وجدت الحكومة مساندة كبيرة لتبقى غير ديمقراطية المعارضة تستمد وجودها من تراكم أخطاء النظام التيار المعارض أكثر شبهاً بالنظام الحاكم من نفسه "من السهل جداً والمربح جداً الوقوف دفاعاً عن المشاعر الجميلة والقضايا العظيمة إزاء شخص يمكن أن يتهمك- وهو محصن من المساءلة- بكراهية تلك المشاعر والقضايا بسبب قيامك-دون شعور بالأسى-بكشف أشياء يعتبر أمر سترها مسألة شرف بالنسبة للمؤمنين بها"1. شكراً بيير بورديو على العبارة، وعلى رفع الراية البيضاء إزاء ترجمتنا المتصرفة في نصك المكثف والبليغ!، هكذا أستهلت الورقة التى قدمت فى اللقاء التفاكري حول الأزمة الوطنية في السودان فى الدوحة برعاية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. (1) حسناً، جميعنا، فيما يبدو، متفق على إن النظام الحالي في السودان نظام غير ديمقراطي وقد أثبت خلال 23 سنة أنه لا ينتوي التحول الى نظام ديمقراطي بالرغم من الإجتهادات المحسوبة بعيار الذهب للتحلي بمظهر مقبول للأجانب في الخارج دون أدنى إجتهاد للحصول على مظهر مقبول بالنسبة لدى مواطنيه في الداخل إعتماداً على ان هناك وسائل أكثر فعالية للبقاء في السلطة. ربما يتقاعس البعض منا عن الإعتراف بدكتاتورية النظام لأسباب سياسية لا علاقة لها بإحقاق الحق أو عدمه، مثلما يتقاعس البعض منا- تحت ستار ما وصفه بورديو ب( مسألة الشرف) عن الإعتراف بدكتاتورية المعارضة على اساس ان الهدف الآن هو إزالة النظام وليس إصلاح المعارضة. أي بمعنى آخر إزالة النظام، ثم محاولة إصلاح المعارضة الحاكمة، والفشل الحتمي في ذلك، فالعودة الى مؤازرة معارضة أخرى فاسدة والصمت عن مفاسدها مرة أخرى ك(مسألة شرف) على أساس أن الهدف الآن هو إزالة النظام وليس إصلاح المعارضة ومن ثم تنصيب تلك المعارضة و... وتدور الدائرة! الحكومة غير ديمقراطية وقد وجدت مساندة كبيرة لتبقى غير ديمقراطية سواء بتحالف (قطاع الشمال وحلفائه) أو بتواطؤ الخصوم، أو بعجز الجماهير، أوتخذيل الطبقة الوسطى المتنامية العدد والمتخوفة –عن حق- من أي تغيير قد يهدم ما استطاع الناس التعايش معه دون أمل في بناء ناموس جديد، أو أي اسباب أخرى ذات صلة. الحكومة زورت الإنتخابات الأخيرة. هذه حقيقة ولكن كم بالمائة كان احتمال فوز المعارضة برئاسة الجمهورية والأغلبية البرلمانية؟ بمعنى آخر: هل زورت حكومة المؤتمر الوطني الإرادة الشعبية كلها؟ أم زوّرت حجم التفويض الذي زعمت الحصول عليه؟ وهل هناك فرق بين الإثنين؟ على الشط الآخر، لدينا تيار معارض كبير يستمد وجوده من تراكم أخطاء النظام ومن استعداد النظام نفسه لإرتكاب المزيد من الأخطاء بشكل يومي لأسباب تتعلق ببنيته الداخلية التي تعتمد في قوامتها على القوى السياسية الأخرى بالإلتزام بممارسة بعض الخطأ-والبحث عن مبررات له كما كان الأمر في الأيام الأولى ودون الإجتهاد للحصول على مبررات كما هو الحال الآن- وممارسة البعض الآخر من الخطايا لأسباب تتعلق بالمزايدات بين أركان ومؤيدي النظام بغية تعديل التسلسل الهرمي في التنظيم الحاكم أو الإبقاء على الوضع كما هو الحال عليه. يمكن الحصول على أمثلة هنا من خلال قراءة تصريحات الكثير من الوزراء والمسئولين أو من خلال قراءة التصريحات الإعلامية التي يضطر اليها النائب الأول السيد علي عثمان محمد طه لتلبس حالة الصقر، عوضاً عن الصورة الزائفة لرجل الحكمة والعقل والسلام والتي تخفي تحتها صقراً أكثر وحشية كما يقول سجل الرجل في الحكم، في إطار التنافس مع مجموعة الصقور (الروافض) لأي اختيار سلمي يتم التوصل اليه (أمثلة تصريحات علي عثمان في الهلالية بولاية الجزيرة " إن كل من يتطاول على المنهج والشعب والرئيس عمر البشير سيواجه بالقطع بالسيف" 30/7/ 2011، أو تصريحاته الأخيرة أمام البرلمان والتي عرفت بتصريحات: شووت تو كيل2 25/ 4/2012). كلما تحرك سجاد النفوذ وطنافسه من تحته عمد الى الحصول على مسمار غليظ يثبت به الأمور في مكانه دون ان يشغله بالطبع ألم المواطن الذي يقع على رأسه المسمار الغليظ. بالإضافة لهذين السببين هناك اسباب أخرى لا تخفى: من بينها ضعف القدرات الشخصية للكثير من القادة السياسيين الرفيعين وهو ما أنتج طبقة أخرى من المستشارين والمساعدين (غير العارفين) والذين ينبغي لهم تقديم استشارات لا يستعصي فهمها على أصحاب القرار (يمكن في هذا الجانب قراءة تصريحات الرئيس عن إن المواطن البسيط لا يتضرر من زيادة اسعار الوقود وإن الأغنياء الذين يقودون السيارات الفارهة هم من سيقع عليهم عبء ارتفاع اسعار المحروقات (السوداني 20 أغسطس 2011). من الواضح ان كتيبة من المستشارين وحملة الشهادات (يا لبلاغة الوصف) لم تعلم الرئيس شيئاً خلال ربع قرن عن علاقة الطاقة بالإنتاج! لقد تم اتخاذ قرار زيادة أسعار المحروقات والمشتقات النفطية منذ زمن لكن ما يؤخر التطبيق هو عجز رجال الدولة عن الإتيان بمبررات مقنعة للمواطن! الحكومة قالت كلمتها بالتقسيط الممل خلال الثلاث والعشرين سنة الماضية أما المعارضة فلم يتركوا لها ما تقول! بلغة الشاعر الكبير الفيتوري شفاه الله. (2) التيار المعارض الآن في السودان، على امتداد مناصريه في الداخل والخارج، أكثر شبهاً بالنظام الحاكم من نفسه، والأحزاب المعارضة في مجملها تشكل مناطق نفوذ لسلطة أخرى موازية تحكمها بوسائل أبشع وأكثر إحكاماً وتدقيقاً وقهراً من المناطق التي تتوفر فيها سلطة الحكومة المترهلة والمثقلة بالمنازعات والعوز وقهر الحلفاء الأجانب! الحكومة تراقب الصحف في المطابع والمعارضة تراقب صحفها فقط! الكل –هنا- حسب قدرته وربما حسب حاجته أيضاً! كاتب هذه القراءة يعرف ذلك بالتجربة المريرة وقد رآه خلال زمن طويل رأي العين. رأي كثيرون وشهدوا كيف كانت المعارضة ولا تزال هي الأكثر غلظة في ممارسة الرقابة سواء في صحفها الباهتة أو نشراتها السرية أو إذاعة التجمع الوطني الديمقراطي من أسمرا والتي كان شعارها العمل يخلق الأخطاء وعدم العمل يحقق السلامة لذلك فقد اعتمدت بشكل كبير على قراءة الصحف وإجراء الحوارات المملة خلال زمن البث الثمين. رأيت كاتباً صحفياً ألزمه فرمان حزبي بعرض مقالاته كلها قبل نشرها على أحد قيادات الحزب. أليست هذه هي الرقابة القبلية ذاتها التي يشكو منها الناس في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة؟ الحكومة تعتقل المواطنين ثم تعذبهم (في بعض الأحيان) دون مسوغات وخارج النظام القضائي والمعارضة تعذب المواطنين قبل إيداعهم في المعتقلات. الحكومة متهمة بأنها غرست مسماراً في رأس خصم سياسي قبل سنوات والمعارضة متهمة كذلك بأنها غرست جملة من المسامير في رأس حليف سياسي (وليس خصماً). الحكومة متهمة بأن قادتها مفسدون في المال والمعارضة فيها رموز جنوا من المال في خمس سنوات ما عجز عتاة المفسدين الحكوميين عن جنيه في ربع قرن. ساسة حكوميون ينقبون عن الذهب بشكل عشوائي ومعارضون يفعلون ذات الشيء بذات الأدوات. الحكومة متهمة بممارسة القتل على أسس عنصرية والمعارضة كذلك متهمة بذات الممارسة (يمكن الحصول على امثلة من مناطق النيل الأزرق). الحكومة توظف قادة (ذوي حظ متدن من التحصيل والمعرفة) في وظائفها العليا وكذلك تفعل المعارضة. الحكومة تخلق لطالبي الوظائف والمشاغبين مناصب وهمية مثل الخبير الوطني والمستشار والقيادي وغيرها فيما بلغت الحركات المعارضة شأواً لم تسبقها عليه حتى الحركات المعارضة الأبدية مثل حركة فارك الكولمبية أو حزب العمال الكردستاني إذ حمل أحد قادة إحدى قوى المعارضة السودانية لقب نائب رئيس حركة (...) لشئون التعليم العالى والبحث العلمى! بحث علمي؟ هذا الحديث أو الكشف عن سوءات المعارضة وعدم منحها أية قدسية تحت دعاوى المقاومة ليس جديداً ولا مبتكراً بيد انه نادر إذ يقع كله خارج فضاء السلامة (الأيسر والأكثر ربحاً) كما اشار بورديو في الإقتباس المنقول عن كتابه (بعبارة أخرى أو In other words). بهذا المعنى فإن الإجتهاد الذي أقوم بتقديمه هنا لا يحتفي بالسلامة ولا ينشغل بها بقدر ما يحتفي بضرورة الإتساق مع الذات. ما هذه الورطة؟ إذا صمتنا عن كل شيء سوى أننا نطالب بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والعيش الكريم قال عنا بيير بورديو إننا نقف في المكان الأسهل والأربح وإذا قلنا إننا لا نريد الديمقراطية، ولا الحرية، ولا حقوق الإنسان، ولا العيش الكريم وجه تيمور كوران3أسهمه نحو وجوهنا بإعتبار أننا نزيف في أفضلياتنا ونقع بالتالي تحت طائلة نظريته القائلة ب: الPreference falsification . نحن مضطرون –للأسف- الى تزييف اختياراتنا إذ نتقاعس عن المساهمة في اسقاط الحكومة الحالية ونحسب –صادقين- أننا نعمل صالحاً، لكن من منا لا يزيف اختياراته؟ (3) قبل خمسة عشر عاماً كان كاتب هذا الإجتهاد يقف في الفضاء السهل والرابح إياه (على وعورة مسالكه) حيث كان ينشد الحرية والديمقراطية والتغيير وسائر الفضائل التي ينشدها المقاوم النقي. تدربت ضمن قوات المعارضة عدة اشهر ثم حملت بطانيتي وسلاحي بغية تحقيق ما كنت أتوق اليه. بقيت هناك عدة سنوات دون أن يلوح في الأفق ما يشي بأن شيئاً مما كنا نحلم بتحقيقه سيكون لسبب بسيط هو أنني بدأت أحس بأننا لا نقل سوءاً في الواقع من خصومنا. كانوا يعذبون السجناء في بيوت الأشباح، فيما يحلم سجناؤنا بالسجن طول العمر في بيوت الأشباح تلك. رأيت رفاقاً قطعت ايديهم من جراء الإفراط في ربطة (الطيارة قامت) التي ظلت المشترك الأعظم بين عسكريي الطرفين. غاب بعض الرفاق دون أن نعثر على ما يمكننا من اقتفاء آثارهم للأبد ونقل اليّ صديق مقرب أن (فلاناً) حين أخرج من السجن تحت-الأرضي تغضن جلده حتى تكاد تحس أن بامكانك تمزيقه (الجلد/ أو الصديق لا فرق) باللمس المجرد. سجان هذا الصديق لا يزال قائداً رفيعاً في المعارضة. لم تبلغني وقتها، على أية حال، حكمة جين شارب القائلة : اللجوء الى وضع الثقة في أساليب العنف إنما يعني استخدام اسلوب للنضال يتميز الطغاة دائماً بالتفوق فيه (من الدكتاتورية الى الديمقراطية، مؤسسة ألبرت إينشتاين). هذا مشهد فاجع! أكثر الإفتراضات تفاؤلاً وحياداً قد تقول بأنه بالنسبة للمواطن لا فرق جوهري إن حكم البشير أو مالك عقار لكن قد تكون هناك فوارق نوعية: سيكون جبريل ابراهيم في مكان علي عثمان محمد طه، وعبدالعزيز الحلو في مكتب عبدالرحيم محمد حسين، ومني أركو مناوي في مكان نافع علي نافع، وياسر عرمان في مكان غازي صلاح الدين أو عبدالله علي مسار، وعبدالمنعم الجاك بديلاً لإسحق أحمد فضل الله! لن يمضي علينا وقت على الإطلاق دون أن نحصل على بديل من الضفة الأخرى ل(الطيب مصطفى ، وقيقم، عبدالحي يوسف) وغيرهم مع الإحترام. الفرق سيكون في واشنطن: هل ستعتبر الدكتاتور دكتاتورها الحبيب (مثل أوبيانغ) أم ستعتبره دكتاتور العدو (مثل أحمدي نجاد)! الحقيقة هذه الحكومة المتخيلة لن تنشأ لسبب بسيط هو أن (العرب) سيرفضون حكومة (العجم) المقبلة ولديهم من الوسائل ما يكفي لمقاومتها واسقاطها. العرب في مثلث عبدالرحيم حمدي الذي نال الكثير من حظ التشنيع والمعاداة يظل حقيقة قائمة وسواء حمل هذا المثلث السلاح أم لم يحمله فإنه قادر تماماً على اسقاط أية حكومة لا تمثله. الحكومة المتخيلة إياها لن تنشأ لأسباب كثيرة أخرى منها قصر نفس جوبا عن الإستمرار في معركة طويلة من هذا النوع، وعجز عارضة قادة المعارضة الحالية بقدراتهم المشابهة لقدرات قادة الحكومة على إقناع الجماهير هنا، وصناع القرار هناك في واشنطن والعواصم الغربية بمساندتهم. (4) الآن الحكومة هي حكومة المؤتمر الوطني وحلفائه الأصغر، والمعارضة هي معارضة جبهة كاودا زائداً المؤتمر الوطني. البقية الباقية من القوى السياسية الأخرى يمكن إدراجها، إذا توفرت طيبة الخاطر، في الأغلبية الصامتة وهذا ليس تشنيعاً بها بقدر ما هو توصيف لحالتها. الحكومة تملك التلفزيونات والإذاعات والصحف والمواقع على الإنترنت والمعارضة لا تملك شيئاً من هذا. الحقيقة ان ما تملكه الحكومة من وسائل إعلام مخجل للغاية والدكتاتورية التي تتجلى فيها شبيهة بتلك الدكتاتورية النقية من كل شائبة والتي تمارس في كوريا الشمالية فقط في عالمنا الحالي. القراءة بالعين السياسية المجردة تقول أن احتمال سيطرة المعارضة على السلطة يظل راجحاً بنسبة 50% وهو ما يعني خروج الحكومة الحالية الى المعارضة الأمر الذي سيخلق وضعاً أشبه بالوضع الحالي، في أكثر التنبؤات تفاؤلاً. حين نمضي قليلاً في اغماض العينين ورؤية المستقبل سنرى تحالف مروي يشن الحرب على حكومة كاودا وسنرى علي كرتي، ومحمد عطا، وصلاح قوش، وعبدالرحيم محمد حسين مثلاً يقودون الكتائب المهاجمة للمنشآت الإستراتيجية بينما سنرى مالك عقار في افتتاح مشروع تعلية سد الروصيرص يتفاعل مع هتاف جماهيره الصارخ (الرد بالسد..) ستتناسل دورات التاريخ الى ما لا نهاية. بلغة أخرى إذا كانت الحكومة مجنونة والمعارضة مجنونة فما هو احتمال الحصول على دولة عاقلة؟ نظرية الإحتمالات تقول بسقوط قطعة النقود المعدنية ملك أو كتابة فماذا إذا سقطت قطعة النقود إياها على رأسها وتركت الملك والكتابة على الجانبين؟ بعبارة أخرى ماذا إذا قيض الله لنا أن نحصل على حكومة عاقلة يرأسها أحدكم –أيها الجمع الكريم- وتتشكل من حضراتكم قادة الرأي والمعرفة هنا في هذه القاعة العامرة؟ اعتقد أن هذه ستكون أعقل حكومة ممكنة بعد إضافة السيدين مبارك الفاضل المهدي والحسن الميرغني اليها (بالمناسبة كنت أتمنى لو كانا معنا في هذه القاعة طمعاً في تنزيلهما الى مستوى التحاور مع الشعب، وأملاً في ترفيعهما الى مستوى الإنشغال العامل بهموم الشعب). هذه الحكومة، أي الحكومة العاقلة، لن تعيش يوماً واحداً- للأسف- لأن أياً من تحالف مروي أو تحالف كاودا قادر على اسقاطها بالضربة القاضية أما إذا شكل التحالفان تحالفاً جديداً أسموه المساومة التاريخية على برنامج حد أدنى يهدف الى اسقاط الحكومة (العاقلة) وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية تحت إشراف مجلس قيادة الثورة الجديد الذي يقوده المشير عمر البشير ونائبه الفريق (سيصير فريقاً أول حينها) مالك عقار، فالبقاء لله وحده. هذه مأساتنا التي كتب ملمحاً اليها في روايته العظيمة (كائن لا تحتمل خفته): "ومهما تكن الحياة فظيعة أو جميلة أو رائعة فإن هذه الفظاعة وهذا الجمال وهذه الروعة لا تعني شيئاً . هي غير ذات أهمية مثل حرب وقعت في القرن الرابع عشر بين مملكتين أفريقيتين فما غيرت شيئاً في وجه التاريخ، مع أن ثلاثمائة ألف زنجي لاقوا فيها حتفهم وفي عذابات تفوق الوصف". أكثر ما في هذا المقطع أسى هو أن ذات المقطع ورد في النص الإنجليزي وكان عدد القتلى هناك مائة ألف فقط. لعل المترجمة رأت أن عدد المائة ألف قتيل أفريقي ليس قادراً بدرجة كافية على إثارة مشاعر القاريء في النسخة العربية! لا أحد به حاجة وقف القتل والفظاعات في بلادنا، لكن كثيرين بحاجة الى استمرار تلك الفظاعات لكي تتجلى انسانيتهم ولكي يجدوا في مأساتنا المستمرة مطهراً للذنوب بإظهار التعاطف والتبرع بالأطعمة غير المغذية، والمطارف والحشايا الخشنة ، والملابس المستعملة، والأقمار الصناعية (كما في حالة جورج كلوني) وكلما زاد صراخنا كلما تجلت إنسانيتهم أكثر! إن حصولنا على أي تعاطف مرهون بزيادة آلامنا وهذا التناسب الطردي المؤسف بين آلامنا وإنسانيتهم هو ما يجعل الفظاعة في حياتنا أمراً أبدياً! أفق البلاد الآن في حالة انسداد كامل وإمكانات الخروج السلس من الأزمة ليست في الحسبان، على الأقل في الوقت الراهن! وبعد هذا هو الحال ولا أدعي بأنني قادر ، بشكل نقي، على رسم طريق الحل، شكراً. 1 “It'sso easy and so profitable to pose as the defender of fine feelings andgood causes- art, freedom, virtue, disinterestedness- against someonewho can be accused with impunity of hating them because he unveils, without even appearing to deplore the fact, all that it is a point ofhonour for the believer to conceal" Piere Bourdieu 2قال النائب الأول في خطاب أمام البرلمان إن حكومته تمنع توريد الأغذية لجمهورية جنوب السودان وإن تعليماتهم للقوات النظامية هناك أن يقوموا بضرب وقتل مهربي الأغذية " تعليماتنا (Shoot to kill) لكل من يحاول تهريب المؤن للجنوب". هكذا يمكن لرجل القانون بكل سهولة أن يرفض الإحتكام للقانون لأن السلطة كلها بما فيها سلطة اصدار القوانين بيديه. 3 عالم تركي وبروفيسور في الإقتصاد والعلوم السياسية كتب كثيراً عن إخفاء الإفراد لرغباتهم الحقيقية وابداء رغبات أخرى غير حقيقية بغرض مسايرة الرغبات العلنية الجماعية والخشية من مواجهتها وقد صدر له عام 1995 كتاب (حقائق سرية- أكاذيب علنية) بالإنجليزية. بالإستعانة بنظرة كوران نستطيع القول بأن طرفا الصراع في السودان يزيفان رغباتهما في العلن فيما يضمران رؤى أخرى ليس من بينها تحقيق السلام أو الديمقراطية أو اعلاء قيم حقوق الإنسان وحرية التعبير.