عندما عاد الشريف زين العابدين الهندى إلى البلاد فى العام 1997م بعد غياب دام ثماني سنوات فى الجارة العزيزة القاهرة معتصراً فيها المر والشوق والحنين وحاملاً لهموم هذا الوطن بين طيات قلبه المكلوم بحبه والمتيم بعشقه، جاء حاملاً المبادرة آملاً ومتمنياً أن تكون الطريق الأخضر والأخير نحو ديمقراطية ثابتة تُنحت فى الصخور والقلوب وتمتد عقود وقرون، وضع فيها عصارة خبرته وحنكته ودرايته النافذة بمستقبل ومتطلبات السودان السياسي فى السنوات القادمة وما يحيط به من أخطار داخلية وخارجية وحثه على ضرورة جلوس كافة الأحزاب السياسية على منضدة واحدة يتساوى فيها الحاكم والمعارض، نادى فيها بالشراكة فى الرأي والمشورة والإتفاق على عمل وطنى ليس بالضرورة معرفة من منفذها ولكن الأهم أن يتم تنفيذها كما هي وأن تتنزل على أرض الواقع كما جاء بها صاحبها وإذا أراد الحزب الحاكم أن يقع عليه عبء ذلك طائعاً مختاراً فقد أراح الجميع من المسئولية وسؤال يوم القيامة وليضرب البقية الأرض كلٌ فى مجاله عمراناً وبناءً وتطوراً، قال الشريف زين العابدين عن المبادرة فى الليلة الشهيرة التى كرم فيها الراحل فيصل بله رحمهما الله جميعاً قال (عندما جاء السيد رئيس الجمهورية فى مؤتمر القمة العربى فى القاهرة وذهبت إليه وجدت رجلاً يذكرنى بأهلى وليس على وجهه قناع من الهيبة المصطنعة، وفى عينيه وداعة وليس فيهما غلظة، وفى شفتيه إبتسامة وفى أحضانه دفء ويتحدث إلي حديث المواطن المُتعَب الذى ينوء بحمله المتعِب ولكنه يحمله بصبر ويحمله بجلد ويتشوق إلى الذين يريدون أن يقفوا معه هذا الموقف لإعادة بناء الوطن وإعادة بناء أبناء هذا الوطن وأشخاصه وإقتصاده وحياته ومستقبله وجاء حاملاً المبادرة قبل أن آتى أنا وقبل أن يأتى أحمد بلال فى وفد المقدمة، جاء يحملها السيد الرئيس وليس هذا سرا أذيعه ولكنه لم تتسع دائرة العلم به إلا الآن، وكانت المبادرة بينى وبينه عهد وميثاق ووعد يربط الرجال وإرتبط بها بإسمكم جميعاً إتحاديين وحزب أمة وشيوعيين وبعثيين وناصريين وقوميين عرب). هذا ما قاله الشريف زين العابدين فى تلك الليلة بالنص وبمراقبة سير المبادرة منذ ذلك الحين أي بعد وصول الشريف زين العابدين إلى البلاد أقول أنها سارت بصورة صحيحة ونفذ السيد الرئيس العهد والوعد وفتح المجال للأحزاب وتوسع فضاء الرأى والإعتراض وأنشأت ثورة الإنقاذ حزب المؤتمر الوطني تعبيراً على إقدامهم لممارسة الحياة السياسية الديمقراطية بل وتم تعيين الشريف زين العابدين نائباً لرئيسه ولكنه إعتذر إعتذاراً جميلاً. وصل الشريف زين العابدين بهذه المبادرة إلى مبتغاه بالحوار والإقناع والجلوس مع ذوي الآراء المتنافرة فى سابقة تعد الأولى وتعتبر الأسلم والأنجح لأنها تتم دون عراك أو إراقة نقطة دم واحدة الشئ الذى يؤهل هذه المبادرة بأن تكون منهجاً رئيسياً لثقافة الحوار وتدرس فى الجامعات وكليات العلوم السياسية وطاف الشريف بها كافة ولايات السودان وأرسل رسلاً إلى المناطق التى تعذر وصوله لها وكانت فتحاً ديمقراطياً حقيقياً عاونه فيه المؤتمر الوطنى خير العون وهذا ما أسمية المبادرة الأصلية. مرت السنوات الأربع من عمر المبادرة كما يحب ويشتهى صاحبها ولكن جاءت الطامة الكبرى فى العام 2001م وهو عام المشاركة فى هذا العام ظهرت وبانت نوايا قيادات المبادرة الذين مالت قلوبهم وتبللت أشداقهم وركضت أرجلهم نحو المشاركة التى رفضها الشريف زين العابدين منذ وصوله، أولهم جلال الدقير الذى إرتمى فى أحضان الإنقاذ قبل المبادرة والذى لم ينتظر المبادرة أصلاً فقد عاد إلى السودان فى 1996م بالتنسيق مع المحبوب عبد السلام رجل الدولة آنذاك وتربطهم علاقة قديمة فى مناطق نشأتهم حيث أوهمهم بأنه يستطيع إقناع السيد محمد عثمان الميرغنى بالعودة ولوحوا له بوزارة الدولة بالصحة وسال لعابه وعاد دون حتى أن يخبر من معه فى الغربة ولا حتى صديقيه الحميمين صديق الهندى والسمانى الوسيلة إلا قبل ساعات من إقلاع الطائرة حيث قالوا له (كيف ستعود؟؟ ستقبض عليك الحكومة فى المطار)، فرد رد الواثق من نفسه (ما تخافوا... أنا مظبط أمورى)، أما الآخر فهو الدكتور أحمد بلال الذي أصر على المشاركة بصورة غريبة ومريبة لأسبابه الخاصة وحتى يكون المنصب الذى سيتولاه درعاً متيناً يحول بينه وبين المشاكل التى فى الأصل كانت سبباً فى مغادرته البلاد وتمت المشاركة نزولاً لرغبة الإثنين ساعدهما فى ذلك أشباههما الذين صوتوا لقرار المشاركة بأغلبية كاسحة وكان الشريف مع القلة الذين لم يصوتوا لها وصار هؤلاء هم المتحدثين والمسيطرين على شئون الحزب عبر بلاط السلطة. وبعدها حدثت الطامة وإختلط الحابل بالنابل وتبدلت أحوال الحزب من سئ إلى أسوأ وإستولى المؤتمر الوطنى على غنائم المبادرة فكون بموجبها أقوى حزب فى السودان وصارت الأحزاب التى تلت بعد الإتحادى المسجل تأخذ الفتافيت من السلطة والمناصب لا تقل عن فتافيت الإتحادى فى شئ، وجاءت السيطرة الكاملة من جلال الدقير على كافة مفاصل ومؤسسات الحزب بعد قيام المؤتمر العام فى العام 2003م عندما أدخل بالحافلات ليلاً خمسمائة شخص فى أرض المعسكرات بسوبا حيث تسببوا فى المجئ به أميناً عاماً، ويقال أن الشريف زين العابدين كان يريد ذلك والدليل هو انه عينه نائباً للأمين العام وأن المؤتمر رضخ لتلك الإرادة، ولكن أنا أستغرب هذا الشئ لما نعلمه جميعاً على الشريف زين العابدين فى ممارسته للسياسة كما هي، على العموم إستسلمنا للأمر الواقع لنرى ماذا ستخبئ الأيام ومن المحتمل أن يأتى الرجل بما يفحم به الجميع ويحرج سوء ظنهم به بالعمل التنظيمى الجاد والمتواصل مع الإحتفاظ بهيبة الحزب داخل الحكومة ذلك المارد الذى يكبر يوماً بعد يوم والذى قصد تفتيت الأحزاب بأمثال هؤلاء ولكن جاء أخونا بخفي حنين أو الأصح أن الرجل لم يأت بخف ومثلما تقول خالتى (بت وهب) عندما ترسلك إلى مكان وتعود إليها خائباً (تمشى ورق وتجى قرطاس)، أصحابنا دخلوا الحكومة ورق وجو قرطاس ومثلهم مثل الحزب الحاكم كل يبحث عن منفعته الخاصة ولكن الحزب الحاكم لم يقصر فى واجبات حزبه ولا أعضائه (وجماعتنا كل زول شغال لى حلقومو)، وقبل رحيل الشريف نشأ خلاف حاد وإنقسم الناس إلى قسمين قسم ينادى بالإصلاح ويدعو إلى القيام ضد جلال مطالبين بعزله وتقوده إشراقة سيد محمود يأياأوفريق آخر مع جلال الدقير يزعم أن المؤسسة هى الوحيدة التى تستطيع عزله مثلما أتت به، ورحل الشريف وتحول الجميع مع جلال وصار البعيد قريباً والبغيض حبيباً والقبيح جميلاً طمعاً فى سلطة أو حفاظا على منصب إلى يومنا هذا ومات الحزب موت السنين وصار مسخاً تلوكه الأصوات عبر ألسن الإستهزاء والهوان وهذا ما أسميه بالمبادرة المزيفة، إلى أن جاء تيار الإصلاح ليزيح عنه الغبار النتن ويكون الحركة الإتحادية التى تضم الشرفاء والذين سجلوا موقفاً سياسياً سيحفظه لهم التاريخ. * الحزب الإتحادى الديمقراطى