات ومناطق الإنتاج الحديث يكتفي فيها بصلاحيات محدودة تعطي لمستوى الشيخ فقط.
على أن تراعي المرونه الكاملة في مسألة التقسيمات الثلاثة الواردة أعلاه.
من توصيات اللجنة الوزارية اللافته للأنتباه هي كيفية إختيار رجالات الإدارات الأهلية في مستوياتهم المختلفة وقد استبعدت الإنتخاب المباشر إلا في المستويات الدنيا في حالة المشايخ أما في المستويات الوسيطة والعليا فقد أخذت بنظام الأنتخاب غير المباشر وقد نصت على الأتي:-
1- يتم إنتخاب المشايخ إنتخاباً مباشراً.
2- يتم إنتخاب العمد إنتخاباً غير مباشر عن طريق المشايخ.
3- يتم إنتخاب الناظر ومن يماثله من وظائف الأداره الأهليه إنتخاباً غير مباشر عن طريق العمد أو العمد والمشايخ شريطة أن يكون للعمدة عدد من الأصوات أكثر من الشيخ (تقرير اللجنة الوزارية 1987م).
وهذه التوصية من الأهمية بمكان إذ أنها لا تختلف كثيراً عن مذكرة الإداري المهني حسين شرفي التي سبقت الإشارة إليها أنفاً إلا أنها توصلت لكلية أنتخابية تكفل المناوره والشورى لبطون العشائر القبلية والأثنية المختلفة في المساومة والتأثير في إختيار من يتولى المنصب وهي آلية بصورة أو أخرى تكفل حق المساءلة والمحاسبة وفق التنظيم القبلي المعني.
ما أن بدأ نظام العمل في تنفيذ توصيات هذه اللجنة التي صدرت في توجيهات من مجلس الوزراء إلى حكام الأقاليم وقبل أن تترسخ التجربة الجديدة في إعادة الإدارة الأهلية على أرض الواقع حتى قام الأنقلاب العسكري للحركة القومية الاسلامية عام 1989م وأتى بحكم الأنقاذ الوطني على أنقاض الديمقراطية الثالثة وأتى بسياسة جديدة للإدارات الأهلية.
نظام حكم الأنقاذ والإدارة الأهلية:-
إن رؤية الإنقاذ للإدارة الأهلية تضمنتها مذكرة وزارة التخطيط الإجتماعي التي قدمت في مؤتمر النظام الاهلي عام 1995م فقد جاء في الفقرة (7) من موجهات المؤتمر (ص2) القول « ولا تنحصر نظم القبيله خاصة دون أن تنفتح لنفحات تجديد الدين لبسط ولأئها نحو أخوة الدين ولترشيد نظمها وفق تعاليم الدين وقيمه. فالراعي للقبيلة لا يهتم بأمر رعيته ومعاشها بل يسعى لامامتها في شعائر الدين وعلومه و نموذجها في أخلاق التدين. « والجملة الأخيرة تعني بوضوح أن رجال الإدارة الأهلية لم يعودوا في نظر الأنقاذ معنيين بالدرجة الأولى بحفظ الأمن والنظام وسط مواطنيهم وبينهم وبين المجموعات الأخرى وإنماهم معنيون بالدرجة الأولى بقيادة حركة التجديد الديني والسياسي والذي جاءت الأنقاذ من أجله. وتجي حراسة النظام السياسي الجديد في صدارة مسئوليات الكيان القبلي وقد جاء في المذكرة «وقد يلزم أحياناً أن يتعبأ أبناء القبيلة لحراسة حدود السودان وتأمينها أو للدخول في الدفاع الشعبي عن السودان أو التزاماً في الخدمة النظامية لقوات الدفاع والأمن للوطن وبذلك كله يتحرك الولاء قوة نحو الوطن كله ونحو المصلحة المشتركة ونحو المذهب الفكري بل نحو المله الدينية الواحدة (آدم الزين محمد 2003م).
واضح جداً من خلال هذه الفلسفة الجديدة للإدارة الأهلية أن صارت المهمة الوحيدة المجمع عليها التي يطالب بها رجال الإدارات الأهلية هي أنهم جنود في دولة رسالية لها برنامج سياسي معلوم هم مطالبون بالاسهام في تحقيقه وبهذا إنحسر دورهم التاريخي في حفظ الأمن والنظام داخل قبائلهم ورعاية التداخل السلمي القبلي وإعمال الأعراف في إدارة الصراع والموارد الطبيعية في ديارهم بل صار الولاء الحزبي السياسي هو المعيار في الاختيار والتكليف والقرب أو البعد عن السلطة والحزب الحاكم. وكل ذلك ذهب بشرعية رجال الإدارات الأهلية في مجتمعاتهم وأنهكت قدراتهم على الفعاليه والأداء وتشققت إدارتهم على بطون قبائلهم بصورة منهجية بفعل سياسات النظام الحزبية. إنعكس كل ذلك جلياً في الإدارات الأهلية بجنوب كردفان حيث قسمت إدارات كل من النوبة والحوزامه والمسيرية وتضاعفت أعدادها وفق التقسيمات القبلية العشائرية. أوضح مثال لذلك أن أصبحت نظاره عموم المسيرية التي كان على رأسها الناظر المرحوم بابو نمر وتشمل نظارات فروع المسيرية الزرق والعجايره والفلايته وعمودياتها المختلفة تضاعفت اليوم بنظارات كل من أولاد كامل والفيارين والمراغنه والفضلية واولاد عمران والزيود والجبارات (2009 Sara Pantuliano) ومهدت بذلك لإنشاء قبائل جديدة بفروع وبطون جديدة وإدارات أهلية جديدة في المستقبل القريب.
من كل ذلك نخلص إلى أن الإدارات الأهلية بجنوب كردفان بحاجة إلى إعادة النظر في الأطر الحالية بكردفان وبغيرها من مناطق السودان الريفية لتكون مؤهله لأداء وظيفتها في الحكم التي عرفت بها سابقاً في السودان بتنفيذ التوصيات التالية:-
1. إعادة هيلكة الإدارات الأهلية لتعود أكثر تماسكاً في الأطار القبلي الكلي المتعارف عليه إجتماعياً.
2. أعمال مبدأ إختيار رجال الإدارات الأهلية وفق كليه العمد والمشايخ كما جاء في توصية اللجنة الوزاريه التي تمت الأشاره إليها.
3. منح السلطات القضائية العرفيه اللازمة لتحقيق العدالة.
4. تحديد صلاحيات وسلطات الإداره الأهليه في جداول تشتمل على
أ?. الأمن والنظام العام
ب?. المشاركة مع الجهات المهنية الحكومية في إدارة الموارد الطبيعية.
ت?. التمثيل بحكم وضعهم في لجان الإدارات المهنية بالمجالس المحلية.
5. تحديد الوضع الدستوري للإدارات الأهلية ضمن أطر مؤسسات الحكم الأخرى خاصة المستويات الولائية والمحلية . على أن يسبق تنفيذ ذلك دراسات تفصيلية لكل حالة من حالات الإدارت الأهلية تساعد على وضع التصور الشامل لكل إدارة منفردة لها ظروفها المحلية والاجتماعية ، وبما يساعد علي تطورها.
في الختام لا بد من الإشارة إلى أن غياب أوضعف الإدارة الأهلية» لم يؤثر على واقع السلم القبلي فقط ولكنه أظهر عجز مؤسسات الدولة البديلة في القيام بالمهام المتعددة التي كان يقوم بها جهاز الإدارة الأهلية. تدنت موارد المحليات بتعسر تقدير وتحصيل الضرائب المحلية لإنفراط العقد الذي كا يربط الفرد بالدولة. وتفشت ظاهرة جور المواطنين على الموارد الطبيعية مثل إزالة الغطاء النباتي وتوقف العمل الطوعي الذي كانت تقوده الإدارة الأهلية مثل فتح خطوط النار وتنظيف الأودية ومجاري المياه. وأخطر من ذلك توقف الالتزام بالمواثيق بتنفيذ مقررات الصلح القبلي عامة مثل سداد تعويضات المتضررين من الاحتراب القلبي. بإختصار فإن إزالة أو (ضعف) قيادة الإدارة الأهلية قادت إلى مخاطر لم تطال المجتمع المحلي وحده بل تعدته إلى الدولة نفسها، أي زوال هيبة الدولة (آدم الزين محمد 2008م).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.