كم كان مشهداً بائساً ومروعاً، وكم كانت رواية محزنة وقاتلة تلك التي رواها أحد شهود العيان لمجزرة (بانتيو)، فالحرب لا دين لها، ولا أخلاق، ولا انسانية، ففي سبيل الاقتصاص والإنتقام تداس الحشائش تحت أقدام الفيلة، وتزهق أرواح بريئة لا ناقة لها ولا جمل في معارك بين خصمين متناحرين، يديران معركتهما بلا بصيرة، خاصة وإن كانت الأطراف المتشاكسة هي عصابات قبل أن تصبح جيوش نظامية، وأنا على يقين بأن الجيش الشعبي بشقيه لم يرتكب فظائع كالتي وقعت الآن في (بانتيو) عندما كان يقاتل دفاعاً عن قضية وشعب وهوية وحقوق، ولكنها السلطة تفسد أشد الرجال بأساً، وتجعلهم فريسة سهلة لملذاتها وسلطانها وبهائها الزائف. لا أدري كيف سمح رجل كرياك مشار، معروف بالحكمة والإتزان والدهاء السياسي، رجل يعرف من أين تؤكل الكتف، لم يخسر معركة سياسية واحدة في حياته، منذ اتفاق الناصر وحتى نيفاشا، ظل محتفظاً بعلاقة طيبة مع الخرطوم عندما كان حزبه يناصبها العداء حتى اتهم بأنه يعمل لصالح الشمال، لا أدري كيف سمح لهذا الخطأ القاتل أن يقع، وأن تفلت الأمور من يده ويد قادة جيشه. فمسألة اقحام تجار عزل بغض النظر عن عرقهم ودينهم، وناهيك عن كونهم شماليين يحتمون بمسجد، مسألة اقحامهم في حرب لا علاقة لهم بها يعد نذراً خطيراً لما سيحدث لاحقاً، مما يعني بأن كل الشماليين المتواجدين في رقاع جنوب السودان الجغرافية هم في خطر وعلى مرمى نيران التصفيات السياسية، وأعزي ما حدث في بانتيو إلى التقارب الكبير الذي حدث مؤخراً بين الخرطوم وجوبا في كثير من الملفات وأدى إلى حسم بعضاً من القضايا العالقة، مما أوحي للأطراف الأخرى بأن الخرطوم الآن هي سند مباشر أو غير مباشر لمجموعة سلفاكير، ونتج عن ذلك أن تسقط مجموعة رياك مشار جام غضبها على الخرطوم عبر هؤلاء العزل الآمنين. كل ماحدث هو وارد في الحرب، فمسألة السيطرة المحكمة على قوات ك(الجيش الابيض) مثلا والتي تعد مليشية غير منظمة تتبع لقبيلة ربما تشهد صعوبة، بحيث تسيطر عقلية القبيلة ، ولكن المحزن والمحنق في ذات الوقت هو موقف الحكومة السودانية تجاه رعاياها في الخارج، فالجاليات السودانية هي أكثر الجاليات تهميشاً، واحط قدراً بالنسبة لسفاراتها وحكوماتها.