بلاغ جديد، وقصة أخرى، ومأساة تتفجر في قلب أسرة، «أم» في المستشفى، هي بين الحياة والموت، ووالد أعياه البحث، وأشقاء يتململون وجعاً، عائلة بأكملها حزينة، والمدينة تبدو - في نظراتهم لها - لصاً سرق أحد أفراد العائلة، جرح قد لا يندمل، وفقد يهز الوجدان .. الكل أقرب إلى التكذيب منه إلى التصديق بالواقعة غير الممكنة أو المصدقة. وعندما تسأل يقال لك:(فلان راح) .. أو (هذا «الفلان» الصغير، السليم العقل، الذي لا يعاني من أي خلل أو ضغط ما لقوهو)، وتعاود السؤال:(كيف يعني ما لقوهو؟)، تأتيك الإجابة بحيرة وحزم:(كده ده .. كان بلعب جمب خشم الباب)، أو (رسلوه الدكان)، أو (مشي الجامعة «المدرسة»، وما جاء راجع) .. وتعدد الشخصيات والتفاصيل، والفقد ثابت، فما هي القضية؟. أقرب إلى الخيال «حسام»، ابن العشرين عاماً، غادر صالة مطار الخرطوم في طريقه إلى منزل جده بالسامراب، كما قال في اتصاله الأخير، وهو قادم من السعودية، بعد أن قضى إجازته السنوية هناك، وهو طالب بجامعة سنار «شهادة عربية»، ثم أَقْفَلَ أو أُقْفِلَ هاتفه، وما عاد من حيث كان، ولا وصل حيث يجب، وأسرته تباشر إجراءاتها، لكن الشرطة تخبرهم بأن اختفاء ابنهم لغز محير. ثم «أم» تخرج إلى النزهة في رحلة نيلية، وطفلتها - ذات الأعوام الثلاثة - تمسكها، ينتصف النهار، والعوامة النيلية في قلب النيل، والناس الذين بصبحتهم المرأة وابنتها «بالعدد» وليسو بكثر. تلتفت الأم، فلا تجد ابنتها، وتبحث بهدوء وهي تنادي ابنتها «بانة.. بانة» .. فلا خوف عليها، لأن سور المركب أعلى من أن تتسلقها «البنوتة الصغيرة»، ولا غريب، ولا يمكن أن تذهب بعيداً، فحدود المكان تمنعها من الابتعاد، ثم يبدأ القلق عندما تجتهد ولا تجدها، ويبدأ الكل في البحث، ولا أثر، ويمتد ذلك الفقد حتى يومنا هذا، و«بانة» تكاد تقتسم عمرها في الاختفاء، فهي منذ ولوجها إلى عالم المجهول أكملت العامين. ثم طفل آخر .. وشابة أخرى، كلهم ينتمون إلى فئة «غضة»، ويمثلون كيان يقع في منتصف المجتمع، وتتعدد الحكايات، وتختلف الروايات والألوان والسحنات، لكن الخاتمة واحدة، فقد، وفقد، ولا أثر. إنه الواقع الصحفي المتخصص في قسم الجريمة والحوادث - والذي تنقل بين عدة صحف، تابع وعاش هذه الحكايات - نعمان غزالي يقول: إنها أصبحت من الجرائم العادية في صفحات الصحف، ولا تمر أيام دون أن يصلني خبر مفاده الاختفاء أو الاختطاف أو الهرب، ونادراً ما يعود المختفي إلى أهله، أو تجده الشرطة «انتهى». ولكن القضية تستعصى، ليس على جهاتنا الأمنية فقط، بل حتى على الخيال، فلا خيط، ولا دليل يمكن أن نمسك به أو نتتبعه لنصل، لكننا شرعنا السؤال في هذه المساحة الصغيرة، لنجيب قريباً عنه في ورقة أكبر. ولذلك الحين يبقي السؤال الأصعب: هل نحن في حاجة إلى «شرلوك هولمز» ليحل لغز الاختفاء؟.