"الإنسان لا يعرف قيمة الهدف إلا عندما يضل الطريق"، هذه مقولة حكيمة صائبة يفتقد اليها السودان الآن وبشدة، نعم نعترف وبأسى أن السودان منذ نشأة الدولة الوطنية بعد الاستقلال لم يعرف سياسات إستراتيجية واضحة الرؤية في كل المناحي إقتصادية كانت أم سياسية أو ادارية وكانت العشوائية والبدائية ابرز السمات في تسيير الدولة حتى فرخت المشاكل ازمات مزمنة كلما تطاولت السنين، وجربت في هذا الشعب الصابر كل النظرية الفكرية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين وطبقت فيه كل النظم السياسية من برلماني الى رئاسي مرورا بنظام الحزب الوحد وللأسف كل ذلك لم يجلب للسودان وشعبه الطيب أية تنمية أو تقدم أو استقرار بل على النقيض كلما تتقدم الأمم يزاد السودان تخلفا وفقرا وتمزقا "بكل تداوينا فلم يشف مابنا". ولكن ماحدث للدولة السودانية في عهد الإنقاذ وماهو متوقع حدوثه خصوصا بعد إتفاقية نيفاشا شئ يفوق التوقع بل ويعد زلزالا حقيقيا ضرب السودان شطره الى جزءين والله يستر لما تبقي منه، ثم جسمت القضايا العالقة وترتيبات مابعد الإنفصال على ما تبقى من السودان وشعبه وكلما ظن الشعب إن هناك ضوءا آخر النفق يجد نفسه في نفق لزج اشد ظلاما، والسبب بسيط وهو إن حكومة الانقاذ ليست لديها رؤية إستراتيجية واضحة المعالم لحل مشاكل السودان المستعصية، ولم تتعاط الحكومة مع الأزمات المتلاحقة بالجدية والمرونة المطلوبة وبعقول منفتحة، بل كانت دائما تستهل الحلول الأمنية والتي من المفروض أن تكون الحل الأخير، بعد ان تصل الحلول السياسية الطريق مسدود وكما يقول المثل الحكيم "آخر العلاج الكي" لذا كانت سياسة الإنقاذ منفرة طاردة لم تستطع ان توحد وتجمع أهل السودان لذا تنقلت وتكاثرت الأزمات مثل "الفيروسات" وحتى عندما يلجأ النظام الى الحلول السياسية والتفاوض تكون ثمارها اتفاقيات خبيثة مثل نيفاشا أو حلول سياسية فطرية مثل إتفاقيات أزمة دارفور العديدة والتي إلى الآن لم تجلب سلاما أو توقف حربا في دارفور بل واوقدت الحروب من جديد في النيل الأزرق وجنوب كردفان وهذه من نفحات نيفاشا علينا والتي اتضح انها تحتاج الى إتفاقيات لا يعلم عددها الا الله حتى نصل فقط الى هدنة. وللأسف الآن الدولة في حالة عجز سياسي تام وكل الحلول السياسية تأتي مستوردة من الخارج. هذا العجز السياسي ادى بدوره الى حالة العجز والتردي الإقتصادي التى نعيشها الآن أذ لا يخفى على أحد الترابط بين السياسة والإقتصاد وتأثير كل منهما على الآخر. منذ إستيلاء الإنقاذ على الحكم بالقوة كانت سياستها الإقتصادية متناقضة إذ انتهجت سياسة التحرير الإقتصادي ولكن لكي تحتكر نخبها الإقتصادية المتمكنة السوق الحر حتى إزدهرت كنبت شيطاني فقولوا لنا يا أهل الإقتصاد كيف يتماشى "التحرير مع الإحتكار" وفجرت الإنقاذ طاقات الشعب السوداني بالشعارات البراقة لكى ينتج في الزراعة والصناعة ولكنها تركته في منتصف الطريق وباعته عند أول قطرة نفط وعليه أهملت المواطن وصحته وتعليمه وزراعته وصناعته ووصل الحال بالإقتصاد السوداني بأن يعتمد على منتج وحيد وهو النفط ليصاب بالداء الهولندي وهذه غفلة قاتلة وقعت فيها الحكومة ونخبها إلاقتصاديه المتمكنة. ثم قال القرار السياسي كلمته بتقرير المصير للجنوبيين والذين صوتوا للإنفصال وبضربة واحدة خسر السودان اربعة اخماس نفطه ومعه مصدر دخله من العملات الصعبة وركيزة إقتصاده الوحيدة بعد إن كسرت الحكومة الإنقاذية وإقتصاديوها المتمكنون ركائز الإقتصاد الأخرى بتصميم ليخر السقف فوق رأس الشعب السوداني الصابر ليدفع ضريبة فئة انانية مكنت لنفسها من خيرات البلد على حسابه وليدفع ثمن عمى البصرية. وبعد أن اصبح العجز الإقتصادي ملموسا ودخل الغلاء كل بيت والغريب إن المواطن السوداني الطيب قد صبر ولكن الذي فقد صوابه وجزع من الغلاء هم دستوريو الحكومة وتجارها المتمكنون صناع الغلاء والفشل الإقتصادي الذي حل بالبلاد. لنرى ماذا فعلت تلك الفئة المتمكنة والتى اصابها الجزع مما جنته يداها وليقودنا هذا الى حالة العجز الإداري الذي نعايشه الآن، ولنتأمل في قرارات المسئولين وافعال التجار المتمكنين اولا: وزير المالية ينفذ قرار زيادة المحروقات قبل إجازته من قبل البرلمان، ثانيا: وزير الكهرباء والسدود يزيد تعريفة الكهرباء دون الرجوع حتى الى مجلس الولايات وزير المعادن يحذر الولاة من التعاقد مع الشركات الأجنبية دون الرجوع اليه، ثالثا: النائب الأول يدافع عن "التجنيب" وهو مصطلح إنقاذي ضال مثله مثل (التمكين والتوالي) والذي يعني فيما يعني الوزراء الذين ترصد لهم وزارة المالية ميزانية وزارتهم على شحها و(حرافة أو فهلولة) من الوزراء يجنبون جزءا من الميزانية المرصودة للوزارة على جنب الغرض من ذلك لا يعلمه المواطن اين تذهب تلك الأموال المجنبة عندما تأتي ميزانية السنة الجديدة كم تبلغ نسبة الأموال المجنبة؟ كل ذلك لا يعلمه إلا الله وسيادة الوزير المجنب لأموال دافعي الضرائب من الشعب والتي من المفترض أن تردها الدولة لهم في شكل خدمات وتنمية له لا أن تجنبها وتحرم منها صاحبها وهو المواطن وإذا اراد الوزير فيجنب من اسرته جزءا من مرتبه الخاص وليترك اموال الشعب للشعب، اما نوع التجنيب الآخر هناك بعض الوزارات تعطي ميزانيتها ولكنها خارج ولاية وزارة المالية بل حتى مجلس الوزراء والبرلمان اي لا تستطيع تلك المؤسسات مساءلتها وكأنها ملكية خاصة وليس وزارات تتبع للشعب ويمولها الشعب من إقتصاده وضرائبه، رابعا: الدولة تقول الأدوية معفاة من الجمارك ورغم ذلك تصرف الأدوية للصيدليات وبالتالي للمواطن وعليها ضريبة جمركية، ماذا يعني ذلك اما الدولة عجزت عن الوفاء بالتزاماتها او ان مافيا الأدوية سيطرتها اقوى من الدولة، ولنبقي في مصطلح المافيا والذي شاع وراج في الصحف هذه الأيام "مافيا السكر، مافيا الأدوية ومافيا الأسعار" ولنسأل أنفسنا من الذي يسيطر على سوق الأسعار وسوق الإستيراد والتصدير بل من يسيطر على كل السوق؟ اليس هم التجار المتمكنون والنخب المتمكنة اذن هم معروفون للشعب والحكومة، فلماذا لا تضرب الحكومة على ايديهم، وتترك لهم الحبل على الغارب، اللهم إلا إذا كانت أي الحكومة تغض الطرف برضاها أو انها لا تستطيع السيطرة عليهم وكبح جماحهم لضعفها وفي الحالتين هذا فشل إداري. إذن ماذا نسمي ما يحدث من قرارات فردية للوزراء والتذبذب في القرارت او الفوضى الإقتصادية والتي هي غير خلاقة بالمرة قلنا ماذا نسمي ذلك غير عجز إداري كنتيجة طبيعية للعجز السياسي والإقتصادي لنتساءل ما الذي اوصل الإمور الى هذا الدرك؟ بدون ادنى شك إنه غياب الرؤية والإستراتيجية والجمود والإستخفاف ببقية الشعب وهناك سبب قوي وهو عدم المحاسبة والمساءلة بل إن المسئول الذي يفشل فيما اوكل اليه ويتضجر منه الشعب ويفوح فشله في صحف يرقى الى أعلى المناصب. والآن البلاد بسبب إنعدام الرؤية تعيش في ظروف حالكة وفتن كقطع الليل الأسود لا تعرف كيف تخرج من شباكها.