صدقوني .. فأنا لا أصدق نفسي .. وقد كنت وقتها تلميذاً في مدرسة أرقو الوسطى .. يجلس على الأرض مع زمرة التلاميذ والمنصة أمامنا .. «بلا مايكرفونات» يتعاقب عليها .. المتحدثون .. في مناظرات شيقة .. يتجلى فيها نبوغ بعض التلاميذ المبكر.. وكان ابن الحاج محمد صالح عكاشة يتحدث بلغة .. وثقافة تكبره عمراً .. عليه رحمة الله .. وكان نجم المنصة الباهر دائماً .. شاباً .. باسماً صبوحاً .. مرتباً وأنيقاً .. وكان يتحدث بلغة منمقة جميلة زاخرة بالمعاني والأفكار .. تجعل الأساتذة .. يرمقونه بإعجاب .. ونحن التلاميذ .. «نفندق خشومنا» بالدهشة .. ولا نفهم إلا نذراً يسيراً مما يقال .. وكان صديقي إلى جواري .. يتمتم بالرطانة ما معناه .. انت شافع الجن ده .. بجيب الكلام ده من وين؟! وشافع الجن هذا .. هو الآن الصحفي العالمي السوداني المقيم في الولاياتالمتحدةالامريكية .. الأستاذ «علي صالح» .. واسمه في سجل مواليد أرقو .. هو محمد علي محمد صالح!! وعلى صالح .. هو الابن البكر لابيه .. وله أشقاء .. على رأسهم دفعتي رجل الأعمال المحسن .. ميرغني محمد صالح وعمر .. وغيرهم .. ولكن الشاب عثمان الأنيق المنظم المرتب المثقف .. يذكرني بشقيقه الأكبر علي .. نجم المنصة .. وصاحب الحديث الطلي المفيد المنمق.. وقلم الصحافة العالمية الذهبي !! عثمان محمد صالح .. هو في سن أكبر أبنائي .. وقد .. درج على زيارتي ومؤانستي .. في أماسي الدروشاب ومناقشتي .. فيما أكتب من كلام ساكت فارغ .. وقد لفت نظري باهتمامه .. وفهمه العميق .. لكتاباتي وتساؤلاته عن ما غمض فيها من معاني .. فسألته ذات يوم .. إنت بكل هذه الشعور المتوقد .. مالك لا تكتب تأسياً بأخيك «علي صالح» .. بل لماذا لم تكتب الشعر تأثراً بخالك محمد محمد صالح بركية .. أنت تحمل نفس الجينات الوراثية؟! .. فقال على استحياء أصدقك القول .. بأن لي «خربشات» كثيرة على الورق .. لم اطلع عليها أحد .. ولكني سأحضر اليك بعضها .. وغالباً ما ستنصحني بعدم محاولة الكتابة مرة أخرى!! وبالفعل أحضر لي الابن عثمان مجموعة من قصائده التى يحتفظ بها معلقاً عليها بتواضع شديد .. «هي بعض محاولاتي للتعبير عن دواخلي .. ولا اسميها شعراً .. لأن الشعراء اسمى مقاماً مما أنا فيه»!! عكفت على قصائده وقرأتها مثنى وثلاث ورباع.. وكنت أخرج منها كل مرة بانطباع واحد .. هو أن الوطن على موعد مع شاعر قادم من أرقو .. كما قدم من قبله حمزة المك .. وبركية .. والتجاني سعيد . ومحمد نجيب محمد علي .. وعلى يسن .. لأن صوته جديد جداً .. يذخر بالصور والرؤى الشعرية والمعاني البكر التي لم يحاولها من قبله شاعر.. أو يعبر عنها كما عبر هو .. ومعظم شعره ..إذا قرأته بتمعن .. لا يلبث أن يحملك على أجنحة الخيال .. ويطوف بك أنحاء أرقو .. وشوارعها ونخيلها ونيلها .. وملامح أهلها الطيبين وقد توقفت عند كل قصيدة كتبها وبالذات قصيدة «شيخ العيد» وهي قصيدة مرحة .. عن هذا الرجل الحداد الحقيقي في مدينة أرقو .. واستطاع في جلسة تأمل .. أن يرصد عشرات الشخوص الآخرين الحقيقيين المرتبطة أعمالهم .. بالرجل الحداد من مزارعين وجزارين .. وغيرهم ويرصد عشرات من البسطاء الذين حفروا أسماءهم في ذاكرة أرقو.. ولو أن ابني عثمان .. فكر ملياً في شأن هذه القصيدة لاحالها .. الى روايه ممتعة !! أما قصيدته «فراق» التي قالها وهو يطوف .. يودع أهله .. ليغترب وساقته قدماه .. إلى دار امرأة عجوز هدها المرض .. والفقر فارتمت على حصير فقال بعض ما قال: عرفتني حين اديت التحية حدقت صامتة بوجهتي واحالت طرفها التائه فيَّا ثم قالت أيها الولد المسافر لن تراني بعد هذا اليوم .. قطعاً لن تراني.. نفد العمر وولى هارباً عني زماني .. وتذكرت زمان «الحاجة ريا» كيف غنت .. بالزغاريد ومالت وتثنت كصبية وعروسي يدها بين يديها ويديَّا وتراقصنا سويا.. أهلا بك يا عثمان في بيوت الشعر..