انقضي عام منذ الإعلان الرسمي لانشطار شطري السودان لدولتين في التاسع من يوليو إنفاذاً لاختيار الشعب الجنوبي لخيار الاستقلال لبلادهم وتأسيس دولتهم الخاصة بهم بعد أكثر من نصف قرن على انعقاد مؤتمر جوبا في اربعينيات القرن الماضي الذي اختار فيه ممثلو الجنوب الانضمام لنظرائهم بالشمال في وطن واحد. على خلاف تحليلات توقعت أن يفضي تحقيق الانفصال لمعالجة حالة الاحتقان التاريخي بين شطري السودان، إلا أن النتائج على الأرض كانت تشيير لمعطيات مختلفة باستمرار حالة التشاكس وعدم الثقة بين قيادة الشطرين التي لازمت مسيرة السنوات الست لتطبيق اتفاق السلام الشامل. إطلالة شبح الحرب لم يكن سيناريو انزلاق البلدين لاتون الحرب المباشرة بينهما مستبعداً، إلا أن الترجيح الأكبر تركز في خوضهما لها بطرق غير مباشرة عن طريق دعم المجموعات المعارضة للطرف الثاني حيث ظل البلدين يكيلان الاتهامات لبعضهما بأيواء ودعم المجموعات المعارضة المسلحة للطرف الآخر قبل تنظيم استفتاء الجنوب أوائل العام الماضي. عقب ظهور نتيجة الاستفتاء بتصويت الناخبين لمصلحة استقلال الجنوب تزايدت وتيرة الاتهامات بين الخرطوموجوبا،، إلا أن الخلاف حول كيفية معالجة أوضاع منسوبي الجيش الشعبي بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ظل النقطة الأكثر تعقيداً بين الشطرين فالأولى تطالب بسحب تلك القوات وتسليم سلاحها أسوة بالإجراءات التي تمت حيال منسوبي الجنوب في القوات النظامية السودانية أو سحب تلك القوات بالكامل واستيعابها ضمن الجيش الشعبي، فيما ترى الثانية أنها فكت ارتباطها السياسي والتنظيمي والعسكري بمنسوبي الحركة الشعبية المدنيين والسياسيين عقب ظهور نتائج الاستفتاء التي مهدت الطريق أمام تحقيق استقلال دولة الجنوب. الخلاف حول هذه الجزئية مثل الأرضية الأساسية التي أفضت لانفجار الأوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وإطلالة شبح الحرب مجدداً فيهما، أما بقية القضايا – كنتائج الانتخابات التكميلية في ولاية جنوب كردفان وغيرها- عوامل مساعدة لاشتعال حريق الحرب مجدداً فيهما. صدام مباشر منذ تشكيل جبهة القوي الثورية التي ضمت الحركة الشعبية قطاع الشمال والحركات الدارفورية المسلحة وتوجيه الخرطوم لأصابع الاتهام لجارها الجنوبي بالوقوف خلف هذه الخطوة ودعمها بدأ واضحاً أن مسار العلاقات بين الشطرين تتجه نحو التصعيد وربما تقترب من لحظة الاصطدام، ولعل ما عزز هذا التحليل هو تزايد اللغة التصعيدية بين البلدين مع وجود حالة انسداد سياسي بينهما جراء عدم إحداث أي اختراق مباشر بينهما في مباحثاتهما المشتركة حيال القضايا العالقة، وبعد فشل لقاء القمة الرئاسية بين رئيسي البلدين في أديس أبابا وما تلاها من تصاعد اللغة العدائية بينهما باتت الأنظار تترقب لحظة الصدام المباشر بين البلدين. لم يطول الانتظار كثيراً، إذ تسمر المجتمعين الاقليمي والدولي وذهلا جراء مشاهدتهما ومتابعتهما لانزلاق البلدين في أتون الحرب المباشرة باحتلال قوات الجنوب لمنطقة هجليج النفطية قبل أن تنجح القوات النظامية والجيش السوداني من إعادة تحريرها مجدداً. ولعل هذا الأمر هو الذي مهد الطريق أمام المجتمعين الإقليمي والدولي للتدخل في مسار المباحثات المشتركة بين البلدين والذي بلغ ذروته بإصدار مجلس الأمن الدولي في مايو الماضي لقراره رقم 2046 حدد فيه لشطري السودان سقفاً زمنياً لإكمال مفاوضاتهما حيال أربع قضايا أساسية وهي (الحدود، أوضاع المواطنين في الدولتين، النفط وأبيي). صراع الاقتصاد ظل النفط يمثل العصب الأساسي لإيرادات دولة الوحدة وموردها الرئيسي من العملات الحرة خلال الفترة التي تلت التوقيع على اتفاق السلام الشامل وحتى آخر ميزاينة أعدت قبل استقلال الجنوب، واتسم قطاع النفط في البلدين بأمر أساسي وهو وجود معظم الحقول المنتجة ضمن حدود الشطر الجنوبي فيما تتمركز مواقع التصدير في الشطر الشمالي على شواطئ البحر الأحمر نظراً لكون الجنوب دولة حبيسة بلا مرافئ على البحار أو المحيطات التي تسهل لها استقبال السلع المستوردة وتسويق سلعها للخارج. هذه الوضعية زادت مساحة التفاؤول بإمكانية أن يكون النفط عنصر تعاون بين الشطرين نظراً لاعتمادهما على عائداته بشكل كبير وأساسي، ولعل أسوأ السيناريوهات توقعت أن يحرص البلدان على الإسراع بمعالجة هذه القضية بغض النظر عن مقدار التقدم أو التعثر في بقية القضايا. بدلاً من توظيف النفط استناداً على ارتباطه المباشر بالأوضاع الاقتصادية للبلدين في تعزيز التعاون، تم زج به في اتون الصراع المباشر بين البلدين وانتهي الخلاف حوله بإعلان جوبا وقفها لإنتاج النفط وضخه وتصديره عبر الموانئ السودانية، وهو إجراء الهدف الأساسي المقصود منه زيادة ومراكمة الضغوط الاقتصادية على جارها الشمالي مع انتظار ردود الناتج السياسي لتلك الضغوط السياسية وإمكانية أن تفضي لإحداث تغييرات سياسية شمالاً. لكن حسابات جوبا تلك أسقطت النتائج والإفرازات المترتبة عليها جراء تلك الإجراءات بفقدانها ل98% من إيرادتها وهو ما دفعها لاتخاذ تدابير اقتصادية أفضت لزيادة الرسوم والضرائب وهو ما أفضى بدوره لزيادة التضخم وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، مع وجود ندرة في المشتقات البترولية التي شهدت أسعارها ارتفاعاً غير مسبوق في مدن الجنوب الكبرى. لجأ شطرا السودان خلال العام الأول لاستقلال الجنوب لاستخدام وتوظيف العديد من المعطيات الاقتصادية في خضم صراعهما السياسي لعل أبرزها ما ظهر في الاسبوع الأول لإعلان استقلال الدولة الوليدة بإعلان جوبا تدشين عملتها الجديدة على الرغم من وجود اتفاق مسبق بين البلدين على إقرار العملة الموحدة بينهما، وما تلاها من إعلان الخرطوم إجراء مماثلا. تناسل القضايا الخلافية أثرت حالة عدم الثقة على مسار المباحثات بين البلدين ولعل هذا الأمر هو المبرر للجنوح لتكتكيات (السقوف التفاوضية العليا) عبر لجوء جوبا ل(تناسل القضايا الخلافية) وتفريعها بغرض تحقيق قدر أكبر من المكاسب عن طريق دفع الطرف الآخر لتقديم تنازلات في مواضع تكون عملياً مكاسب في مصلحة الطرف الثاني. يعتبر الخلاف على ترسيم الحدود بين الشطرين هو أبلغ الشواهد والنماذج حينما أضافت جوبا 6 مناطق إضافية في جولة مفاوضات أديس أبابا خلاف المناطق الأربعة السابقة ليرتفع العدد الإجمالي على المناطق المختلف حولها ل10 مناطق. مؤشرات المستقبل قد يكون التساؤل المطروح الآن متصلا بمؤشرات ومسار العلاقات بين البلدين مستقبلاً خاصة فيما يتصل بإمكانية إحداثهما لاختراق سياسي يفضي لمعالجة القضايا العالقة بينهما. فبافتراض ثبات الأوضاع السياسية الراهنة في كلا الشطرين وطبقاً للمعطيات الآنية التي باتت تشيير لوجود تعثر ملموس في المباحثات بين البلدين من خلال إصرار كل طرف على تحميل نظيره مسؤولية عرقلة مسار المفاوضات، فإن أقرب السيناريوهات المتوقع حدوثها هو تسارع وتيرة الحراك الإقليمي بغرض إحداث اختراق رئيسي في مجال المفاوضات ولعل من نماذج تلك التحركات ما يتردد حالياً عن بروز اتجاه لعقد قمة رئاسية لرئيسي البلدين خلال مشاركتهما في أعمال قمة الاتحاد الإفريقي القادمة بأديس أبابا. استمرار حالة الجمود والتعثر في المفاوضات بين البلدين وعدم نجاح التحركات الاقليمية في إحداث أي اختراق سيترتب عليه ظهور مجلس الأمن استناداً للقرار 2046 على مسرح الأحداث بغية إحداث اختراق في الملفات العالقة، مع ضرورة الإشارة هنا لوجود نقطة أساسية تتعلق بهذا الإجراء وهو تقديمه بوصفه قرار إقليمي صادر ونابع من الاتحاد الإفريقي –كما حدث في القرار 2046 الذي قدمته الولاياتالمتحدةالامريكية والذي لم يكن سوى نسخة مطابقة لقرار مجلس السلم والأمن الإفريقي- بهدف تحجيم وإضعاف أي مقاومة لروسيا أو الصين منه مما يمهد الطريق أمام إجازته. تبقى النقطة الأساسية مستقبلاً التي لن يكون حولها خلاف أو جدال تنحصر في عدم سماح المجتمعين الاقليمي والدولي لشطري السودان للانزلاق في أتون الحرب مجدداً وإعادة إنتاج ما حدث في منطقة هجليج قبل عدة أشهر.