تزور لندن فلا ترى فيها تغيُّراً مما يترك انطباعاً بتأثير العولمة، فرغم عشق الإنجليزي الهوسي للأصالة والمحافظة فإن عاصمتهم العريقة كانت مجبرة منذ سنوات ما بعد الاستعمار الأولى على قبول أشكال البشر وألوانهم من أبناء المستعمرات الإنجليزية كالهنود، أوحتى من غيرهم كالصينيين، وذلك نزولاً على أخلاقيات النظام الديموقراطي الذي تراه الصفوة منهم اختراعاً إنجليزياً صرفاً. في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكطقس مكمِّل لبرنامج تدريبي فني في نيوكاسل كانت رحلة نهاية الأسبوع إلى العاصمة العريقة، ولأن أصول الضيافة الإنجليزية لا تستوجب إرسال الضيوف في سيارة خاصة أو حتى تضمن لهم مرافقاً مرشداً في رحلة بالقطار، ظل ريغ المهندس العجوز يحذر متدربيه من خطورة أن يسألوا المارة في لندن عن الطريق إذا ضلوا وجهتهم لأحد المعالم اللندنية لأن "كل الناس هناك أجانب.. الإنجليز تركوا لندن ونزحوا للمدن الأخرى والأرياف"، ولأن ريغ رجل بالغ التهذيب لم يشأ أن يكمل " لقد تركناها للدخلاء من ذويكم". ولكن للدخلاء رأياً آخر، ففي منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة وفي نيوكاسل نفسها ظل صاحب مطعم هندي يردِّد فخوراً بجودة الطعام الذي يلتهمه روّاد المطعم الإنجليز بتلذذ :" ليس لهؤلاء الناس طعام مميَّز، لذلك يستعينون بنا لنقدِّم لهم أطباقنا الخاصة جداً"، ولكن يبقى سؤال ريغ الذي لم يطرحه مباشرة قبل سنوات قائماً :" ماذا يفعل كل هؤلاء البشر من غير الإنجليز المقيمين في لندن؟"، فالمؤكد أنه ليس لدى كلٍّ منهم شيء خاص يودّ تقديمه للإنجليز وليس في وسع الأخيرين صنعه. الإمبراطورية التي حكمت معظم مستعمرات العالم قبل عقود لا ريب ستكون الأكثر إثارة للآخرين من المحكومين أو التابعين - أو حتى المنافسين الأقل حظاً – لرؤيتها وربما الإقامة فيها، وعلى هذا يمكن أن ننظر باستغراب أقل إلى جحافل الدخلاء الذين تمور بهم إنجلتراولندن تحديداً، حتى إذا لم يكن ريغ يشاركنا الرأي. لعل لندن هي العاصمة التي تفوق بلدها شهرة، ففي خواطر العوام ثمة "الإنجليز" و "الإنجليزي" عندما يتعلّق الأمر بشخص أو شيء يمت إلى تلك البلاد بصلة، أما البلاد نفسها فقلّما يشير إليها العامة من أبناء العالم – الثالث خصوصاً- بإنجلترا أو بريطانيا أو المملكة المتحدة، إنها لندن قبل أي اسم آخر. ولندن من المدن العريقة التي لا تخذل عشَّاق الذكريات لأنها لا تتغيّر بسهولة، وإذا كان هذا هو حال سائر الحواضر الأوربية الكبيرة فإن للندن تحديداً إصراراً معروفاً على التشبث بالماضي ممثلاً في حافلاتها الحمراء وأكشاك التلفون من اللون ذاته وسيارات الأجرة السوداء قديمة الطراز، وقبل كل ذلك نظامها الملكي الذي يذكِّر بماضٍ مجيد لا يحب الإنجليز أن ينسوه للحظة. حسناً، هل بإمكان الإنجليز مع كل هذا الهوس بالأصالة والمحافظة أن يدّعوا حظاً وافراً من المشاركة الفاعلة في ابتداع العولمة؟ الواقع أنه لا إجابة لدى الإنجليز على هذا السؤال سوى نعم ونعم كبيرة، فطوال سيرتهم مع العصر الحديث كانت الأصالة والتقدُّم – التقني والفكري – مفهومين متصاحبين ، ولحل اللغز الذي يلوح في التعبير الأخير يمكن أن يقدِّم الإنجليز مثالاً بالتعاملات المالية التي تتم في عاصمة أوربا المصرفية الأولى وفق أحدث النظم العالمية المبتدَع كثيرٌ منها محليّاً، وذلك لا يستلزم بالطبع أن تلبس العملة المحليّة العريقة ثياب اليورو أو حتى تبدِّل شكلها ولونها بين الحين والآخر محتفظة بكنية " الإسترليني". لندن إذن تعرف جيداً كيف تعتلي رِكاب العولمة دون أن تفقد أصالتها، والعولمة ليست في النهاية سوى حداثة فكرية وتقنية عابرة للقارات، فتحتفظ برصيد المدينة الأوربية الأكثر جذباً للسياحة وبوضع اقتصادي وصناعي شديد التميُّز وبمواقف سياسية تضعها في خانة الحليف الأكبر لمبتدع العولمة وراعيها الأول. ولكن للإنجليز بوادر حسن نية من العيار الثقيل جديرة باهتمام خاص تثبت أن تعاطيهم العولمة ليس من موقع الأعلى كعباً فحسب، فهم على استعداد لأن يدفعوا فاتورة مستحقاتها كاملة متى تطلّب الأمر، فمن كان يصدِّق في زمن الاستعمار القريب جداً أن تتنازل إنجلترا عن معقلين لصناعة السيارات الإنجليزية الأصيلة - جاغوار و لاند روفر – لصالح تاتا الهندية؟ أفادت لندن - والإنجليز عامة - من العولمة أيّما إفادة، فالعولمة تنطلق من القيم الغربية في الحياة لتزيد تلك القيم ثباتاً في حياة العالم أجمع، والإنجليزية هل لغتها الأولى وتكاد تكون الحصرية، وإذا كانت شعوب العالم التي لا تتحدث الإنجليزية كلغة أم تضجر من ذلك، فلا شيء يُضجر الإنجليز بطبيعة الحال سوى أن إنجليزية العولمة هي في الغالب من طبعة العم سام. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته