إذا افترضنا أن هناك شخصاً اسمه حسنين، ويعمل في الجيش أو البوليس، أو كان طبيباً أو مهندساً في الطيران.. وحسنين هذا أصابته جلطة أدت الى دخوله المستشفى.. فإن الأهل والأصدقاء الذين يعاودونه سيقولون إنهم ذاهبون الى«الدكتور طبيب لواء مهندس حسنين».. وعندما يرجعون سيسألهم الآخرون عن تطور المرض مع «الدكتور اللواء مهندس طبيب حسنين»، وهكذا ستطير الأخبار ويتناقلها الناس وربما تكتبها الصحف قائلة «لزم السرير الأبيض الدكتور اللواء معاش طبيب مهندس حسنين».. ولكن لنفترض أن حسنين هذا توفي الى رحمة مولاه.. فإن اسمه سيختفي وألقابه بالضرورة ستختفي كذلك.. وسيقول الناس«الجنازة شالوها» والجنازة جابوها.. والجثمان وصل والجنازة «بردوها» والجنازة كفنوها والجثمان دفنوه.. ومن المؤكد أنهم لن يقولوا أن حسنين شالوهو أو حسنين بردوهو أو حسنين دفنوهو.. وبالطبع فإن المنطق يقول باختفاء الاسم «حسنين» وتختفي معه كل الألقاب الممنوحة أو المكتسبة. وقد حدثني أحد الأصدقاء، عن أنه لاحظ في إحدى المدن السودانية، أن بعض الذين توفوا الى رحمة مولاهم منذ عهد قديم يكاد يصل الى الحربين العالميتين الأولى والثانية، مكتوب على بعض أبواب منازلهم «يافطة» تقول بأن هذا هو منزل«الصاغ المرحوم فلان الفلاني» أو هذا منزل «القائمقام فلان» أو منزل البكباشي المرحوم علان.. وربما استطعنا أن نتفهم الدواعي والدوافع التي حفَّزت هؤلاء على كتابة الرتب العسكرية القديمة، مثل صاغ، وقائمقام، ويوزوباشي، وبكباشي، وهي رتب عسكرية جاء بها الأتراك والمصريون عندما كانوا يستعمرون البلاد لفترة طويلة، والتي استغلها الكثير من السودانيين لدخول الحرب معهم، ومن ثم كافأوهم بمنحهم هذه الألقاب. وهذا الصديق قال لي إنه ذات يوم كان مشاركاً في دفن جنازة عندما وقع بصره على أحد الشواهد أمام قبر من القبور، ومكتوب عليه بالخط العريض «هذا قبر فلان الفلاني المحامي والمستشار بديوان النائب العام».. وعلى قبر آخر مكتوب «هذا قبر الحاج فلان شيخ الحلة ومأذون القرية الفلانية».. وكما أسلفنا فإن الميت عندما يموت يكون قد انتفت عنه كل الألقاب والصفات التي كانت تُطلق عليه.. فإن كان ذات يوم عمدة أو إمام مسجد أو مدرس، فهو لم يعد الآن عمدة ولا شيخ ولا مدرس، بل في الحقيقة لم يعد موجوداً في الأصل حتى يُعطى هذه الألقاب المميزة. ولعل ما ذكرناه في حق ألقاب الموتى في المقابر، يجوز أن نذكره في حق من يجب أن تسقط عنهم ألقاب الوظائف بسبب الاستقالة أو الإقالة. مثلاً«الوالي» الذي تتم إقالته عن خدمة الولاية ويذهب الى داره لا يجوز أن يُطلق عليه لقب «سعادة الوالي». وكذلك الوزير.. وناظر المدرسة أو مدير المؤسسة الذي يُفصل عن العمل، لا يجب أن نطلق عليه لقب «سعادة المدير أو سيادة الوزير». على أن أكثر ما يسترعي الانتباه، هو الألقاب العسكرية التي تبدأ بالملازم مروراً برتبة الملازم أول، والنقيب والرائد والمقدم والعقيد والعميد واللواء. فعلى الرغم من أن حامل الرتبة العسكرية يكون قد دخل الخدمة المعاشية سواء بالاستقالة أم الإقالة، إلا أن مسمى الوظيفة يظل عالقاً بالشخصية ولا يفارقها أبداً.. ولا أدري السبب الذي يجعل شاغلي المناصب العسكرية في الدول العربية عموماً وفي السودان بصفة خاصة، يتمسكون بمسمى هذه الوظيفة؟!.. مثلاً «سعادة اللواء فلان» كان في يوم من الأيام لواء وهي وظيفة حكومية.. ولكنه ترك هذه الوظيفة وذهب في حال سبيله وتحوَّل الى رجل أعمال أو مدير شركة أو حتى سائق بص، لكنه يظل حاملاً لقب «سعادة اللواء». وقد ذكرنا في غير هذا المكان، شيئاً عن بعض دول شرق آسيا التي عندما تتم إقالة العسكريين فيها أياً كانت رتبهم، فإنه يتم إدخالهم في دورة تأهيلية وتدريبية ليكونوا جاهزين للدخول في الحياة المدنية وتوديع ونسيان الحياة العسكرية بألقابها وصولتها وصولجانها.. وتسقط عنهم تماماً كل الألقاب والرتب التي نالوها، ويتم إعداد احتفال خاص بنزع الألقاب والنياشين والدبابير. أما الألقاب العسكرية بعد المعاش أو الإقالة بالنسبة للرتب الصغيرة، مثل الصول (المساعد) والرقيب أول والرقيب والعريف والوكيل عريف والجندي (النفر)، فإنها تختفي طوعاً ولا تلازم أصحابها كثيراً، ربما لأنها أصلاً قليلة المردود والعائد بالنسبة لمن يحملها.. على أننا نلاحظ أن لقب «جنابو» قد يلتصق بكل أصحاب المهن العسكرية الصغيرة سواء أكانوا في الخدمة أو في المعاش.. وهنا أذكر الطُرفة التي يحكونها على أيام الرئيس نميري عندما كان الخبز والسكر يُباع على أساس الحصص التموينية.. وكانت الصفوف طويلة جداً خاصة في الرغيف والبنزين، فقد قيل إن أحد أصحاب المخابز سمع من الواقفين في الصف وهم ينادون واحداً منهم ويطلقون عليه لقب «جنابو» وقد اعتقد صاحب المخبز أن«جنابو» هذا يعمل في القطاع العسكري «إما بوليس أو أمن أو جيش»، ولهذا السبب فإنه لم يكن يدعه يقف مع الجمهور في الصف، بل يعطيه ما يطلب عند حضوره مباشرة ودون معاناة أو انتظار.. وتكرر الأمر كثيراً.. واحتج بعض الواقفين على هذه التفرقة «المهنية» واعتبروها انتقاصاً لحقوقهم.. واستغرب صاحب المخبز من احتجاج الجمهور وحاول أن يُفهمهم أن«الزول ده جنابو» ولكنهم أصروا على أنه «ما جنابو.. ولا حاجة».. وعندها قام صاحب المخبز بسؤال الرجل عن قصة «جنابو»، فردَّ عليه بقوله إن والدته كانت تتمنى أن تلد ولداً يعمل ضابطاً في الجيش أو البوليس أو الأمن، ولسوء حظه فقد اشتغل ميكانيكياً. ولكن والدته ظلت تصر وتلح وتطلق عليه لقب «جنابو».. وعندما سمع صاحب المخبز هذه الرواية، قام بطرد«جنابو».. من صف الرغيف وأمره بأن «يرجع ورا وأن يقف «آخر زول» .. وهو يكرر«قال جنابو قال»..!!